كتاب : عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
ص -216-
عليه شمله ولم يأته منها إلا ما كتب له وعرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا
فقال لا يارب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت اليك وذكرتك واذا شبعت
حمدتك وشكرتك وأعلمهم أن من أصبح منهم آمنا فى سربه معافى فى جسده عنده قوت يومه
فكأنما حيزت له الدنيا
وأخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خير له وإمساكه شر
له وأنه لا يلام على الكفاف ونهى أمته أن ينظر أحدهم الى من هو فوقه فى الدنيا
وأمره أن ينظر الى من هو دونه فى الدنيا وأخبر أنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء
وفتنة وضر مثلها مثل ما يخرج من ابن آدم عند خلائه وان كان أوله طيبا لذيذا فهذا آخره
وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فإن أمامهم دار النعيم فهم لا يرضون
بنعيمهم فى الدنيا عوضا من ذلك النعيم
وأخبر أن نجاة أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلكة آخرها
بالبخل وطول الأمل وكان يقول لبيك لا عيش الا عيش الآخرة وأخبر أنه تعالى اذا أحب
عبدا حماه الدنيا كما يحمى الانسان مريضه من الطعام والشراب ودخل على عثمان ابن مظعون
وهو فى الموت فاكب عليه يقبله ويقول رحمك الله يا عثمان ما أصبت من الدنيا ولا
أصابت منك فغبطه بذلك وكان يقول الزهد فى الدنيا يريح القلب والبدن والرغبة فى
الدنيا تطيل الهموم والحزن وكان يقول من جعل الهموم كلها هما واحدا كفاه الله سائر
همومه ومن تشعبت به الهموم فى أحوال الدنيا لم يبال الله فى أى أوديتها هلك
وأخبر أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان فى الدنيا
فيقول الله عز وجل اصبغوه فى النار صبغة ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل أصبت
نعيما قط هل رأيت قرة عين قط هل أصبت سرورا قط فيقول لا وعزتك ثم يقول ردوه الى
النار ثم يؤتى بأشد الناس كان بلاء فى الدنيا
ص -217-
وأجهده جهدا فيقول تبارك وتعالى اصبغوه فى الجنة صبغة فيصبغ فيها ثم يؤتى به فيقول
يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط فيقول لا وعزتك ما رأيت شيئا قط اكرهه
وفى حديث مناجاة موسى الذى رواه الامام أحمد فى كتاب الزهد
حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم بن معقل حدثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهب ابن
منبه فذكره وفيه ولا تعجبكما زينته ولا ما متع به ولا تمدان الى ذلك أعينكما فإنها
زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين وانى لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم
فرعون حين ينظر اليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكنى أرغب بكما عن
نعيمها ذلك وازويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائى وقديما ما خرت لهم فى ذلك فإنى
لاذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعى الشفيق غنمه عن مراعى الهلكة وانى
لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعى الشفيق ابله عن مبارك الغرة وما ذلك
لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم
يطغه الهوى
واعلم انه لم يتزين لى العباد بزينة هى أبلغ من الزهد فى
الدنيا فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع سماهم فى
وجههم من أثر السجود أولئك أوليائى حقا فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك
ولسانك وذكر الحديث
وقال أحمد حدثنا عون بن جابر قال سمعت محمد بن داود عن
أبيه عن وهب قال قال الحواريون يا عيسى من أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم
يحزنون قال الذين نظروا الى باطن الدنيا حين نظر الناس الى عاجلها فأماتوا منها ما
يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم
إياها فواتا وفرحهم
ص -218-
بما اصابوا منها حزنا فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق
وضعوه خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت فى
صدورهم فليسوا يحيونها يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى
لهم رفضوها فكانوا بها هم الفرحين ونظروا الى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات
فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره
ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب
وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه عملوا ليسوا يرون نائلا مع ما نالوا ولا أمانا دون
ما يرجون ولا خوفا دون ما يحذرون
وحدثنا روح حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال قيل
لعيسى بن مريم يا رسول الله لو اتخذت حمارا تركبه لحاجتك قال أنا أكرم على الله من
أن يجعل لى شيئا يشغلنى به وقال اجعلوا كنوزكم فى السماء فإن قلب المرء عند كنزه وقال
اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز وقال يا بنى اسرائيل اجعلوا بيوتكم
كمنازل الأضياف فما لكم فى العالم من منزل ان أنتم إلا عابرى سبيل وقال يا معشر
الحواريين ايكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا قالوا ياروح الله من يقدر على
ذلك قال اياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا وقال أكل الخبز البر وشرب ماء عذب ونوم
على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس
قال أحمد وحدثنا بهز عن الاعمش عن خيثمة قال قال المسيح
بشدة ما يدخل الغنى الجنة وقال المسيح حلاوة الدنيا مرارة الاخرة ومرارة الدنيا
حلاوة الاخرة وقال يا بنى اسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم وأهينوا الدنيا تكرم
عليكم الاخرة ولا تكرموا الدنيا تهن عليكم
ص -219-
الاخرة فإن الدنيا ليست بأهل الكرامة وكل يوم تدعو الى الفتنة والخسارة
وقال اسحق بن هانئ فى مسائلة قال أبو عبد الله وأنا أخرج
من داره قال الحسن أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون حين تهان وقال الحسن والله
ما أبالى شرقت أم غربت قال وقال لى أبو عبد الله يا اسحق ما أهون الدنيا على الله
عز وجل وقال الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى
قالوا وقد تواتر عن السلف أن حب الدنيا رأس الخطايا
وأصلها وقد روى فيه حديث مرفوع لا يثبت ولكنه يروى عن المسيح قال عبد الله بن احمد
حدثنا عبيد الله بن عمر القواريرى حدثنا معاذ بن هشام حدثنى ابى عن بديل بن ميسرة
قال حدثنى جعفر بن خرفاش أن عيسى بن مريم عليه السلام قال رأس الخطيئة حب الدنيا
والنساء حبالة الشيطان والخمر جماع كل شر
وقال الامام أحمد حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفرى عن
سفيان قال كان عيسى بن مريم يقول حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كثير
قالوا وما داؤه قال لا يسلم من الفخر والخيلاء قالوا فان سلم قال يشغله اصلاحه عن
ذكر الله عزوجل قالوا وذلك معلوم بالتجربة والمشاهدة فان حبها يدعو الى خطيئة ظاهرة
وباطنة ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها فيسكر عاشقها حبها عن علمه بتلك
الخطيئة وقبحها وعن كراهتها واجتنابها وحبها يوقع فى الشبهات ثم فى المكروهات ثم
فى المحرمات وطالما أوقع فى الكفر بل جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم انما حملهم على
كفرهم وهلاكهم حب الدنيا فان الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصى التى كانوا يكسبون
بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم فكل خطيئة فى العالم أصلها حب الدنيا
ولا تنس خطيئة الأبوين قديما فإنما كان سببها حب الخلود فى الدنيا ولا تنس ذنب
ابليس وسببه حب الرياسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وبسببها كفر
ص -220-
فرعون وهامان وجنودهما وأبو جهل وقومه واليهود فحب الدنيا والرياسة هو الذى عمر
النار بأهلها والزهد فى الدنيا والرياسة هو الذى عمر الجنة بأهلها والسكر بحب
الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير وصاحب هذا السكر لا يفيق منه الا فى ظلمة
اللحد ولو انكشف عنه غطاؤه فى الدنيا لعلم ما كان فيه من السكر وانه اشد من سكر
الخمر والدنيا تسحر العقول أعظم سحر
قال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا جعفر قال سمعت مالك بن
دينار يقول اتقوا السحارة اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء
وقال يحيى بن معاذ الرازى الدنيا خمر الشيطان من سكر منها
فلا يفيق إلا فى عسكر الموتى نادما بين الخاسرين وأقل ما فى حبها أنه يلهى عن حب
الله وذكره ومن الهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين وإذا لها القلب عن ذكر الله
سكنه الشيطان وصرفه حيث اراد ومن فقهه فى الشر أنه يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه
أنه يفعل فيها الخير وقد تعبد لها قلبه فأين يقع ما يفعله من البر مع تعبده لها
وقد لعنه رسول الله ودعا عليه فقال لعن عبد الدينار والدرهم وقال تعس عبد الدينار
تعس عبد الدرهم ان أعطى رضى وإن منع سخط وهذا تفسير منه وبيان لعبوديتها وقد عرضت
الدنيا على النبى بحذافيرها وتعرضت له فدفع فى صدرها باليدين وردها على عقبيها ثم
عرضت بعده على أصحابه وتعرضت لهم فمنهم من سلك سبيله ودفعها عنه وهم القليل ومنهم
من استعرضها وقال ما فيك قالت فى الحلال والشبهة والمكروه والحرام فقالوا هاتى
حلالك ولا حاجة لنا فيما عداه فأخذوا حلالها ثم تعرضت لمن بعدهم فطلبوا حلالها فلم
يجدوه فطلبوا مكروهها وشبهها فقالت قد أخذه من قبلكم فقالوا هاتى حرامك فأخذوه
فطلبه من بعدهم فقالت هو فى أيدى الظلمة قد استأثروا به عليكم فتحيلوا على تحصيله
منهم بالرغبة والرهبة فلا يمد فاجر يده الى شئ من الحرام إلا وجد أفجر منه وأقوى
ص -221-
قد سبقه اليه هذا وكلهم ضيوف وما بأيديهم عارية كما قال ابن مسعود رضى الله عنه ما
أصبح أحد فى الدنيا إلا ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤادة
قالوا وانما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من
وجوه أحدها أن حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما
حقر الله وثانيها أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها ومن أحب ما
لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه وثالثها انه اذا أحبها صيرها
غايته وتوسل اليها بالأعمال التى جعلها الله وسائل اليه والى الدار الآخرة فعكس
الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره الى وراء فها هنا أمران أحدهما جعل
الوسيلة غاية والثانى التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا وهذا شر معكوس من كل وجه
وقلب منكوس غاية الانتكاس وهذا هو الذى انطبق عليه حذو القذة بالقذة قوله تعالى
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة
نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب فهذه
ثلاث آيات يشبه بعضها بعضا وتدل على معنى واحد وهو أن من أراد بعمله الدنيا
وزينتها دون الله والدار الآخرة فحظه ما اراد وهو نصيبه ليس له نصيب غيره
والاحاديث عن رسول الله مطابقة لذلك مفسرة له كحديث أبى
هريرة رضى الله عنه فى الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: "الغازى
والمتصدق والقارئ الذين أرادوا بذلك الدنيا والنصيب"
وهو فى
صحيح مسلم.
ص -222- وفى سنن النسائى عن أبى أمامة رضى الله عنه قال:
"جاء رجل الى النبى فقال يا رسول الله رجل غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال
رسول الله لا شئ له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله لا شئ له ثم قال إن الله تعالى
لا يقبل إلا ما كان خالصا" وابتغى به وجهه فهذا قد بطل أجره وحبط عمله مع أنه
قصد حصول الأجر لما ضم اليه قصد الذكر بين الناس فلم يخلص عمله لله فبطل كله
وفى مسند الامام أحمد عن أبى هريرة أن رجلا قال:
"يارسول الله الرجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال له
رسول الله لا أجر له فأعظم الناس ذلك وقالوا للرجل عد لرسول الله لعله لم يفهم
فعاد فقال يا رسول الله الرجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا فقال
رسول الله لا أجر له ثم أعاد الثالثة فقال رسول الله لا أجر له".
وفى المسند ايضا وسنن النسائى عن عبادة بن الصامت رضى
الله عنه قال ان رسول الله قال: "من غزا فى سبيل الله عزوجل وهو لا ينوى فى
غزاته إلا عقالا فله ما نوى".
وفى المسند والسنن عن يعلى بن منبه قال: "كان رسول
الله يبعثنى فى سرايا فبعثنى ذات يوم فى سرية وكان رجلا يركب بغلا فقلت له ارحل
فإن النبى قد بعثنى فى سرية فقال ما أنا بخارج معك حتى تجعل لى ثلاثة دنانير ففعلت
فلما رجعت من غزاتى ذكرت ذلك لرسول الله فقال النبى ليس له من غزاته هذه ومن دنياه
وآخرته الا ثلاثة دنانير".
وفى سنن أبى داود أن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال:
"يا رسول الله أخبرنى عن الجهاد والغزو فقال يا عبد الله بن عمر ان قاتلت
صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وان قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا
مكاثرا يا عبد الله بن عمر على أى حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال".
ص -223-
وفى المسند والسنن عن ابى ايوب رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: "انها
ستفتح عليكم الامصار وتضربون فيها بعوثا فيكره الرجل منكم البعث فيخلص من قومه
ويعرض نفسه على القبائل يقول من أكفيه بعث كذا وكذا إلا وذلك الأجير الى آخر قطرة
من دمه" فانظر محبة الدنيا ماذا حرمت هذا المجاهد من المجاهدين من الأجر
وأفسدت عليه عمله وجعلته أول الداخلين إلى النار
فصل: ورابعها أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما
يعود عليه نفعه فى الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه والناس ها هنا مراتب فمنهم من
يشغله محبوبه عن الايمان وشرائعه ومنهم من يشغله عن الواجبات التى تجب عليه لله
ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات ومنهم
من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وان قام بغيره ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب
فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى فيفرط فى وقته وفى حقوقه ومنهم من يشغله
عن عبودية قلبه فى الواجب وتفريغه لله عند أدائه فيؤديه ظاهر الا باطنا وأين هذا
من عشاق الدنيا ومحبيها هذا من أندرهم وأقل درجات حبها ان يشغل عن سعادة العبد وهو
تفريغ القلب لحب الله ولسانه لذكره وجمع قلبه على لسانه وجمع لسانه وقلبه على ربه
فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة ولا بد كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا وفى هذا الحديث
قد روى مرفوعا من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته اضر بدنياه فآثروا ما يبقى على
ما يفنى
فصل: وخامسها أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد وقد روى الترمذى
من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "من كانت الآخرة أكبر
همه جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت الدنيا أكبر
همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
ص -224-
فصل: وسادسها أن محبها أشد الناس عذابا بها وهو معذب فى دوره الثلاث يعذب فى
الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها
وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجوا اجتماعه به ابدا ولم يحصل له هناك
محبوب يعوضه عنه فهذا اشد الناس عذابا فى قبره يعمل الهم والغم والحزن والحسرة فى
روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه كما قال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن
عبد الكريم حدثنا عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أن حزقبل كان فيمن سبى بختنصر فذكر
عنه حديثا طويلا وفى آخره قال فبينا أنا نائم على شط الفرات إذ أتانى ملك فاخذ
براسى فاحتملنى حتى وضعنى بقاع من الأرض قد كانت معركة قال واذا فيه عشرة آلاف
قتيل قد بددت الطير والسباع لحومهم وفرقت أوصالهم قال لى إن قوما يزعمون أن من مات
منهم أو قتل فقد انفلت منى وذهبت عنه قدرتى فادعهم قال حزقبل فدعوتهم فإذا كل عظم
قد أقبل الى مفصله الذى انقطع منه ما الرجل بصاحبه بأعرف من العظم بمفصله الذى
فارق حتى أم بعضها بعظائم نبت عليها اللحم ثم نبتت عليها العروق ثم انبسطت الجلود
وأنا أنظر الى ذلك ثم قال ادع أرواحهم قال فدعوتها فاذا كل روح قد أقبل الى جسده
الذى فارق فلما جلسوا سألتهم فيم كنتم قالوا إنا لما متنا وفارقنا الحياة لقينا
ملك فقال هلموا أعمالكم وخذوا أجوركم كذلك سنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو كائن
بعدكم قال فنظر فى أعمالنا فوجدنا نعبد الأوثان فسلط الدود على أجسادنا وجعلت
الأرواح تألمه وسلط الغم على أرواحنا وجعلت أجسادنا تألمه فلم نزل كذلك نعذب حتى
دعوتنا ولا يستريح عاشق الدنيا فقولهم كنا نعبد الأوثان فسيان عبادة الاثمان
وعبادة الأوثان تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم
والمقصود أن محب الدنيا يعذب فى قبره ويعذب يوم لقاء ربه
قال تعالى {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي
ص -225- الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ
وَهُمْ كَافِرُونَ} قال بعض السلف يعذبهم بجمعها وتزهق أنفسهم بحبها وهم كافرون بمنع
حق الله فيها
فصل: وسابعها أن عاشقها ومحبها الذى يؤثرها على الآخرة
من أسفه الخلق وأقلهم عقلا اذ آثر الخيال على الحقيقة والمنام على اليقظة والظل
الزائل على النعيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية وباع حياة الأبد فى ارغد
عيش بحياة انما هى أحلام نوم أو كظل زائل ان اللبيب بمثلها لا يخدع كما نزل أعرابى
بقوم فقدموا له طعاما فأكل ثم قام الى ظل خيمة فنام فاقتلعوا الخيمة فاصابته
فانتبه وهو يقول:
وان امرؤ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور
وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ان اغترارا بظل زائل حمق
قال يونس بن عبد الأعلى ما شبهت الدنيا الا كرجل نام
فرأى فى منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك انتبه وقال ابن أبى الدنيا حدثنى
أبو على الطائى حدثنا عبد الرحمن البخارى عن ليث قال رأى عيسى بن مريم الدنيا فى صورة
عجوز عليها من كل زينة فقال كم تزوجتى قالت لا أحصيهم قال فكلهم مات عنك أو كلهم
طلقك قالت بل كلهم قتلته فقال عيسى بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك
الماضين تهلكينهم واحدا واحدا ولا يكونوا منك على حذر
أرى اشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع
اراها وان كانت تحب فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة وهو فى
تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فلا تلحقه وأشبه الأشياء بها السراب يحسبه الظمآن ماء
حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وأشبه الأشياء
بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره فإذا
ص -226-
استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له وأشبه الأشياء بها عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر
غدارة بالأزواج تزينت للخطاب بكل زينة وسترت كل قبيح فاغتر بها من لم يجاوز بصره
ظاهرها فطلب النكاح فقالت لا مهر إلا نقد الآخرة فإننا ضرتان واجتماعنا غير مأذون
فيه ولا مستباح فآثر الخطاب العاجلة وقالوا ما على من واصل حبيبته من جناح فلما
كشف قناعها وحل إزارها إذا كل آفة وبلية فمنهم من طلق واستراح ومنهم من اختار
المقام فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصياح
تالله لقد اذن مؤذنها على رءوس الخلائق يحي على غير
الفلاح فقام المجتهدون والمسلمون لها فواصلوا فى طلبها الغدو بالرواح وسروا ليلهم
فلم يحمد القوم السرى عند الصباح طاروا فى صيدها فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور
الجناح فوقعوا فى شبكتها فأسلمتهم للذباح
قال ابن أبى الدنيا حدثنا محمد بن على بن شقيق حدثنا
ابراهيم بن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض قال قال ابن عباس رضى الله عنهما يؤتى
بالدنيا يوم القيامة فى صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوه خلقها فتشرف على
الخلائق فيقال أتعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التى
تشاجرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم يقذف بها فى
جهنم فتنادى يا رب أين أتباعى وأشياعى فيقول الله عزوجل ألحقوا بها أتباعها
وأشياعها
قال ابن أبى الدنيا وحدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن
عبادة حدثنا عوف عن أبى العلاء قال رأيت فى النوم عجوزا كبيرة عليها من كل زينة
الدنيا والناس عكوف عليها متعجبون ينظرون اليها فجئت فنظرت فتعجبت من نظرهم اليها وإقبالهم
عليها فقلت لها ويلك من أنت قالت أما تعرفنى قلت لا قالت أنا الدنيا قال قلت أعوذ
بالله من شرك قالت فان أحببت أن تعاذ من شرى فابغض الدرهم.
ص -227-
قال ابن أبي الدنيا وحدثنى ابراهيم بن سعيد الجوهرى حدثنا سفيان بن عيينة قال قال
لى أبو بكر بن عياش رأيت الدنيا فى النوم عجوزا مشوها شمطاء تصفق بيديها وخلفها
خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائى أقبلت على فقالت لو ظفرت بك صنعت
بك ما صنعت بهؤلاء ثم بكى أبو بكر قال وحدثنا محمد بن على حدثنا ابراهيم بن الاشعث
قال سمعت الفضيل قال بلغنى أن رجلا عرج بروحه قال فاذا امرأة على قارعة الطريق
عليها من كل زينة الحلى والثياب واذا هى لا يمر بها أحد إلا جرحته وإذا هى أدبرت
كانت أحسن شيء رآه الناس واذا أقبلت أقبح شئ عجوز شمطاء زرقاء عمشاء فقلت أعوذ بالله
قالت لا والله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم قال قلت من أنت قالت أنا الدنيا
ووصف على رضى الله عنه الدنيا فقال دار من صح فيها هرم
ومن سقم فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن فى حلالها الحساب وفى
حرامها النار وقال ابن مسعود رضى الله عنه الدنيا دارت من لا دار له ومال من لا مال
له ولها يجمع من لا عقل له
وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن كتب الى عمر بن عبد العزيز
أما بعد فان الدنيا دار ظعن ليست بدار اقامة وانما أنزل آدم اليها عقوبة فاحذرها
يا أمير المؤمنين فان الزاد منها تركها والغناء فيها فقرها لها فى كل حال قتيل تذل
من أعزها وتفقر من جمعها هى كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه فكن فيها كمداو
جرحاته يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء
فاحذر هذه الدار الغرارة الخيالة الخداعة التى قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها
وخيلت بآمالها وشوقت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون اليها ناظرة والقلوب
عليها والهه والنفوس لها عاشقة وهى لأزواجها كلهم قاتله فلا الباقى بالماضى معتبر
ولا الآخر بالاول مزدجر والعارف بالله حين أخبره عنها مذكر
ص -228-
فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت عنها
قدمه فعظمت ندامته وكبرت حسرته واجتمع عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت ونغصه
فذهب منها فى كمد ولم يدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم
على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين وأسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن
صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار فيها غذاء ضار وقد
وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها الى فناء فسرورها مشوب بالحزن ما يرجع
منها ما ولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها
كدر وعيشها نكد فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد
أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ فما
لها عند الله عزوجل قدر ولا وزن وما نظر اليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا
بمفاتيحها وخزائنها لا تنقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها وكره أن يحب ما
ابغض الله خالقه أو يرفع ماوضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لأعدائه
اغترارا فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله بمحمد حين
شد الحجر على بطنه
وقال الحسن أيضا ابن آدم لا تعلق قلبك فى الدنيا فتعلقه
بشر معلق اقطع حبالها وغلق أبوابها حسبك يا أبن آدم منها ما يبلغك المحل وكان يقول
إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنا ما تكون إذا أهنتموها
هيهات هيهات ذهبت الدنيا وبقيت الأعمال قلائد فى الاعناق
وقال المسيح عليه السلام لا تتخذوا الدنيا ربا فتخذكم
عبيدا واعبروها ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ورب شهوة أورثت
أهلها حزنا طويلا ما سكنت الدنيا فى قلب عبد إلا التاط
ص -229-
قلبه منها بثلاثة شغل لا ينفك عناؤه وفقر لا يدرك غناؤه وأمل لا يدرك منتهاه
الدنيا طالبه مطلوبه فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا
تطلبه الاخرة حتى يجئ الموت فيأخذ بعنقه يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع
سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا
وقال ابن ابى الدنيا حدثنا هرون بن عبد الله حدثنا سيار
حدثنا جعفر حدثنا مالك ابن دينار قال قال ابو هريرة رضى الله عنه الدنيا موقوفه
بين السماء والارض منذ خلقها الله تعالى الى يوم يفنيها تنادى ربها يا رب لم
تبغضنى فيقول اسكتى يا لا شئ اسكتى يا لا شئ وقال الفضيل تجئ الدنيا يوم القيامة فتتبختر
فى زينتها ونضرتها فتقول يا رب اجعلنى لأحسن عبادك دارا فيقول لا أرضاك له أنت لا
شئ فكونى هباء منثورا
فصل: فى ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا
المثال الاول: للعبد ثلاثة أحوال حالة لم يكن فيها شيئا
وهى ما قبل أن يوجد وحالة أخرى وهى من ساعة موته الى مالا نهايه له فى البقاء
السرمدى فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن إما فى الجنة واما فى النار ثم تعاد الى بدنه
فيجازى بعمله ويسكن احدى الدارين فى خلود دائم ثم بين هاتين الحالتين وهى ما بعد
وجوده وما قبل موته حالة متوسطه وهى أيام حياته فلينظر الى مقدار زمانها وأنسبه
الى الحالتين يعلم أنه أقل من طرفة عين فى مقدار عمر الدنيا ومن رأى الدنيا بهذه
العين لم يركن اليها ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فى ضر وضيق أو فى سعه ورفاهية
ولهذا لم يضع رسول الله لبنه على لبنه ولا قصبه على قصبه وقال: "مالى وللدنيا
انما مثلى ومثل الدنيا الا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها" وقال:
"ما الدنيا فى الآخرة الا كما يجعل أحدكم اصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع"
والى هذا أشار المسيح عليه السلام بقوله: "الدنيا
ص -230-
قنطرة فاعبروها ولا تعمروها" وهذا مثل صحيح فإن الحياة معبر الى الاخرة
والمهد هو الركن الاول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثانى على آخرها ومن
الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له الا خطوة واحدة
وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد من العبور فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها
بأصناف الزينة وهو يستحث العبور فهو فى غاية الجهل والحمق
فصل: المثال الثانى شهوات الدنيا فى القلب كشهوات
الاطعمه فى المعدة وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا فى قلبه من الكراهه
والنتن والقبح ما يجده للأطعمه اللذيذة إذا انتهت فى المعدة غايتها وكما أن
الأطعمة كلما كانت ألذ طعما وأكثر دسما وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر فكذلك كل شهوة
كانت فى النفس ألذ واقوى فالتأذى بها عند الموت أشد كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه
إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب
وفى المسند أن النبى قال للضحاك بن سفيان: "ألست
تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه الماء واللبن قال بلى قال فإلى م يصير قال
إلى ما قد علمت قال فإن الله عزوجل ضرب مثل الدنيا لما يصير اليه طعام ابن
آدم" كان بعض السلف يقول لأصحابه انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم الى
مزبلة فيقول انظروا الى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم
المثال الثالث: لها ولأهلها فى اشتغالهم بنعيمها عن
الآخرة وما يعقبهم من الحسرات مثل أهلها فى غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم
الى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الابطاء وخوفهم مرور السفينة
فتفرقوا فى نواحى الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر الى السفينة فصادف المكان خاليا
فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده ووقف بعضهم فى الجزيرة ينظر الى أزهارها
وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها ويعجبه حسن أحجارها ثم حدثته نفسه بفوت
ص -231-
السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا فجلس فيه وأكب بعضهم
على تلك الحجارة المستحسنة والأزهار الفائقة فحمل منها حمله فلما جاء لم يجد فى
السفينة الا مكانا ضعيفا وزاده حمله ضيقا فصار محموله ثقلا عليه ووبالا ولم يقدر
على نبذه بل لم يجد من حمله بدا ولم يجد له فى السفينة موضعا فحمله على عتقه وندم
على أخذه فلم تنفعه الندامة ثم ذبلت الأزهار وتغيرت اراييجها وآذاه نتنها وتولج
بعضهم فى تلك الغياض ونسى السفينة وأبعد فى نزهته حتى أن الملاح نادى بالناس عند
دفع السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه فهو تارة يتناول من الثمر وتارة يشم
تلك الانوار وتارة يعجب من حسن الأشجار وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه غير
منفك من شوك يتشبث فى ثيابه ويدخل فى قدميه أو غصن يجرح بدنه أو عوسج يخرق ثيابه
ويهتك عورته أو صوت هائل يفزعه ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبق فيها موضع فمات
على الساحل ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيات ومنهم من تاه فهام
على وجهه حتى هلك فهذا مثال أهل الدنيا فى اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم
موردهم وعاقبة أمرهم وما أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هشيما قد شغل باله
وعوقه عن نجاته ولم يصحبه
المثال الرابع: لاغترار الناس بالدينا وضعف ايمانهم
بالآخرة قال ابن أبى الدنيا حدثنا اسحق بن اسماعيل حدثنا روح بن عباده حدثنا هشام
بن حسان عن الحسن قال بلغنى أن رسول الله قال لاصحابه انما مثلى ومثلكم ومثل
الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى اذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقى
أنفدوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهرانى المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا
بالهلكة فبينما هم كذلك اذ خرج عليهم رجل فى حلة يقطن رأسه فقالوا ان هذا قريب عهد
بريف وما جاءكم هذا الامن قريب فلما انتهى اليهم قال يا هؤلاء علام أنتم قالوا على
ص -232-
ما ترى قال أرأيتم ان هديتكم على ماء رواه ورياض خضر ما تجعلون لى قالوا لا نعصيك
شيئا قال عهودكم ومواثيقكم بالله قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يحصونه
شيئا قال فأوردهم ماء ورياضا خضراء قال فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء
الرحيل قالوا الى أين قال الى ماء ليس كمائكم ورياض ليست كرياضكم قال فقال جل
القوم وهم أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش هو خير من
هذا قال وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا
تعصونه شيئا وقد صدقكم فى أول حديثه فو الله ليصدقنكم فى آخره فراح بمن اتبعه وتخلف
بقيتهم فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل
المثال الخامس: للدنيا وأهلها ما مثلها به النبى كظل
شجرة والمرء مسافر فيها الى الله فاستظل فى ظل تلك الشجرة فى يوم صائف ثم راح
وتركها فتأمل حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء فانها فى خضرتها كشجرة وفى سرعة
انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظل والعبد مسافرا الى ربه والمسافر اذا رأى شجرة فى
يوم صائف لا يحسن به أن يبنى تحتها دارا ولا يتخذها قرارا بل يستظل بها بقدر
الحاجة ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق
المثال السادس: تمثيله لها بمدخل أصبعه فى اليم فالذى
يرجع به أصبعه من البحر هو مثل الدنيا بالنسبة الى الآخرة وهذا أيضا من أحسن
الامثال فإن الدنيا منقطعة فانية ولو كانت مدتها أكثر مما هى والاخرة أبدية لا
انقطاع لها ولا نسبة للمحصور الى غير المحصور بل لو فرض أن السموات والارض مملوءتان
خردلا وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة لفنى الخردل والاخرة لا تفنى فنسبة الدنيا
الى الآخرة فى التمثيل كنسبة خردلة واحدة الى ذلك الخردل ولهذا لو أن البحر يمده
من بعده سبعة أبحر وأشجار الارض كلها أقلام يكتب بها كلام الله لنفذت الابحر
ص -233-
والاقلام ولم تنفد كلمات الله لأنها لا بداية لها ولا نهايه لها والابحر والاقلام
متناهيه
قال الإمام أحمد وغيره لم يزل الله متكلما إذا شاء
وكماله المقدس مقتض لكلامه وكماله من لوازم ذاته فلا يكون الا كاملا والمتكلم أكمل
ممن لا يتكلم وهو سبحانه لم يلحقه كلل ولا تعب ولا سآمه من الكلام وهو يخلق ويدبر خلقه
بكلماته فكلماته هى التى أوجد بها خلقه وأمره وذلك حقيقة ملكه وربوبيته وإلهيته
وهو لا يكون الا ربا ملكا إلها لا إله الا هو والمقصود أن الدنيا نفس من أنفاس
الآخرة وساعة من ساعاتها
المثال السابع: ما مثلها به فى الحديث المتفق على صحته
من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: "قام رسول الله فخطب الناس فقال
لا والله ما أخشى عليكم الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول
الله أو يأتى الخير بالشر فصمت رسول الله ثم قال كيف قلت قال يا رسول الله أو يأتى
الخير بالشر فقال رسول الله ان الخير لا يأتى الا بالخير وان مما ينبت الربيع ما
يقتل حبطا أو يلم الا آكله الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس
فتطلت وبالت ثم اجترت فعادت فأكلت قمن أخذ مالا بحقه بورك له فيه ومن أخذ مالا
بغير حقه فمثله كمثل الذى يأكل ولا يشبع" فأخبر أنه انما يخاف عليهم الدنيا
وسماها زهرة فشبهها بالزهر فى طيب رائحته وحسن منظره وقله بقائه وأن وراءه ثمرا
خيرا وابقى منه
وقوله ان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم هذا من
أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها وذلك أن
الماشيه يروقها نبت الربيع فتأكل منها بأعينها فربما هلكت حبطا والحبط
ص -234-
انتفاخ بطن الدابه من الامتلاء أو من المرض يقال حبط الرجل والدابه تحبط حبطا اذا
أصابه ذلك
ولما أصاب الحارث بن مازن بن عمرو بن تميم ذلك فى سفره
فمات حبطا فنسب الحبطى كما يقال السلمى فكذلك الشرهه فى المال يقتله شرهه وحرصه
فإن لم يقتله قارب أن يقتله وهو قوله أو يلم وكثير من ارباب الأموال انما قتلتهم أموالهم
فانهم شرهوا فى جمعها واحتاج اليها غيرهم فلم يصلوا اليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه
من اذلالهم وقهرهم
وقوله: الا آكلة الخضر هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا
حاجته مثله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها أكلت حتى اذا امتلأت خاصرتاها وفى
لفظ آخر امتدت خاصرتاها وانما تمتد من امتلائها من الطعام وثنى الخاصرتين لأنهما جانبا
البطن وفى قوله استقبلت عين الشمس فتلطت وبالت ثلاث فوائد احداها انها لما أخذت
حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبله الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته الثانية انها
أعرضت عما يضرها من الشره فى المرعى وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التى
يحصل لها بحرارتها انضاج ما أكلته واخراجه الثالثة انها استفرغت بالبول والثلط ما
جمعته من المرعى فى بطنها فاستراحت بإخراجه ولو بقى فيها لقتلها فكذلك جامع المال
مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة
وأول الحديث: مثل الشره فى جمع الدنيا الحريص على
تحصيلها فمثاله مثال الدابة التى حملها شره الأكل على أن يقتلها حبطا أو يلم إذا لم
يقتلها فإن الشره الحريص إما هالك وإما قريب من الهلاك فإن الربيع ينبت أنواع
البقول والعشب فتستكثر منه الدابة حتى ينتفخ بطنها لما جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها
وتهلك كذلك الذى يجمع الدنيا من غير حلها ويحبسها أو يصرفها فى غير حقها وآخر
الحديث مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذى تنتفع الدابة بأكله ولم يحملها شرهها وحرصها
على تناولها منه
ص -235-
فوق ما تحتمله بل أكلت بقدر حاجتها وهكذا هذا أخذ ما يحتاج اليه ثم أقبل على ما
ينفعه وضرب بول الدابة وثلطها مثلا لإخراجه المال فى حقه حيث يكون حبسه وإمساكه
مضرا به فنجا من وبال جمعه بأخذ قدر حاجته منه ونجا من وبال إمساكه بإخراجه كما
نجت الدابة من الهلاك بالبول الثلط
وفى هذا الحديث اشارة الى الاعتدال والتوسط بين الشره فى
المرعى القاتل بكثرته وبين الاعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعا وتضمن الخبر أيضا
إرشاد المكثر من المال الى ما يحفظ عليه قوته وصحته فى بدنه وقلبه وهو الاخراج منه
وانفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه وبالله التوفيق
المثال الثامن: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن سليمان
بن يسار عن ميمونة قالت قال رسول الله لعمرو بن العاص: "الدنيا خضرة حلوة فمن
اتقى الله فيها وأصلح والا فهو كالآكل ولا يشبع وبين الناس فى ذلك كبعد الكوكبين
أحدهما يطلع فى المشرق والآخر يغيب فى المغرب" فنبه بخضرتها على استحسان
العيون لها وبحلاوتها على استجلاء الصدور لها وبتلك الخضرة والحلاوة زينت لأهلها وحببت
اليهم لا سيما وهم مخلوقون منها وفيها كما قيل:
ونحن بنو الدنيا ومنها نباتنا وما أنت منه فهو شئ محبب
وجعل الناس فيها قسمين أحدهما مصلح متقى فهذا تقواه
وإصلاحه لا يدعانه ينهمك عليها ويشره فيها ويأخذها من غير حلها ويضعها فى غير حقها
فان لم يتق ويصلح صرف نهمته وقواه وحرصه الى تحصيلها فكان كالذى يأكل ولا يشبع وهذا
من أحسن الأمثلة فان المقصود من الأكل حفظ الصحة والقوة وذلك تابع لقدر الحاجة
وليس المقصود منه ذاته ونفسه فمن جعل نهمته فوق مقصوده لم يشبع ولهذا قال الامام
أحمد الدنيا قليلها يجزى وكثيرها لا يجزى وأخبر عن تفاوت الناس فى المنزلتين أعنى
منزلة التقوى والاصلاح ومنزلة الاكل
ص -236-
والشره وأن بين الرجلين فى ذلك كما بين الكوكبين الغارب فى الأفق والطالع منه وبين
ذلك منازل متفاوتة
المثال التاسع: ما تقدم من حديث المستورد بن شداد قال
كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله:
"أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله
قال فو الذى نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" قال
الترمذى حديث حسن صحيح فلم يقتصر على تمثيلها بالسخلة الميتة بل جعلها أهون على
الله منها
وفى مسند الامام أحمد فى هذا الحديث فو الذى نفسى بيده
للدنيا عند الله أهون عليه من تلك السخلة على أهلها فأكد ذلك بالقسم الصادق فإذا
كان مثلها عند الله أهون وأحقر من سخله ميته على أهلها فمحبها وعاشقها أهون على
الله من تلك السخلة وكونها سخله أهون عليهم من كونها شاة كبيرة لأن تلك ربما انتفعوا
بصوفها أو دبغوا جلدها وأما ولد شاة صغيرة ميت ففى غاية الهوان والله المستعان
المثال العاشر: مثلها مثل البحر الذى لا بدل للخلق كلهم
من ركوبه ليقطعوه الى الساحل الذى فيه دورهم وأوطانهم ومستقرهم ولا يمكن قطعه الا
فى سفينة النجاة فارسل الله رسله لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة وتأمرهم بعملها وركوبها
وهى طاعته وطاعة رسله وعبادته وحده واخلاص العمل له والتشمير للآخرة وارادتها
والسعى لها سعيها فنهض الموفقون وركبوا السفينه ورغبوا عن خوض البحر لما علموا أنه
لا يقطع خوضا ولا سباحه وأما الحمقاء فاستصعبوا عمل السفينه وآلاتها والركوب فيها
وقالوا نخوض البحر فاذا عجزنا تطباه سباحة وهم أكثر أهل الدنيا فخاضوه فلما عجزوا
عن الخوض أخذوا فى السباحه حتى أدركهم الغرق ونجا أصحاب السفينة كما نجوا مع نوح
عليه السلام وغرق أهل الارض فتأمل هذا المثل وحال أهل الدنيا فيها يتبين لك
مطابقته للواقع
ص -237-
وقد ضرب هذا المثل للدنيا والآخرة والقدر والأمر فإن القدر بحر والأمر فيه سفينة
لا ينجو إلا من ركبها
المثال الحادي عشر: مثالها مثال اناء مملوء عسلا رآه
الذباب فاقبل نحوه فبعضه قعد على حافة الاناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته
ثم طار وبعضه حمله الشره على أن رمى بنفسه فى لجة الاناء ووسطه فلم يدعه انغماسه فيه
أن يتهنأ به الا قليلا حتى هلك فى وسطه
المثال الثانى عشر: مثال حب قد نثر على وجه الارض وجعلت
كل حبة فى فخ وجعل حول ذلك الحب حب ليس فى فخاخ فجاءت الطير فمنها من قنع بالجوانب
ولم يرم نفسه فى وسط الحب فأخذ حاجته ومضى ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب
فما استتم اللقاط الا وهو يصيح من أخذة الفخ له
المثال الثالث عشر: كمثل رجل أوقد نارا عظيمة فجعلت
الفراش والجنادب يرون ضوءها فيقصدونها ويتهافتون فيها ومن له علم بحالها جعل يستضىء
ويستدفئ بها من بعيد وقد أشار النبى الى هذا المثل بعينه فى الحديث الذى رواه مالك
بن اسماعيل عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن عمر رضى الله
عنه عن النبى قال: "انى ممسك بحجزكم عن النار وتتقاحمون فيها تقاحم الفراش
والجنادب ويوشك أن أرسل بحجزكم" وفى لفظ آخر: "مثلى ومثلكم كمثل رجل
استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعلت الفراش والجنادب يتقاحمن فيها فأنا آخذ
بحجزكم عن النار وأنتم تغلبونى وتتقاحمون فيها" وهذا المثال مطبق على أهل
الدنيا المنهمكين فيها فالرسل تدعوهم الى الاخرة وهم يتقاحمون فى الدنيا تقاحم
الفراش
المثال الرابع عشر: مثل قوم خرجوا فى سفر بأموالهم
وأهليهم فمروا بواد مشعب كثير المياه والفواكه فنزلوا به وضربوا خيمهم وبنوا هنالك
الدور والقصور فمر بهم رجل يعرفون نصحه وصدقه وأمانته فقال انى
ص -238-
رأيت بعينى هاتين الجيش خلف هذا الوادى وهو قاصدكم فاتبعونى أسلك بكم على غير طريق
العدو فتنجوا منه فأطاعته طائفة قليلة فصاح فيهم يا قوم النجاة النجاة أتيتم أتيتم
وصاح السامعون له بأهليهم وأولادهم وعشائرهم فقالوا كيف نرحل من هذا الوادى وفيه
مواشينا وأموالنا ودورنا وقد استوطناه فقال لهم الناصح لينج كل واحد منكم بنفسه
مما خف عليه من متاعه والا فهو مأخوذ وماله مجتاح فثقل على أصحاب الجد والأموال
ورؤساء القوم النقلة ومفارقة ما هم فيه من النعيم والرفاهية والدعة وقال كل أحمق لى
أسوة بالقاعدين فهم أكثر منى مالا وأهلا فما أصابهم أصابنى معهم ونهض الأقلون مع
الناصح ففازوا بالنجاة وصبح الجيش أهل الوادى فقتلهم واجتاح أموالهم
وقد أشار النبى الى هذا المثل بعينه فى الحديث المتفق
على صحته من حديث أبى بردة عن أبى موسى عن النبى قال: "انما مثلى ومثل ما
بعثنى الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم انى رأيت الجيش بعينى وأنا النذير
العريان فالنجاة النجاة فأطاعه طائفة من قومه فأذلجوا و انطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت
طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعنى
واتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذب بما جئت به من الحق".
المثال الخامس عشر: رجل هيأ دارا وزينها ووضع فيها من
جميع الالات ودعى الناس اليها فكلما دخل داخل أجلسه على فراش وثير وقدم اليه طبقا
من ذهب عليه لحم ووضع بين يديه أوان مفتخرة فيها من كل ما يحتاج اليه وأخدمه عبيده
ومماليكه فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده فاستمتع بتلك الالات
والضيافة مدة مقامه فى الدار ولم يعلق قلبه بها ولا حدث نفسه بتملكها بل اعتمد مع
صاحب الدار ما يعتمده الضيف يجلس حيث أجلسه ويأكل ما قدمه له ولا يسأل عما وراء
ذلك اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه وما يفعله مع ضيوفه
ص -239-
فدخل الدار كريما وتمتع فيها كريما وفارقها كريما ورب الدار غير ذام له وأما
الاحمق فحدث نفسه بسكنى الدار وحوز تلك الالات الى ملكه وتصرفه فيها بحسب شهوته
وارادته فتخير المجلس لنفسه وجعل ينقل تلك الآلات الى مكان فى الدار يخبؤها فيه
وكلما قدم اليه ربها شيئا أو آلة حدث نفسه بملكه واختصاصه به عن سائر الاضياف ورب
الدار يشاهد ما يصنع وكرمه يمنعه من اخراجه من داره حتى اذا ظن انه استبد بتلك
الآلات وملك الدار وتصرف فيها وفى آلاتها تصرف المالك الحقيقى واستوطنها واتخذها
دارا له أرسل إليه مالكها عبيده فأخرجوه منها إخراجا عنيفا وسلبوه كل ما هو فيه ولم
يصحبه من تلك الآلات شئ وحصل على مقت رب الدار وافتضاحه عنده وبين مماليكه وحشمه
وخدمه
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل فإنه مطابق للحقيقة
والله المستعان
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه كل أحد فى هذه
الدنيا ضيف وما له عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤداة
وفى الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال:
"مات ابن لأبى طلحة من أم سليم فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة حتى أكون أنا
أحدثه فجاء فقربت اليه عشاء فأكل وشرب وقال ثم تصنعت له احسن ما كانت تصنع قبل ذلك
فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت يا ابا طلحة أرأيت لو أن قوما
أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم قال لا قالت فاحتسب ابنك قال
فغضب قال تركتينى تلطخت ثم أخبرتينى بابنى فانطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما
كان منها فقال رسول الله بارك الله لكما فى ليلتكما" وذكر الحديث
المثال السادس عشر: قوم سلكوا مفازة فاجأهم العطش
فانتهوا الى البحر وماؤه أمر شيء وأملحه فلشدة عطشهم لم يجدوا مرارته وملوحته
ص -240-
فشربوا منه فلم يرووا وجعلوا كلما ازدادوا شربا ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أمعاؤهم
وماتوا عطشا وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح وأنه كلما ازداد الشارب منه ازداد ظمأه
فتباعدوا عنه مسافة حتى وجدوا أرضا حلوة فحفروا فيها قليا فنبع لهم ماء عذب فرات
فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر هلموا إلى الماء الفرات
وكان منهم المستهزئ ومنهم المعرض الراضى بما هو فيه وكان المجيب واحدا بعد واحد
وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح عليه السلام فقال مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر
كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله
المثال السابع عشر: مثل الانسان ومثل ماله وعمله وعشيرته
مثل رجل له ثلاثة اخوة فقضى له سفر بعيد طويل لا بد له منه فدعا إخوته الثلاثة
وقال قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل وأحوج ما كنت اليكم الآن فقال أحدهم أنا
كنت أخاك الى هذه الحال ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب وما عندى غير هذا فقال له لم
تغن عنى شيئا فقال للآخر ما عندك فقال كنت أخاك وصاحبك إلى الآن وأنا معك حتى
أجهزك الى سفرك وتركب راحلتك ومن هنالك لست لك بصاحب فقال له أنا محتاج الى
مرافقتك فى مسيرى فقال لا سبيل لك الى ذلك فقال لم تغن عنى شيئا فقال للثالث ما
عندك أنت فقال كنت صاحبك فى صحتك ومرضك وأنا صاحبك الآن وصاحبك اذا ركبت راحلتك
وصاحبك فى مسيرك فإن سرت سرت معك وان نزلت نزلت معك واذا وصلت الى بلدك كنت صاحبك
فيها لا أفارقك ابدا فقال ان كنت لأهون الاصحاب على وكنت أوثر عليك صاحبيك فليتنى
عرفت حقك وآثرتك عليهما
فالأول ماله والثانى أقاربه وعشيرته وأصحابه والثالث
عمله وقد روى فى هذا المثل بعينه حديث مرفوع لكنه لا يثبت رواه أبو جعفر العقيلى
فى كتاب الضعفاء من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة
ص -241-
وعن ابن المسيب عن عائشة مرفوعا وهو مثل صحيح فى نفسه مطابق للواقع
المثال الثامن عشر: وهو من أحسن الأمثلة ملك بنى دارا لم
ير الراءون ولم يسمع السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها ونصب
لها طريقا وبعث داعيا يدعو الناس اليها وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع
الزينة وألبست أنواع الحلى والحلل وممر الناس كلهم عليها وجعل لها أعوانا وخدما
وجعل تحت يدها ويد أعوانها زادا للمارين السائرين الى الملك فى تلك الطريق وقال
لها ولأعوانها من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عنى وابتغى منك زادا يوصله الى فاخدميه
وزوديه ولا تعوقيه عن سفره الى بل أعينيه بكل ما يبلغه فى سفره ومن مد اليك عينيه
ورضى بك وآثرك على وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب وأوليه غاية الهوان واستخدميه
واجعليه يركض خلفك ركض الوحش ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلا ثم استرديه منه
واسلبيه اياه كله وسلطى عليه أتباعك وعبيدك وكلما بالغ فى محبتك وتعظيمك وإكرامك
فقابليه بأمثاله قلى وإهانة وهجرا حتى تتقطع نفسه عليك حسرات فتأمل هذا المثال
وحال خطاب الدنيا وخطاب الآخرة والله المستعان وهذا المثل مأخوذ من الاثر المروى عن
الله عز وجل يا دنيا اخدمى من خدمنى واستخدمى من خدمك
المثال التاسع عشر: ملك خط مدينة فى أصح المواضع وأحسها
هواء وأكثرها مياها وشق أنهارها وغرس أشجارها وقال لرعيته تسابقوا إلى أحسن
الأماكن فيها فمن سبق إلى مكان فهو له ومن تخلف سبقه الناس الى المدينة فأخذوا منازلهم
وتبوؤا مساكنهم فيها وبقى من أصحاب الحسرات ونصب لهم ميدان السباق وجعل على
الميدان شجرة كبيرة لها ظل مديد وتحتها مياه جارية وفى الشجرة من كل أنواع الفواكه
وعليها طيور عجيبة الأصوات وقال لهم لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها فعن قليل تجتث من
أصلها
ص -242-
ويذهب ظلمها وينقطع ثمرها وتموت أطيارها وأما مدينة الملك فاكلها دائم وظلها مديد
ونعيمها سرمدى وفيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فسمع الناس
بها فخرجوا فى طلبها على وجوههم فمروا بتلك الشجرة على أثر تعب ونصب وحر وظمأ
فنزلوا كلهم تحتها واستظلوا بظلها وذاقوا حلاوة ثمرها وسمعوا نغمات أطيارها فقيل
لهم إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم وتضمروا مراكبكم للسباق فتهيئوا للركوب وكونوا
على أهبة فإذا صاح النفير استدركتم حلبة السباق فقال الأكثرون كيف ندع هذا الظل الظليل
والماء السلسبيل والفاكهة النضجة والدعة والراحة ونقتحم هذه الحلبة فى الحر
والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التى تنقطع فيها الأمعاء
وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة الى الأجل البعيد ونترك ما نراه الى مالا
نراه وذرة منقودة فى اليد أولى من ذرة موعودة بعد غد خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
ونحن بنو اليوم وهذا عيش حاضر كيف نتركه لعيش غائب فى بلد بعيد لا ندرى متى نصل
اليه ونهض من كل ألف واحد وقالوا والله ما مقامنا هذا فى ظل زائل تحت شجرة قد دنى
قلعها وانقطاع ثمرها وموت أطيارها ونترك المسابقة الى الظل الظليل الذى لا يزول والعيش
الهنئ الذى لا ينقطع الا من أعجز العجز وهل يليق بالمسافر اذا استراح تحت ظل أن
يضرب خباءه عليه ويتخذ وطنه خشية التأذى بالحر وبالبرد وهل هذا الا أسفه السفه فالسباق
السباق والبدار البدار
حكم المنية فى البرية جارى ما هذه الدنيا بدار قرار
اقضوا مآربكم سراعا انما أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل السباق وبادروا أن تسترد فإنهن عوارى
ودعوا الإقامة تحت ظل زائل أنتم على سفر بهذى الدار
من يرجو طيب العيش فيها انما يبنى الرجاء على شفير هار
والعيش كل العيش بعد فراقها فى دار أهل السبق أكرم دار
ص -243-
فاقتحموا حلقة السباق ولم يستوحشوا من قلة الرفاق وساروا فى ظهور العزائم ولم
تأخذهم فى سيرهم لومة لائم والمتخلف فى ظل الشجرة نائم فوالله ما كان الا قليل حتى
ذوت أغصان تلك الشجرة وتساقطت أوراقها وانقطع ثمرها ويبست فروعها وانقطع مشربها
فقلعها قيمها من أصلها فأصبح أهلها فى حر السموم يتقلبون وعلى ما فاتهم من العيش
فى ظلها يتحسرون أحرقها قيمها فصارت هى وما حولها نارا تلظى وأحاطت النار بمن
تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج منها فقالوا أين الركب الذين استظلوا معنا تحت
ظلها ثم راحوا وتركوه فقيل لهم ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم فرأوهم من البعد فى قصور
مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللذات فتضاعفت عليهم الحسرات ألا يكونوا معهم
وزاد تضاعفها بأن حيل بينهم وبين ما يشتهون وقيل هذا جزاء المتخلفين {وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
المثال العشرون: ما مثلها به النبى من الثوب الذى شق
وبقى معلقا بخيط فى آخره فما بقاء ذلك الخيط قال ابن أبى الدنيا حدثنى الفضل بن
جعفر حدثنا وهب بن حماد حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو سعيد خلف بن حبيب عن
أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله: "مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله
الى أخره فبقى معلقا بخيط فى آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع".
وان أردت لهذا المثل زيادة ايضاح فانظر الى ما رواه أحمد
فى مسنده من حديث أبى نظرة عن أبى سعيد قال صلى بنا رسول الله العصر نهارا ثم قام
فخطبنا فلم يترك شيئا قبل قيام الساعة الا اخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وجعل
الناس يلتفتون الى الشمس هل بقى منها شئ فقال ألا انه لم يبق من الدنيا فيما مضى
منها الا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه روى حفص بن غياث عن ليث عن المغيرة بن
حكيم عن ابن عمر
ص -244-
قال خرج علينا رسول الله والشمس على أطراف السعف فقال ما بقى من الدنيا الا مثل ما
بقى من يومنا هذا فيما مضى منه
وروى ابن أبى الدنيا عن ابراهيم بن سعد حدثنا موسى بن
خلف عن قتادة عن أنس أن رسول الله خطب عند مغرب الشمس فقال: "ما بقى من
الدنيا فيما مضى منها الا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه".
فالدنيا كلها كيوم واحد بعث رسول الله فى آخره قبل غروب
شمسه بيسير وقال جابر وأبو هريرة رضى الله عنهما عنه: "بعثت أنا والساعة
كهاتين وقرن بين أصابعه السبابة والوسطى" وكان بعض السلف يقول تصبروا فإنما
هى أيام قلائل وانما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت وانه قد
نعيت اليك أنفسكم والموت حبس لا بد منه والله بالمرصاد وانما تخرج هذه النفوس على
آخر سورة الواقعة
المثال الحادى والعشرون: مثال الدنيا كحوض كبير ملئ ماء
وجعل موردا للأنام والانعام فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد حتى لم يبق منه الا
كدر فى أسفله قد بالت فيه الدواب وخاصته الناس والأنعام كما روى مسلم فى صحيحه عن عتبة
بن غزوان أنه خطبهم فقال فى خطبته إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها
إلا صبابة كصبابة الاناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها
فانتقلوا بخير ما بحضرتكم وقال عبد الله بن مسعود إن الله تعالى جعل الدنيا كلها
قليلا فما بقى منها إلا قليل من قليل ومثل ما بقى منها كالثغب شرب صفوه وبقى كدره
الثغب الغدير
المثال الثانى والعشرون: قوم سكنوا مدينة مدة من الزمان
فكثرت
ص -245- فيها الأحداث والآفات وطرقها المحن وأغارت عليها عساكر الجور والفساد فبنى ملكهم مدينة فى محل لا يطرقه آفة ولاعاهة وعزم على تخريب المدينة الأولى فأرسل الى سكانها فنودى فيهم بالرحيل بعد ثلاث ولا يتخلف منهم أحد وأمرهم أن ينقلوا إلى مدينة الملك الثانية خير ما فى تلك المدينة وأنفعه وأجله من الجواهر واللآلى والذهب والفضة وما خف حمله من المتاع وعظم قدره وصلح للملوك وأرسل اليهم الأدلاء وآلات النقل ونهج لهم الطريق ونصب لهم الاعلام وتابع الرسل يستحثونهم بعضهم فى اثر بعض فانقسموا فرقا فالاقلون علموا قصر مدة مقامهم فى تلك المدينة وتيقنوا أنهم ان لم يبادروا بتحصيل خير ما فيها وحمله الى مدينة الملك والا فانهم ذلك فلم يقدروا عليه فرأوا غبنا أن يقطعوا تلك المدة فى جمع المفضول والاشتغال به عن الفاضل فسألوا عن خير مافى المدينة وأنفسه وأحبه الى الملك وأنفعه فى مدينته فلما عرفوه لم يلتفوا الى مادونه ورأوا أن أحدهم اذا وافى بجوهرة عظيمة كانت أحب الى الملك من أن يوافيه بأحمال كثيرة من الفلوس والحديد ونحوها فكان همهم فى تحصيل ما هو أحب الى الملك وأنفس عنده ولو قل فى رأى العين وأقبلت فرقة أخرى على تعبئة الاحمال المحملة وتنافسوا فى كثرتها وهم على مراتب فمنهم من أحماله أثمان ومنهم من أحماله دون ذلك على قدر هممهم وما يليق بهم لكن هممهم مصروفة الى تعبئة الاحمال والانتقال من المدينة وأقبلت فرقة أخرى على عمارة القصور فى تلك المدينة والاشتغال بطيباتها ولذاتها ونزهها وحاربوا العازمين على النقلة وقالوا لا ندعكم تأخذون من متاعنا شيئا فإن شاركتمونا فى عمارة المدينة واستيطانها وعيشنا فيها والا لم نمكنكم من النقلة ولا من شيء من المتاع فوقعت الحرب بينهم فقاتلوا السائرين فعمدوا الى أكل أموالهم وأهليهم وما نقموا منهم الا بسيرهم الى دار الملك واجابة داعيه والرغبة عن تلك الدار متى أمرهم بتركها وأقبلت
فرقة أخرى
على التنزه والبطالة والراحة والدعة وقالوا لا نتعب أنفسنا فى عمارتها ولا ننقل
منها ولا نعارض من أراد النقلة ولا
ص -246- نحاربهم ولا نعاونهم وكان للملك فيها قصر فيه
حريم له وقد أحاط عليه سورا وأقام عليه حرسا ومنع أهل المدينة من قربانه وطاف به
القاعدون فلم يجدوا فيه بابا يدخلون منه فغدوا على جدرانه فنقبوها ووصلوا الى
حريمه فأفسدوهم ونالوا منهم ما أسخط الملك وأغضبه وشق عليه ولم يقتصروا على ذلك حتى
دعوا غيرهم الى افساد حريمه والنيل منهم فبينما هم على تلك الحال واذا بالنفير قد
صاح فيهم كله فلم يمكن أحد منهم من التخلف فحملوا على تلك الحال وأحضروا بين يدى
الملك فاستعرضهم واحدا واحدا وعرضت بضائعهم وما قدموا به من تلك المدينة عليه فقبل
منها ما يصلح له وأعاض أربابه أضعاف أضعاف قيمته وأنزلهم منازلهم من قربه ورد منها
مالا يصلح له وضرب به وجوه أصحابه وقابل من نقب حماه وأفسد حريمه بما يقابل به
المفسدون فسألوا الرجعة الى المدينة ليعمروا قصره ويحفظوا حريمه ويقدموا عليه من
البضائع بمثل ما قدم به التجار فقال هيهات قد خربت المدينة خرابا لا تعمر بعده أبدا
وليس بعدها الا المدينة التى لا تخرب أبدا
فصل: وقد مثلت الدنيا بمنام والعيش فيها بالحلم والموت
باليقظة ومثلت بمزرعة والعمل فيها بالبذر والحصاد يوم المعاد ومثلت بدار لها بابان
باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه ومثلت بحية ناعمة الملمس حسنة اللون وضربتها
الموت ومثلث بطعام مسموم لذيذ الطعم طيب الرائحة من تناول منه بقدر حاجته كان فيه
شفاؤه ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه ومثلت بالطعام فى المعدة اذا أخذت الاعضاء
منه حاجتها فحبسه قاتل أو مؤذ ولا راحة لصاحبه الا فى خروجه كما أشار اليه النبى
فى آكلة الخضر وقد تقدم ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على عينين فتنت
بهما الناس وهى تدعو الناس إلى منزلها فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها
وذبحتهم
بسكاكينها وألقتهم فى الحفر وقد سلطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديما وحديثا.
ص -247- والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلت بهم
الآفات وهم ينافسون فى مصارعهم وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا
بهم وضربنا لكم الأمثال ويكفى فى تمثيلها ما مئلها الله سبحانه فى كتابه فهو المثل
المنطبق عليها
قالوا وإذا كان هذا شأنها فالتقلل منها والزهد فيها خير
من الاستكثار منها والرغبة فيها قالوا ومن الملعوم أنه لا تجتمع الرغبة فيها مع
الرغبة فى الله والدار الآخرة أبدا ولا تسكن هاتان الرغبتان فى مكان واحد إلا
وطردت إحداهما الأخرى واستبدت بالمسكن ولا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند
رجل واحد أبدا قالوا ويكفى أن رسول الله عرضت عليه مفاتيح كنوزها ولو أخذها لكان
أشكر خلق الله بها ولم تنقصه مما له عند الله شيئا فاختار جوع يوم وشبع يوم ومات
ودرعه مرهونة على طعام لأهله كما تقدم ذكره
قالوا وقد انقسم الناس بعد رسول الله اربعة أقسام قسم لم
يريدو الدنيا ولم تردهم كالصديق ومن سلك سبيله وقسم أرادتهم الدنيا ولم يريدوها
كعمر بن الخطاب ومن سلك سبيله وقسم ارادوا الدنيا وأرادتهم كخلفاء بنى أمية ومن سلك
سبيلهم حاشا عمر بن عبد العزيز فإنها ارادته ولم يردها وقسم أرادوها ولم تردهم كمن
أفقر الله منها يده وأسكنها فى قلبه وامتحنه بجمعها ولا يخفى أن خير الاقسام القسم
الاول والثانى انما فضل لأنه لم يردها فالتحق بالاول
قالوا وقد سأل رجل رسول الله أن يدله على عمل اذا فعله
أحبه الله وأحبه الناس فقال له: "ازهد فى الدنيا بحبك الله وازهد فيما فى
أيدى الناس يحبك الناس" فلو كان الغنى أفضل لدله عليه قالوا وقد شرع الله
سبحانه قتال الكفار وشرع الكف عن الرهبان لاعتزالهم عن الدنيا وزهدهم فيها فمضت
السنة بأن لا يقاتلوا ولا يضرب عليهم جزية هذا وهم أعداؤه وأعداء رسله ودينه فعلم
أن الزهد فيها عند
الله
ص -248- بمكان قالوا وكذلك استقرت حكمته في شرعه على أن
عقوبة الواجد أعظم من عقوبة الفاقد فهذا الزانى المحصن عقوبته الرجم وعقوبة من لم
يحصن الجلد والتغريب وهكذا يكون ثواب الفاقد أعظم من ثواب الواجد
قالوا وكيف يستوى عند الله سبحانه ذلة الفقر وكسرته
وخضوعه وتجرع مرارته وتحمل أعبائه ومشاقه وعزة الغنى ولذته وصولته والتمتع بلذاته
ومباشرة حلاوته فبعين الله ما يتحمل الفقراء من مرارة فقرهم وصبرهم ورضاهم به عن الله
ربهم تبارك وتعالى وأين أجر مشقة المجاهدين إلى أجر عبادة القاعدين فى الامن
والدعة والراحة
قالوا وكيف يستوى أمران أحدهما حفت به الجنة والثانى حفت
به النار فإن أصل الشهوات من قبل المال وأصل المكاره من قبل الفقر قالوا والفقير
لا ينفك في خصاصة من مضض الفقر والجوع والعرى والحاجه وآلام الفقر وكل واحد منها
يكفر ما يقاومه من السيئات وذلك زيادة على أجره بأعمال البر فقد شارك الاغنياء بأعمال
البر وامتاز عنهم بما يكفر سيئاته وما امتازوا به عليه من الانفاق والصدقة والنفع
المتعدي فله سبيل الى لحاقهم فيه وله مثل أجورهم وهو أن يعلم الله من نيته أنه لو
أوتى مثل ما أوتوه لفعل كما يفعلون فيقول لو أن لى مالا لعملت بأعمالهم فهو بنيته
وأجرهما سواء كما أخبر به الصادق المصدوق فى + الحديث الصحيح + الذى رواه الامام
أحمد والترمذى من حديث أبى كبشه الانمارى
قالوا: والفقير فى الدنيا بمنزلة المسجون اذ هو ممنوع عن
الوصول الى شهواته وملاذها والغنى منخلص من هذا السجن وقد قال النبى: "الدنيا
سجن المؤمن وجنة الكافر" فالغنى ان لم يسجن نفسه عن دواعى الغنى وطغيانه وأرسلها
فى ميادين شهواتها كانت الدنيا جنة له فانما نال الفضل بتشبهه بالفقير الذى هو فى
سجن فقره
قالوا وقد ذم الله ورسوله من عجلت له طيباته فى الحياة
الدنيا
ص -249-
وانه لحرى أن يكون عوضا عن طيبات الآخرة أو منقصة لها ولا بد كما تقدم بيانه بخلاف
من استكمل طيباته فى الآخرة لما منع منها فى الدنيا وأتى رسول الله بسويق لوز فأبى
أن يشربه وقال: "هذا شراب المترفين".
قالوا: وقد سئل الحسن البصرى فقيل له رجلان أحدهما تارك
للدنيا والآخر يكتسبها ويتصدق بها فقال التارك لها أحب الى قالوا وقد سئل المسيح
قبله عن هذه المسألة عن رجلين مر أحدهما بلبنة ذهب فتخطاها ولم يلتفت اليها ومر بها
الآخر فأخذها وتصدق بها فقال الذى لم يلتفت اليها أفضل ويدل على هذا أن رسول الله
مر بها ولم يلتفت اليها ولو أخذها لأنفقها فى سبيل الله
قالوا: والفقير الفقيه فى فقره يمكنه لحاق الغنى فى جميع
ما ناله بغناه بنيته وقوله فيساويه فى أجره ويتميز عنه بعدم الحساب بعدم المال
فساواه بثوابه ويخلص من حسابه كما تميز عنه بسبقه إلى الجنة بخمسمائة عام وتميز عنه
بثواب صبره على ألم الفقر وخصاصته
قال الإمام أحمد: حدثنا عبادة بن مسلم حدثنى يونس بن
خباب عن أبى البحترى الطائى عن أبى كبشة قال سمعت رسول الله يقول: "ثلاث أقسم
عليهن واحدثكم حديثا فاحفظوه فأما الثلاث التى أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من
صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزوجل بها عزا ولا يفتح عبد باب
مسألة إلا فتح الله له باب فقر" وأما الذى أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال
إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقى فيه ربه ويصل فيه رحمه
ويعلم فيه لله حقا فهذا بأفضل المنازل عند الله وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه
مالا فهو يقول لو كان لى مال عملت فيه بعمل فلان قال فأجرهما سواء وعبد رزقه الله
مالا ولم يرزقه علما فهو يتخبط فى ماله بغير علم لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه
ولا يعلم الله فيه حقا فهذا بأخبث
ص -250-
المنازل عند الله وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لى مال لفعلت
بفعل فلان قال فهو بنيته ووزرهما سواء فلما فضل الغنى بفعله ألحق الفقير الصادق
بنيته والغنى هناك انما نقص بتخلفه عن العمل والفقير انما نقص بسوء نيته فلم ينفع
الغنى غناه مع التخلف ولا ضر الفقير فقره مع حسن النية ولا نفعه فقره مع سوء نيته
قالوا ففى هذا بيان كان شاف فى المسألة حاكم بين
الفريقين وبالله التوفيق.
عدة
الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب الرابع والعشرون في ذكر ما احتجت به الأغنياء من
الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
الباب الرابع والعشرون: فى ذكر ما احتجت به الأغنياء من
الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
قالت الأغنياء لقد أجلبتم علينا أيها الفقراء بخيل
الأدلة ورجلها ونحن نعلم أن عندكم مثلها وأكثر من مثلها ولكن توسطتم بين التطويل
والاختصار وظننتم أنها حكمت لكم بالفضل دون ذوى اليسار ونحن نحاكمكم الى ما حاكمتمونا
اليه ونعرض بضاعتنا على من عرضتم بضاعتكم عليه ونضع أدلتنا وأدلتكم فى ميزان الشرع
والعقل الذى لا يعزل فحيئذ يتبين لنا ولكم الفاضل من المفضول ولكن اخرجوا من بيننا
من تشبه بالفقراء الصادقين الصابرين ولبس لباسهم على قلب أحرص الناس على الدنيا
وأشحهم عليها وأبعدهم من الفقر والصبر من كل مظهر للفقر مبطن للحرص غافل عن ربه
متبع لهواه مفرط فى أمر معاده قد جعل زى الفقر صناعة وتحلى بما هو أبعد الناس منه
بضاعة أو فقير حاجة فقره اضطرارا لا اختيارا فزهده زهد افلاس لا زهد رغبة فى الله
والدار الآخرة أو فقير يشكو ربه بلسان قاله وحاله غير راض عن ربه فى فقره بل ان أعطى
رضى وان منع سخط شديد اللهف على الدنيا والحسرة عليها وهو أفقر الناس فيها فهو
أرغب شئ فيها وهى أزهد شيء فيه وأخرجوا من بيننا ذى الثروة الجموع المنوع المتكاثر
بماله
ص -251-
المستأثر به الذى عض عليه بناجذه وثنى عليه خناصره يفرح بزيادته ويأسى على نقصانه
فقلبه به مشغوف وهو على تحصيله ملهوف ان عرض سوق الانفاق
والبذل أعطى قليلا وأكدى وان دعى الى الايثار أمعن فى الهرب جدا وأخلصونا واخواننا
من سباق الطائفتين وسادات الفريقين الذين تسابقوا الى الله والدار الآخرة بإيمانهم
وأحوالهم ونافسوا فى القرب منه بأعمالهم وأموالهم فقلوبهم عاكفة عليه وهمتهم الى
المسابقة اليه ينظر غنيهم الى فقيرهم فإذا رآه قد سبقه الى عمل صالح شمر الى
اللحاق به وينظر فقيرهم الى غنيهم فإذا رآه قد فاته بإنفاق فى طاعة الله أنفق هو
من أعماله وأقواله وصبره وزهده نظير ذلك أو أكثر منه فهؤلاء اخواننا الذين تكلم
الناس فى التفضيل بينهم وأيهم أعلى درجة وأما أولئك فإنما ينظر أيهم تحت الآخر فى
العذاب وأسفل منه والله المستعان
اذا عرف هذا فقد مدح الله سبحانه فى كتابه أعمالا وأثنى
على أصحابها ولا تحصل الا بالغنى كالزكاة والانفاق فى وجوه البر والجهاد فى سبيل
الله بالمال وتجهيز الغزاة واعانة المحاويج وفك الرقاب والاطعام فى زمن المسغبة
وأين يقع صبر الفقير من فرحة الملهوف المضطر المشرف على
الهلاك اذا أعانه الغنى ونصره على فقره ومخمصته وأين يقع صبره من نفع الغنى بماله
فى نصرة دين الله واعلاء كلمته وكسر أعدائه
وأين يقع صبر أبى ذر على فقره إلى شكر الصديق به وشرائه
المعذبين فى الله وإعتاقهم وإنفاقه على نصرة الاسلام حين قال النبى: "ما
نفعنى مال احد ما نفعنى مال أبى بكر" وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان
بن عفان تلك النفقات العظيمة التى قال له رسول الله فى بعضها: "ما ضر عثمان
ما فعل بعد اليوم ثم قال غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت"
أو كما قال.
ص -252-
واذا تأملتم القرآن وجدتم الثناء فيه على المنفقين أضعاف الثناء على الفقراء
الصابرين وقد شهد رسول الله بأن اليد العليا خير من اليد السفلى وفسر اليد العليا
بالمعطية والسفلى بالمسائلة وقد عدد الله سبحانه على رسوله من نعمه أن أغناه بعد
فقره وكان غناه هو الحالة التى نقله اليها وفقره الحالة التى نقله منها وهو سبحانه
كان ينقله من الشئ الى ما هو خير منه وقد قيل فى قوله تعالى {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولَى} ان المراد به الحالتان أى كل حالة خير لك مما قبلها ولهذا أعقبه
بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فهذا يدخل فيه عطاؤه فى الدنيا
والأخرة
قالوا: والغنى مع الشكر زيادة فضل ورحمة والله يخص
برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم قالوا والاغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء
الصابرين لتقويتهم اياهم بالصدقة عليهم والاحسان عليهم واعانتهم على طاعتهم فلهم نصيب
وافر من أجور الفقراء زيادة الى نصيبهم من أجر الانفاق وطاعاتهم التى تخصهم كما فى
صحيح ابن خزيمة من رواية سلمان الفارسى رضى الله عنه عن النبى
وذكر شهر رمضان فقال: "من فطر فيه صائما كان مغفرة
لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شئ" فقد
جاز الغنى الشاكر أجر صيامه ومثل أجر الفقير الذى فطره قالوا ولو لم يكن للغنى
الشاكر الا فضل الصدقة التى لما تفاخرت الاعمال كان الفخر لها عليهن كما ذكر النظر
بن شميل عن قرة عن سعيد بن المسيب أنه حدث عن عمر بن الخطاب قال ذكر أن الاعمال
الصالحة تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم قالوا والصدقة وقاية بين العبد وبين النار
والمخلص المسر بها مستظل بها يوم القيامة فى ظل العرش
وقد روى عمرو بن الحارث ويزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير
عن عقبة بن عامر رضى الله عنه عن رسول الله قال: "ان الصدقه لتطفئ
ص -253-
على أهلها حر القبور وانما يستظل المؤمن يوم القيامه فى ظل صدقته".
وقال يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة يرفعه:
"كل امرئ فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس" قال يزيد وكان أبو الخير لا
يأتى عليه يوم الا تصدق فيه ولو بكعكة أو بصلة
وفى حديث معاذ عن النبى: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما
يطفئ الماء النار".
وروى البيهقى من حديث ابى يوسف القاضى عن المختار بن
فلفل عن أنس يرفعه: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقه" وفى الصحيحين
من حديث أبى هريرة عن النبى قال: "اذا تصدق العبد من كسب طيب ولا يقبل الله
الا طيبا أخذها الله بيمينه فيربيها لأحدهم كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون
مثل الجبل العظيم" وفى لفظ البيهقى فى هذا الحديث "حتى ان التمرة أو اللقمة
لتكون أعظم من أحد" وقال محمد بن المنكدر: "من موجبات المغفرة اطعام
المسلم السغبان" وقد روى مرفوعا من غير وجه
واذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلبا على شدة ظمأه
فكيف بمن سقى العطاش وأشبع الجياع وكسى العراة من المسلمين وقد قال رسول الله:
"اتقوا النار ولو بشق تمرة قال فان لم تجدوا فبكلمة طيبة" فجعل الكلم
الطيب عوضا عن الصدقة لمن لا يقدر عليها قالوا واين لذة الصدقة والاحسان وتفريحهما
القلب وتقويتهما إياه وما يلقى الله سبحانه للمتصدقين من المحبة والتعظيم فى قلوب
عباده والدعاء لهم والثناء عليهم وادخال المسرات عليهم من أجر الصبر على الفقر نعم
ان له لأجرا عظيما لكن الاجر درجات عند الله
قالوا وأيضا فالصدقه والاحسان والاعطاء وصف الرب تعالى
وأحب عباده اليه من اتصف بذلك كما قال النبى: "الخلق عيال الله
ص -254-
فأحب الخلق اليه انفعهم لعياله" قالوا وقد ذكر الله سبحانه اصناف السعداء
فبدأ بالمتصدقين أولهم فقال تعالى {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } فهؤلاء أصناف
السعداء ومقدموهم المصدقين والمصدقات
قالوا وفى الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها الا الله فمنها
انها تقى مصارع السوء وتدفع البلاء حتى انها لتدفع عن الظالم قال ابراهيم النخعى
وكانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل المظلوم وتطفئ الخطيئة وتحفظ المال وتجلب الرزق
وتفرح القلب وتوجب الثقة بالله وحسن الظن به كما أن البخل سوء الظن بالله وترغم
الشيطان يعنى الصدقة وتزكى النفس وتنميها وتحبب العبد الى الله والى خلقه وتستر
عليه كل عيب كما أن البخل يغطى عليه كل حسنة وتزيد فى العمر وتستجلب أدعية الناس
ومحبتهم وتدفع عن صاحبها عذاب القبر وتكون عليه ظلا يوم القيامة وتشفع له عند الله
وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة وتدعوه الى سائر أعمال البر فلا تستعصى عليه
وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك
قالوا ولو لم يكن فى النفع والاحسان الا أنه صفة الله
وهو سبحانه يحب من اتصف بموجب صفاته وآثارها فيحب العليم والجواد والحيي والستير
والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف ويحب العدل والعفو والرحيم والشكور والبر
والكريم فصفته الغنى والجود ويحب الغنى الجواد
قالوا: ويكفى فى فضل النفع المتعدى بالمال أن الجزاء
عليه من جنس العمل فمن كسى مؤمنا كساه الله من حلل الجنة ومن أشبع جائعا أشبعه
الله من ثمار الجنة ومن سقى ظمآنا سقاه الله من شراب الجنة ومن أعتق رقبة أعتق
الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى
الدنيا
والآخرة
ومن نفس عن مؤمن
ص -255- كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب
يوم القيامة والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه قالوا ونحن لا ننكر
فضيلة الصبر على الفقر ولكن أين تقع من هذه الفضائل وقد جعل الله لكل شئ قدرا
قالوا: وقد جعل رسول الله الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم
الصابر ومعلوم أنه اذا تعدى شكره الى الإحسان الى الغير ازداد أخرى فان الشكر
يتضاعف الى ما لا نهاية له بخلاف الصبر فان له حدا يقف عليه
وهذا دليل مستقل فى المسألة يوضحه أن الشاكر أفضل من
الراضى الذى هو أعلى من الصابر فاذا كان الشاكر أفضل من الراضى الذى هو أفضل من
الصابر كان أفضل من الصابر فى درجتين
قالوا وفى الصحيحين من حديث الزهرى عن سالم عن ابيه قال
قال رسول الله: "لا حسد الا فى اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء
الليل والنهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار" فجعل الغنى
مع الانفاق بمنزلة القرآن مع القيام به قالوا وقد صرح فى حديث أبى كبشه الأنمارى
أن صاحب المال إذا عمل فى ماله بعلمه واتقى فيه ربه ووصل به رحمه وأخرج منه حق
الله فهو فى أعلى المنازل عند الله وهذا تصريح فى تفضيله وجعل الفقير الصادق اذا
نوى أن يعمل بعمله وقال ذلك بلسانه ثانيا وانه بنيته وقوله وأجرهما سواء فإن كلا
منهما نوى خيرا وعمل ما يقدر عليه فالغنى نواه ونفذه بعلمه والفقير العالم نواه
ونفذه بلسانه فاستويا فى الاجر من هذه الجهة ولا يلزم من استوائهما فى أصل الاجر
استواؤهما فى كيفيته وتفاصيله فإن الأجر على العمل والنيه له مزية على الاجر على
مجرد النيه التى قارنها القول ومن نوى الحج ولم يكن له مال يحج به وان أثيب على ذلك
فإن ثواب من باشر أعمال الحج مع النيه له مزية عليه
واذا اردت فهم هذا فتأمل قول النبى: "من سأل الله
الشهادة
ص -256-
يدع فيها فضلا لغير الانجذاب الى جانب الحق جل جلاله فتتمحض الارادة له ومتى تمحضت
كان الزهد لصاحبها ضرورة فإنه يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ماهو بصدده وقطع
مواد طمعه اللاتى هى من أفسد شئ للقلب بل اصل المعاصى والفساد والفجور كله من
الطمع فالزهد يقطع مواده ويفرغ البال ويملأ القلب ويستحث الجوارح ويذهب الوحشة
التى بين العبد وبين ربه ويجلب الانس به ويقوى الرغبة فى ثوابه إن ضعف عن الرغبة
فى قربه والدنو منه وذوق حلاوة معرفته ومحبته فالزاهد أروح الناس بدنا وقلبا فإن
كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له فى إرادة الله والدار الآخرة بحيث فرغ قلبه لله وجعل
حرصه على التقرب إليه وشحه على وقته أن يضيع منه شئ فى غير ما هو أرضى الله وأحب
اليه كان من أنعم الناس عيشا واقرهم عينا وأطيبهم نفسا وأفرحهم قلبا فإن الرغبة فى
الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل وتطيل الهم والغم والحزن فهى عذاب حاضر يؤدى الى
عذاب منتظر أشد منه وتفوت على العبد من النعم اضعاف ما يروم تحصيله بالرغبه فى
الدنيا
قال الامام أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا يعنى بن
مسلم عن ابراهيم يعنى بن ميسرة عن طاووس قال قال رسول الله: "ان الزهد فى
الدنيا يريح القلب والبدن وأن الرغبة فى الدنيا تطيل الهم والحزن" وانما تحصل
الهموم والغموم والأحزان من جهتين احداهما الرغبة فى الدنيا والحرص عليها والثانى
التقصير فى أعمال البر والطاعة
قال عبد الله بن أحمد حدثنى بيان بن الحكم حدثنا محمد بن
حاتم عن بشر بن الحارث قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم قال قال رسول
الله: "اذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله عز وجل بالهم".
وكما أن الرغبة فى الدنيا أصل المعاصى الظاهرة فهى اصل
معاصى القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر وهذا كله من
ص -257-
معناه انهم وان كانوا قد ساووكم فى الايمان والاسلام والصلاة والصيام ثم فضلوكم فى
الانفاق ففى التكبير والتسبيح والتهليل ما يلحقكم بدرجتهم وقد ساويتموهم أيضا بحسن
النية إذ لو أمكنكم لأنفقتم مثلهم وفى بعض ألفاظ هذا الحديث ان أخذتم به سبقتم من
قبلكم ولم يلحقكم من بعدكم وهذا يدل على أن الاغنياء لا يلحقونهم وان قالوا مثل
قولهم وقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء معناه ان فضل الله ليس مقصورا عليكم دونهم
فكما آتاكم الله من فضله بالذكر كذلك يؤتيهم اياه اذا عملوا مثلكم أيضا فأنتم
فهمتم من الفضل التخصيص فوضعتموه فى غير موضعه وانما معناه العموم والشمول وان فضله
عام شامل للأغنياء والفقراء فلا تذهبون به دونهم فأين فى هذا الحديث التفضيل لكم
علينا
قالوا: ويحتمل قوله ذلك فضل الله ثلاثة أمور أحدها سبقهم
لكم بالانفاق والثانى مساواتكم لهم فى فضيلة الذكر فلم تختصوا به دونهم والثالث
سبقكم لهم الى الجنة بنصف يوم وهذا وان كان لا ذكر له فى هذه الروايه فهو مذكور فى
بعض طرقه قال البزار فى مسنده حدثنا الوليد بن عمر حدثنا محمد ابن الزبرقان حدثنا
موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال اشتكى فقراء المهاجرين الى
رسول الله ما فضل به أغنياؤهم فقالوا يا رسول الله اخواننا صدقوا تصديقنا وآمنوا
ايماننا وصاموا صيامنا ولهم أموال يتصدقون منها ويصلون منها الرحم وينفقونها فى
سبيل الله ونحن مساكين لا نقدر على ذلك فقال ألا اخبركم بشئ اذا أنتم فعلتموه
أدركتم مثل فضلهم قولوا الله اكبر فى كل صلاة احدى عشرة مرة والحمد لله مثل ذلك
ولا اله الا الله مثل ذلك وسبحان الله مثل ذلك تدركون مثل فضلهم ففعلوا فذكروا ذلك
للأغنياء ففعلوا مثل ما ذلك فرجع الفقراء الى رسول الله فذكروا ذلك له فقالوا
هؤلاء اخواننا فعلموا مثل نقول فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء يا معشر الفقراء ألا
أبشركم ان فقراء المسلمين يدخلون
الجنة
ص -258- قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام وتلا
موسى ابن عبيدة {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ}
قالوا فهذا خبر واحد وكلام متصل ذكره بشارة لهم عندما ذكروا
مساواة الاغنياء لهم فى القول المذكور فأشبه أن يرجع الفضل الى سبق الفقراء للأغنياء
وأنهم بهذه البشارة مخصصون فكان السبق لهم دون غيرهم وان ساووهم فى القول وساووهم
فى الانفاق بالنيه كما فى حديث أبى كبشة المتقدم وحصلت لهم مزية الفقر
قالت الاغنياء: لقد بالغتم فى صرف الحديث عن مقصوده الى
جهتكم وهو صريح فى تفضيل هذا الحديث لمن انصف فإن قوله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} خرج جوابا للفقراء عن قولهم إن أهل الدثور قد ساووهم فى الذكر
كما ساووهم فى الصلاة والصوم والايمان وبقيت مزية الانفاق ولم يحصل لهم ما يلحقهم
فيها وما علمتنا من الذكر قد لحقونا فيه فقال لهم حينئذ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاء} وهذا صريح جدا فى مقصوده فلما انكسر القوم بتحقق السبق بالانفاق الذى
عجزوا عنه أخبرهم بالبشارة بالسبق إلى دخول الجنة بنصف يوم وأن هذا السبق فى مقابلة
ما فاتكم من فضيلة الغنى والانفاق ولكن لا يلزم من ذلك رفعتهم عليهم فى المنزلة والدرجة
فهؤلاء السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب من الموقوفين للحساب من هو أفضل
من أكثرهم وأعلى منه درجة
قالوا وقد سمى سبحانه المال خيرا فى غير موضع من كتابه
كقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ} وقوله انه لحب الخير لشديد وأخبر رسول الله أن الخير لا يأتى الا
بالخير كما تقدم وانما يأتى بالشر معصية الله فى الخير لا نفسه
وأعلم الله سبحانه أنه جعل المال قواما للأنفس وأمر
بحفظها ونهى
ص -259-
أن يأتى السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم ومدحه النبى بقوله: "نعم المال
الصالح مع المرء الصالح" وقال سعيد بن المسيب لا خير فيمن لا يريد جمع المال
من حله يكف به وجهه عن الناس ويصل به رحمه ويعطى حقه
وقال أبو اسحاق السبيعى كانوا يرون السعة عونا على الدين
وقال محمد ابن المنكدر نعم العون على التقى الغنى وقال سفيان الثورى المال فى
زماننا هذا سلاح المؤمن وقال يوسف بن سباط ما كان المال فى زمان منذ خلقت الدنيا
أنفع منه فى هذا الزمان والخير كالخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر
قالوا وقد جعل الله سبحانه المال سببا لحفظ البدن وحفظه
سبب لحفظ النفس التى هى محل معرفة الله والايمان به وتصديق رسله ومحبته والانابة
اليه فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة وانما يذم منه ما استخرج من غير وجهه وصرف فى غير
حقه واستعبد صاحبه وملك قلبه وشغله عن الله والدار الآخرة فيذم منه ما يتوسل به
صاحبه الى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة فالذم للجاعل لا للمجعول
قال النبى: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم"
فذم عبدهما دونهما
قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن يزيد
بن ميسرة قال كان رجل ممن مضى جمع مالا فأوعى ثم أقبل على نفسه وهو فى أهله فقال
أنعم سنين فأتاه ملك الموت فقرع الباب فى صورة مسكين فخرجوا اليه فقال ادعو لى
صاحب الدار فقالوا يخرج سيدنا الى مثلك ثم مكث قليلا ثم عاد فقرع الدار وصنع مثل
ذلك وقال أخبروه أنى ملك الموت فلما سمع سيدهم قعد فزعا وقال لينوا له الكلام
قالوا ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك قال لا فدخل عليه فقال قم فأوص ما كنت
ص -260-
موصيا فإنى قابض نفسك قبل أن أخرج قال فصرخ أهله وبكوا ثم قال افتحو الصناديق
وافتحوا أوعية المال ففتحوها جميعا فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول لعنت من مال
أنت الذى أنسيتنى ربى وشغلتنى عن العمل لآخرتى حتى بلغنى أجلى فتكلم المال فقال لا
تسبنى ألم تكن وضيعا فى أعين الناس فرفعتك ألم ير عليك من أثرى وكنت تحضر سدد
الملوك والسادة فتدخل ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون ألم تكن تخطب بنات
الملوك والسادة فتنكح ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون ألم تكن تنفقنى فى سبيل
الخبث فلا أتعاصى ولو أنفقتنى فى سبيل الله لم أتعاص عليك وأنت ألوم منى إنما خلقت
أنا وأنتم يا بنى آدم من تراب فمنطلق ببر ومنطلق بإثم فهكذا يقول المال فاحذروا
وفى أثر يقول الله تبارك وتعالى أموالنا رجعت الينا سعد
بها من سعد وشقى بها من شقى
قالوا: ومن فوائد المال أنه قوام العبادات والطاعات وبه
قام سوق بر الحج والجهاد وبه حصل الانفاق الواجب والمستحب وبه حصلت قربات العتق
والوقف وبناء المساجد والقناطر وغيرها وبه يتوصل الى النكاح الذى هو أفضل من التخلى
لنوافل العبادة وعليه قام سوق المروءة وبه ظهرت صفة الجود والسخاء وبه وقيت
الاعراض وبه اكتسبت الاخوان والاصدقاء وبه توصل الابرار الى الدرجات العلى ومرافقة
الذين أنعم الله عليهم فهو مرقاة يصعد بها الى أعلى غرف الجنة ويهبط منها إلى أسفل
سافلين وهو مقيم مجد الماجد كان بعض السلف يقول لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا
بمال وكان بعضهم يقول اللهم إنى من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى وهو من أسباب
رضا الله عن العبد كما كان من أسباب سخطه عليه
وهؤلاء الثلاثة الذين ابتلاهم الله به الابرص والاقرع
والاعمى قال به الاعمى رضا ربه ونالا به سخطه والجهاد ذروة سنام العمل وتارة
ص -261-
يكون بالنفس وتارة يكون بالمال وربما كان الجهاد بالمال أنكى وأنفع وبأى شئ فضل
عثمان على على وعلى أكثر جهادا بنفسه واسبق إسلاما من عثمان
وهذا الزبير وعبد الرحمن بن عوف أفضل من جمهور الصحابة
مع الغنى الوافر وتأثيرهما فى الدين أعظم من تأثير أهل الصفة وقد نهى رسول الله عن
إضاعته وأخبر أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير له من تركهم فقراء وأخبر أن صاحب المال
لن ينفق نفقة يبتغى بها وجه الله إلا ازداد بها درجة ورفعة وقد استعاذ رسول الله
من الفقر وقرنه بالكفر فقال اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر فإن الخير نوعان
خير الآخرة والكفر مضاده وخير الدنيا والفقر مضاده فالفقر سبب عذاب الدنيا والكفر
سبب عذاب الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل إعطاء الزكاة وظيفة الأغنياء وأخذها
وظيفة الفقراء وفرق بين اليدين شرعا وقدرا وجعل يد المعطى أعلى من الآخذ وجعل
الزكاة أوساخ المال ولذلك حرمها على أطيب خلقه وعلى آله صيانة لهم وتشريفا ورفعا
لأقدارهم
ونحن لا ننكر أن رسول الله كان فقيرا ثم أغناه الله
والله فتح عليه وخوله ووسع عليه وكان يدخر لأهله قوت سنة ويعطى العطايا التى لم
يعطها أحد غيره وكان يعطى عطاء من لا يخاف الفقر ومات عن فدك والنضير وأموال خصه
الله بها وقال تعالى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُول} فنزهه ربه سبحانه عن الفقر الذى يسوغ الصدقة وعوضه عما نزهه عنه
بأشرف المال وأحله وأفضله وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله الذين
كان مال الله بأيديهم ظلما وعدوانا فإنه خلق المال ليستعان به على طاعته وهو بأيدى
الكفار والفجار ظلما وعدوانا فإذا رجع الى أوليائه وأهل طاعته فاءاليهم ما خلق لهم
ولكن لم يكن غنى رسول الله وملكه من جنس غنى بنى الدنيا وأملاكهم فإن غناهم بالشيء
وغناه عن الشئ وهو الغنى العالى وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم وهو انما
يتصرف فى
ملكه
ص -262- تصرف العبد الذى لا يتصرف الا بأمر سيده
وقد اختلف الفقهاء فى الفئ هل كان ملكا للنبى على قولين
هما روايتان عن أحمد والتحقيق أن ملكه له كان نوعا آخر من الملك وهو ملك يتصرف فيه
بالأمر كما قال: "والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا انما أنا قاسم اضع حيث
امرت" ذلك من كمال مرتبة عبوديته ولأجل ذلك لم يورث فإنه عبد محض من كل وجه لربه
عز وجل والعبد لا مال له فيورث عنه فجمع الله له سبحانه بين أعلى أنواع الغنى
وأشرف أنواع الفقر فكمل له مراتب الكمال فليست احدى الطائفتين بأحق به من الأخرى
فكان فى فقره أصبر خلق الله وأشكرهم وكذلك فى غناه والله
تعالى جعله قدوة للأغنياء والفقراء وأى غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز
الارض وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهبا وخير بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا
نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا ومع هذا فجيبت اليه أموال جزيرة العرب واليمن
فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشئ بل تحمل عيال المسلمين ودينهم فقال من ترك مالا
فلورثته ومن ترك كلا فإلى وعلى فرفع الله سبحانه قدره أن يكون من جملة الفقراء
الذين تحل لهم الصدقه كما نزهه أن يكون من جملة الاغنياء الذين أغناهم بالاموال
الموروثة بل أغناه به عن سواه وأغنى قلبه كل الغنى ووسع عليه غاية السعة فأنفق
غاية الانفاق وأعطى أجل العطايا ولا استأثر بالمال ولا اتخذ منه عقارا ولا ارضا
ولا ترك شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة ولا دينارا ولا درهما
فإذا احتج الغنى الشاكر بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن
يفعل فعله كما أن الفقير الصابر اذا احتج بحاله لم يمكنه ذلك الا بعد أن يصبر صبره
ويترك الدنيا اختيارا لا اضطرارا فرسول الله وفى كل مرتبة من مرتبتى الفقر والغنى
حقها وعبوديتها وأيضا فإن الله سبحانه أغنى به الفقراء فما نالت أمته الغنى إلا به
وأغنى الناس من صار غيره به غنيا.
ص -263-
قال على بن أبى رباح اللخمى: كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو يومئذ على مصر
وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبى طالب فقال لو أن
ابا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء
بخير فقال عبد الله بن عمرو ويومئذ كان سيدا كريما قد جاء بخير فقال مسلمة ألم يقل
الله تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى
وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} فقال عبد الله بن عمرو أما اليتيم فقد كان يتيما
من أبويه وأما لعيلة فكل ما كان بأيدى العرب الى القله يقول إن العرب كانت كلها
مقلة حتى فتح الله عليه وعلى العرب الذين اسلموا ودخلوا فى دين الله أفواجا ثم
توفاه الله قبل أن يتلبس منها بشئ ومضى وتركها وحذر منها ومن فتنتها قال وذلك معنى
قوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فلم تكن الدنيا لترضيه وهو لا
يرضاها كلها لأمته وهو يحذر منها وتعرض عليه فيأباها وانما هو ما يعطيه من الثواب
وما يفتح عليه وعلى أمته من ملك كسرى وقيصر ودخول الناس فى الاسلام وظهور الدين
إذا كان ذلك محبته ورضاه صلوات الله وسلامه عليه
وروى سفيان الثورى عن الاوزاعى عن اسماعيل بن عبد الله
بن عباس عن النبى قال: "رأيت ما هو مفتوح بعدى كفرا كفرا فسرنى ذلك فنزلت
والضحى والليل الى قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى" قال اعطى ألف قصر من لؤلؤ
ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له
قالوا وما ذكرتم من الزهد فىالدنيا والتقلل منها فالزهد
لا ينافى الغنى بل زهد الغنى أكمل من زهد الفقير فإن الغنى زهد عن قدرة والفقير عن
عجز وبينهما بعد بعيد وقد كان رسول الله فى حال غناه أزهد الخلق وكذلك ابراهيم الخليل
كان كثير المال وهو أزهد الناس فى الدنيا.
ص -264-
وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث ابى ذر عن النبى قال: "الزهادة فى الدنيا ليست بتحريم
الحلال ولا إضاعته ولكن الزهادة فى الدنيا أن لا تكون بما فى يديك أوثق بما فى يد
الله وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت اصبت بها أرغب فى ثوابها لو أنها بقيت لك".
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار وهل يكون
زاهدا قال نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت وقال بعض السلف الزاهد
من لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره وهذا من أحسن الحدود حقيقة مركبة من الصبر
والشكر فلا يستحق اسم الزاهد من لا يتصف بهما فمن غلب شكره لما وسع عليه من الحلال
وصبره لما عرض له من الحرام فهو الزاهد على الحقيقة بخلاف من غلب عليه الحلال شكره
والحرام صبره فكان شكره وصبره مغلوبين فإن هذا ليس بزاهد
وسمعت شيخ الاسلام يقول الزهد تركك مالا ينفعك والورع
تركك ما يضرك فالزهد فراغ القلب من الدنيا لافراغ اليدين منها ويقابله الشح والحرص
وهو ثلاثة أقسام زهد فى الحرام وزهد فى الشبهات والمكروهات وزهد فى الفضلات فالاول
فرض والثانى فضل والثالث متوسط بينهما بحسب درجة الشبهة وان قويت التحق بالاول
والا فبالثالث وقد يكون الثالث واجبا بمعنى انه لا بد منه وذلك لمن شمر الى الله
والدار الآخرة فزهد الفضلة يكون ضرورة فإن إرادة الدنيا قادحة فى إرادة الآخرة ولا
يصح للعبد مقام الارادة حتى يفرد طلبه وارادته ومطلوبه فلا ينقسم المطلوب ولا
الطلب
أما توحيد المطلوب أن لا يتعلق طلبه وارادته بغير الله
وما يقرب اليه ويدنى منه وأما توحيده فى الطلب أن يستأصل الطلب والارادة نوازع
الشهوات وجواذب الهوى وتسكن الارادة فى أقطار النفس فتملأها فلا
ص -265-
يدع فيها فضلا لغير الانجذاب الى جانب الحق جل جلاله فتتمحض الارادة له ومتى تمحضت
كان الزهد لصاحبها ضرورة فإنه يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ماهو بصدده وقطع
مواد طمعه اللاتى هى من أفسد شئ للقلب بل اصل المعاصى والفساد والفجور كله من
الطمع فالزهد يقطع مواده ويفرغ البال ويملأ القلب ويستحث الجوارح ويذهب الوحشة
التى بين العبد وبين ربه ويجلب الانس به ويقوى الرغبة فى ثوابه إن ضعف عن الرغبة
فى قربه والدنو منه وذوق حلاوة معرفته ومحبته فالزاهد أروح الناس بدنا وقلبا فإن
كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له فى إرادة الله والدار الآخرة بحيث فرغ قلبه لله وجعل
حرصه على التقرب إليه وشحه على وقته أن يضيع منه شئ فى غير ما هو أرضى الله وأحب
اليه كان من أنعم الناس عيشا واقرهم عينا وأطيبهم نفسا وأفرحهم قلبا فإن الرغبة فى
الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل وتطيل الهم والغم والحزن فهى عذاب حاضر يؤدى الى
عذاب منتظر أشد منه وتفوت على العبد من النعم اضعاف ما يروم تحصيله بالرغبه فى
الدنيا
قال الامام أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا يعنى بن
مسلم عن ابراهيم يعنى بن ميسرة عن طاووس قال قال رسول الله: "ان الزهد فى
الدنيا يريح القلب والبدن وأن الرغبة فى الدنيا تطيل الهم والحزن" وانما تحصل
الهموم والغموم والأحزان من جهتين احداهما الرغبة فى الدنيا والحرص عليها والثانى
التقصير فى أعمال البر والطاعة
قال عبد الله بن أحمد حدثنى بيان بن الحكم حدثنا محمد بن
حاتم عن بشر بن الحارث قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم قال قال رسول
الله: "اذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله عز وجل بالهم".
وكما أن الرغبة فى الدنيا أصل المعاصى الظاهرة فهى اصل
معاصى القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر وهذا كله من
ص -266-
امتلاء القلب بها لا من كونها فى اليد وامتلاء القلب بها ينافى الشكر ورأس الشكر
تفريغ القلب منها وامتداد المال كامتداد العمر والجاه فخيركم فى الدنيا من طال
عمره وحسن عمله فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره فنعم المرء وماله وجاهه اما أن
يرفعه درجات واما أن يضعه درجات
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر
وطريق الغنى والسعة فى الغالب طريق عطب فإن اتقى الله فى ماله ووصل به رحمه وأخرج
منه حق الله وليس مقصورا على الزكاة بل من حقه اشباع الجائع وكسوة العارى واغاثة
الملهوف واعانة المحتاج والمضطر فطريقه طريق غنيمة وهى فوق السلامة فمثل صاحب
الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه فهو يثاب على حسن صبره على حبسه
وأما الغنى فخطره عظيم فى جمعه وكسبه وصرفه فإذا سلم
كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه فى حقه كان أنفع له فالفقير كالمتعبد المنقطع عن
الناس والغنى المنفق فى وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد ولهذا جعله النبى
قرين الذى أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها فهو أحد المحسودين الذين لا ثالث
لهما والجهلة يغبطون المنقطع المتخلى المقصور النفع على نفسه ويجعلونه أولى بالحسد
من المنفق والعالم المعلم
فإن قيل: فأيهما افضل: من يختار الغنى المتصدق والانفاق
فى وجوه البر أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة ويرفه
قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا أم من لا يختار لا هذا ولا ذاك بل يختار
ما اختاره الله له فلا يعين باختباره واحدا من الامرين؟.
قيل هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح فمنهم من اختار
المال للجهاد به والانفاق وصرفه فى وجوه البر كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير
الصحابه وكان قيس بن سعد يقول اللهم انى من عبادك الذين لا يصلحهم الا الغنى ومنهم
من اختار الفقر والتقلل كأبى ذر
ص -267-
وجماعة من الصحابه معه وهؤلاء نظروا الى آفات الدنيا وخشوا الفتنة بها وأولئك
نظروا الى مصالح الانفاق وثمراته العاجلة والآجلة والفرقة الثالثة لم تختر شيئا بل
كان اختيارها ما اختاره الله لها وكذلك اختيار طول البقاء فى الدنيا لاقامة دين
الله وعبادته فطائفة اختارته وتمنته وطائفة أحبت الموت ولقاء الله والراحة من
الدنيا وطائفة ثالثة لم تختر هذا ولا ذاك بل اختارت ما يختاره الله لها وكان
اختيارهم معلقا بما يريده الله دون مراد معين منهم وهى حال الصديق رضى الله عنه
فإنهم قالوا له فى مرض موته ألا ندعو لك الطبيب فقال قد رآنى فقالوا فما قال لك
قال قال لى انى فعال لما أريد
والأولى حال موسى عليه السلام فإنه لما جاءه ملك الموت
لطمه ففقأ عينه ولم يكن ذلك حبا منه للدنيا والعيش فيها ولكن لينفذ أوامر ربه
ويقيم دينه ويجاهد أعداءه فكأنه قال لملك الموت أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور وأنا
فى تنفيذ أوامر ربى وإقامة دينه فلما عرضت عليه الحياة الطويلة وعلم أن الموت بعدها
اختار ما اختاره الله له
وأما نبينا صلوات الله وسلامه عليه فإن ربه أرسل إليه
يخبره وكان أعلم الخلق بالله فعلم أن ربه تبارك وتعالى يحب لقاءه ويختاره له
فاختار لقاء الله ولو علم أن ربه يحب له البقاء فى الدنيا لتنفيذ أوامره وإقامة
دينه لما اختار غير ذلك فكان اختياره تابعا لاختيار ربه عز وجل فكما أنه لما خيره
ربه عزوجل بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا وعلم أن ربه يختار له أن
يكون عبدا نبيا اختار ما اختاره الله له فكان اختياره فى جميع أموره تابعا لاختيار
الله له ولهذا يوم الحديبية احتمل ما احتمل من تلك الحال فى ذاك الوقت ووفى هذا
المقام حقه ولم يثبت عليه من كل وجه إلا الصديق فلم يكن له اختيار فى سوى ما
اختاره الله له ولأصحابه من تلك الحال التى تقرر الأمر عليها فكان راضيا بها
مختارا لها مشاهدا اختيار ربه لها وهذا غاية
العبودية
فشكر الله له ذلك وجعل شكرانه ما
ص -268- بشره به فى أول سورة الفتح حتى هنأه الصحابة به
وقالوا هنيئا لك يا رسول الله وحق له أن يهنأ بأعظم ما هنأ به بشر صلوات الله
وسلامه عليه
فصل: ومما ينبغى أن يعلم أن كل حصلة من حصال الفضل قد
أحل الله رسوله فى أعلاها وخصه بذروة سنامها فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق الأمة
التى تعرفت تلك الخصال وتقاسمتها على فضلها على عيرها أمكن الفرقة الأخرى أن تحتج
به على فضلها أيضا فإذا احتج به الغزاة والمجاهدون على أنهم افضل الطوائف احتج به
العلماء والفقهاء على مثل ما احتج به أولئك
واذا احتج به الزهاد والمتخلفون عن الدنيا على فضلهم
احتج به الداخلون فى الدنيا والولايه وسياسة الرعيه لاقامة دين الله وتنفيذ أمره
واذا احتج به الفقير الصابر احتج به الغنى الشاكر
واذا احتج به أهل العبادة على فضل نوافل العبادة
وترجيحها احتج به العارفون على فضل المعرفة
واذا احتج به أرباب التواضع والحلم احتج به أرباب العز
والقهر المبطلين والغلظه عليهم والبطش بهم
واذا احتج به ارباب الوقار والهيبه والرزانة احتج به
أرباب الخلق الحسن والمزاح المباح الذى لا يخرج عن الحق وحسن العشرة للأهل
والأصحاب
وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به فى المشهد
والمغيب احتج به أصحاب المدارة والحياء والكرم أن يبادروا الرجل بما يكرهه فى وجهه
وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود احتج به
الميسرون
ص -269-
المسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها
وإذا احتج به من صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه احتج
به من راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه فانه بعث لصلاح الدنيا والدين
وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالاسباب ولا ركن إليها
احتج به من قام بالاسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها
وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع احتج به من شبع وشكر
ربه على الشبع واذا احتج به من اخذ بالعفو والصفح والاحتمال احتج به من انتقم فى
مواضع الانتقام
واذا احتج به من أعطى لله ووالى لله احتج به من منع لله
وعادى لله
واذا احتج به من لم يدخر شيئا لغد احتج به من يدخر لأهله
قوت سنه
واذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والادم كخبز الشعير
والخل احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشوى والحلوى والفاكهة والبطيخ ونحوه
وإذا احتج به من سرد الصوم احتج به من سرد الفطر فكان
يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم
واذا احتج به من رغب عن الطيبات والمشتهيات احتج به من
أحب أطيب ما فى الدنيا وهو النساء والطيب
وإذا احتج به من الان جانبه وخفض جناحه لنسائه احتج به
من أدبهن وآلمهن وطلق وهجر وخيرهن
واذا احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه احتج به
من باشرها بنفسه فأجرو استأجر وباع واشترى واستسلف وادان ورهن.
ص -270-
واذا احتج به من يجتنب النساء بالكلية فى الحيض والصيام احتج به من يباشر امرأته
وهى حائض بغير الوطء ومن يقبل امرأته وهو صائم
واذا احتج به من رحم أهل المعاصى بالقدر احتج به من أقام
عليهم حدود الله فقطع السارق ورجم الزانى وجلد الشارب
واذا احتج به من أرباب الحكم بالظاهر احتج به ارباب
السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة فإنه حبس فى تهمة وعاقب فى تهمة
وأخبر عن نبى الله سليمان أنه عليه السلام حكم بالولد
للمرأة بالقرينة الظاهرة مع اعترافها لصاحبتها به فلم يحكم بالاعتراف الذى ظهر له
بطلائه بالقرينة وترجم أبو عبد الرحمن على الحديث ترجمتين احداهما قال التوسعه للحاكم
أن يقول للشئ الذى لا يفعله افعله ليستبين به الحق ثم قال الحكم بخلاف ما يعترف به
المحكوم عليه اذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به وكذلك الصحابة عملوا
بالقرائن فى حياته وبعده فقال على رضى الله عنه للمرأة التى حملت كتاب حاطب لتخرجن
الكتاب أولا لاجردنك وحد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل وفى الخمر بالرائحه
وحكى الله سبحانه عن شاهد يوسف حكاية مقرر غير منكر أنه
حكم بقرينة شق القميص من دبر على براءته وقال لابن أبى الحقيق وقد زعم ان النفقة
أذهبت كنز حيي بن أخطب: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك" فاعتبر قرينتين
دالتين على بقاء المال وعاقبه حتى اقر به وجوز لأولياء القتيل أن يحلفوا على رجل انه
قتله ويقتلونه به بناء على القرائن المرجحة صدقهم وشرع الله سبحانه رجم المرأة اذا
شهد عليها زوجها فى اللعان وأبت أن تلاعن للقرينه الظاهرة على صدقه
وشريعته طافحة بذلك لمن تأملها فالحكم بالقرائن الظاهرة
من نفس شريعته وما جاء به فهو حجة لقضاة الحق وولاة العدل كما أنه حجة على قضاة
السوء وولاة الجور والله المستعان.
ص -271- والمقصود بهذا الفصل أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به من الاغنياء الشاكرين وأحق الناس به أعلمهم بسنته وأتبعهم لها وبالله التوفيق.
عدة
الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب الخامس والعشرون في بيان الأمور المضادة للصبر
والمنافية له والقادحة فيه
الباب الخامس والعشرون: فى بيان الأمور المضادة للصبر
والمنافية له والقادحة فيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى الى غير الله والقلب
عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة
فمنه الشكوى الى المخلوق فإذا شكى العبد ربه الى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه الى
من لا يرحمه ولا تضاده الشكوى الى الله كما تقدم فى شكاية يعقوب الى الله مع قوله
فصبر جميل وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته
والتوصل الى زوال صرورة لم يقدح ذلك فى الصبر كإخبار المريض للطبيب بشكايته وإخبار
المظلوم لمن ينتصر به بحاله وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على
يديه وقد كان النبى إذا دخل على المريض يساله عن حاله ويقول كيف نجدك وهذا استخبار
منه واستعلام بحاله
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الامام
أحمد قال أبو الحسين أصحهما الكراهة لما روى عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض
وقال مجاهد كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم حتى أنينه في مرضه قال هؤلاء وإن الأنين
شكوى بلسان الحال ينافي الصبر
وقال عبد الله بن الامام أحمد قال لي أبي في مرضه الذي
توفي فيه اخرج إلي كتاب عبد الله بن ادريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن
أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث فقال اقرا على أحاديث ليث قال قلت لطلحة إن طاووس كان يكره
الأنين في المرض فلما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى ان
توفي.
ص -272-
والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر قال بكر بن محمد عن أبيه سئل احمد
عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال تعرف فيه شيئا عن رسول الله قال نعم حديث
عائشة وارأساه وجعل يستحسنه
وقال المروذي: دخلت على أبي عبد الله وهو مريض فسألته
فتغرغرت عينيه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
والتحقيق أن الأنين على قسمين انين شكوى فيكره وأنين
استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم
وقد روى في أثر: ان المريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر
بحاله لم يكن شكوى وقال شقيق البلخي من شكى من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد
في قلبه حلاوة لطاعة الله أبدا
فصل: والشكوى نوعان: شكوى بلسان القال وشكوى بلسان الحال
ولعلها أعظمها ولهذا امر النبي من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه واعظم من ذلك
من يشتكي ربه وهو بخير فهذا امقت الخلق عند ربه
قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن زيد حدثنا كهمس عن
عبد الله بن شقيق قال قال كعب الاحبار أن من حسن العمل سبحة الحديث ومن شر العمل
التحذيف
قيل لعبد الله: ما سبحة الحديث؟ قال سبحان الله وبحمده
في خلال الحديث قبل فما التحذيف قال يصبح الناس بخير فيسألون فيزعمون أنه بشر
فصل: ومما ينافي الصبر في شق الثياب عند المصيبة ولطم
الوجه والضرب بإحدى اليدين على الأخرى وحلق الشعر والدعاء بالويل ولهذا بريء النبي
ممن صلق وحلق وخرق صلق رفع صوته عند المصيبة
ص -273-
وحلق رأسه وشق ثيابه ولا ينافيه البكاء والحزن قال الله تعالى عن يعقوب
{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} قال قتادة كظيم على الحزن فلم يقل إلا
خيرا
وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن
ابن عباس عن النبي قال: "ما كان من العين والقلب فمن الله والرحمة وما كان من
اليد واللسان فمن الشيطان".
وقال هشيم عن عبد الرحمن بن يحيي عن حسان بن أبي جبلة
قال قال رسول الله: "من بث فلم يصبر".
وقال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي فرآني سعد بن جبير
متقنعا فقال إياك والتقنيع فإنه من الاستكانة وقاتل بكر بن عبد الله المزني كان
يقال من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة
وقال عبيد بن عمير: ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب
ولكن الجزع القول السيء والظن السيء
وسئل القاسم بن محمد عن الجزع فقال: القول السيء والظن
السيء ومات ابن لبعض قضاة البصرة فاجتمع إليه العلماء والفقهاء فتذاكروا ما يتبين
به جزع الرجل من صبره فاجمعوا انه إذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع
وقال الحسين ابن عبد العزيز الحوري مات ابن لي نفيس فقلت
لأمه اتقي الله واحتسبيه واصبري فقال مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع
وقال عبد الله بن المبارك أتى رجل يزيد بن يزيد وهو يصلي
وإبنه في الموت فقال ابنك يقضي وانت تصلي فقال الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه
يوما واحدا كان ذلك خللا في عمله.
ص -274-
وقال ثابت: أصيب عبد الله بن مطرف بمصيبة فرايته أحسن شئ شارة وأطيبه ريحا فذكرت
له ما رأيت فقال تأمرنى يا أبا محمد أن أستكين للشيطان وأريه أنه قد أصابنى سوء
والله يا أبا محمد لو كانت لى الدنيا كلها ثم أحذها منى ثم سقانى شربة يوم القيامة
ما رايتها ثمنا لتلك الشربة
ومما يقدح فى الصبر اظهار المصيبة والتحدث بها وكتمانها
رأس الصبر وقال الحسن بن الصباح فى مسنده حدثنا خلف بن تميم حدثنا زافر بن سليمان
عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله: "من البر
كتمان المصائب والامراض والصدقة" وذكر أنه من بث الصبر فلم يصبر
وروى من وجه آخر عن الحسن يرفعه:من البر كتمان المصائب
وما صبر من بث ولما نزل فى احدى عينى عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله
حتى جاء ابنه يوما من قبل عينيه فعلم أن الشيخ قد أصيب
ودخل رجل على داود الطائى فى فراشه فرآه يرجف فقال انا
لله وانا اليه راجعون فقال مه لا تعلم بهذا أحدا وقد أقعد قبل ذلك اربعة أشهر لا
يعلم بذلك أحد وقال مغيرة شكى الاحنف الى عمه وجع ضرسه فكرر ذلك عليه فقال ما تكرر
على لقد ذهبت عينى منذ أربعين سنة فما شكوتها الى أحد
فصل: ويضاد الصبر الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة
والمنع عند ورود النعمة قال تعالى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} وهذا تفسير الهلوع
قال الجوهرى: الهلع أفحش الجزع وقد هلع بالكسر فهو هلع
وهلوع
وفى الحديث: "شر ما فى العبد شح هالع وجبن خالع".
ص -275-
قلت هنا أمران: أمر لفظى وأمر معنوى فأما اللفظى فإنه وصف الشح بكونه هالعا
والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال هالع له فإنه لا يتعدى ففيه وجهان:
أحدهما: أنه على النسب كقولهم ليل نائم وسر كاتم ونهار
صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب أى ذو كذا كما قالوا تامر ولابن
والثانى: أن اللفظه غيرت عن بابها للازدواج مع خالع وله
نظير
وأما المعنوى: فإن الشح والجبن أردى صفتين فى العبد ولا
سيما اذا كان شحه هالما أى ملق له فى الهلع وجبنه خالعا اى قد خلع قلبه من مكانه
فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه كما يقال لا طعنة ولا جفنة ولا يطرد ولا
يشرد بل قد قمعه وصغره وحقره ودساه الشح والخوف والطمع والفزع واذا أردت معرفة
الهلوع فهو الذى اذا اصابه الجوع مثلا أظهر الاستجاعه واسرع بها واذا أصابه الالم
اسرع الشكايه وأظهرها واذا أصابه القهر أظهر الاستطامه والاستكانه وباء بها سريعا
واذا اصابه الجوع أسرع الانطراح على جنبه وأظهر الشكايه واذا بدا له مأخذ طمع طار
اليه سريعا واذا ظفر به أحله من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا أفضال وهذا كله من
صغر النفس ودناءتها وتدسيسها فى البدن واخفائها وتحقيرها والله المستعان.
عدة
الصابرين وذخيرة الشاكرين
الباب السادس والعشرون في بيان دخول الصبر في صفات الرب
جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور
الباب السادس والعشرون
فى بيان دخول الصبر والشكر فى صفات الرب جل جلاله
وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة الا ذلك لكفى به
أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيها
له بصيغة المبالغة ففى الصحيحين من حديث الاعمش عن سعيد بن جبير عن أبى عبد الرحمن
السلمى عن ابى موسى عن النبى قال: "ما أحد أصبر على
ص -276-
اذى سمعه من الله عز وجل يدعون له ولدا وهو يعافيهم ويرزقهم".
وفى أسمائه الحسنى الصبور وهو من أمثلة المبالغة أبلغ من
الصابر والصبار وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة منها أنه
عن قدرة تامة ومنها أنه لا يخاف الغوث والعبد انما يستعجل الخوف الغوث ومنها أنه
لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما وظهور اثر الاسم فى العالم مشهود
بالعيان كظهور اسمه الحليم والفرق بين الصبر والحلم أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه
فعلى قدر حلم العبد يكون صبره فالحلم فى صفات الرب تعالى أوسع من الصبر ولهذا جاء
اسمه الحليم فى القرآن فى غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان
الله عليما حليما والله عليم حليم
وفى أثر: أن حملة العرش أربعة: إثنان يقولان سبحانك
اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وإثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك
الحمد على عفوك بعد قدرتك فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز والرب تعالى يحلم
مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته وما أضيف شئ الى شئ أزين من حلم الى علم ومن عفو
الى اقتدار ولهذا كان فى دعاء الكرب وصف سبحانه بالحلم مع العظمة وكونه حليما من
لوازم ذاته سبحانه.
وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له
سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله الى تعجيل العقوبة بل يصبر على
عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه حتى اذا لم يبق فيه موضع للصنيعه ولا يصلح
على الامهال والرفق والحلم ولا ينيب الى ربه ويدخل عليه لا من باب الاحسان والنعم
ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الأعذار اليه وبذل النصيحة
له ودعائه اليه من كل باب وهذا كله من موجبات صفة حلمه وهى صفة ذاتية له لا تزول.
ص -277-
وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التى توجد لوجود الحكمة وتزول
بزوالها فتأمله فإنه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعشره وقل من تنبه له ونبه عليه
وأشكل على كثير منهم هذا الاسم وقالوا لم يأت فى القرآن فأعرضوا عن الاشتغال به
صفحا ثم اشتغلوا بالكلام فى صبر العبد وأقسامه ولو أنهم أعطوا هذا الاسم حقه
لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق كما هو أحق باسم العليم والرحيم
والقدير والسميع والبصير والحى وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين وأن التفاوت الذى
بين صبره سبحانه وصبرهم كالتفاوت الذى بين حياته وحياتهم وعلمه وعلمهم وسمعه
وأسماعهم وكذا سائر صفاته.
ولما علم ذلك أعرف خلقه به قال لا أحد أصبر على أذى سمعه
من الله فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره مع أنه صبر مع
كمال علم وقدرة وعظمة وعزة وهو صبر من أعظم مصبور عليه فإن مقابلة أعظم العظماء وملك
الملوك وأكرم الأكرمين ومن احسانه فوق كل احسان بغاية القبح وأعظم الفجور وأفحش
الفواحش ونسبته الى كل ما لا يليق به والقدح فى كماله وأسمائه وصفاته والإلحاد فى
آياته وتكذيب رسله عليهم السلام ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى وتحريق أوليائه
وقتلهم واهانتهم أمر لا يصبر عليه الا الصبور الذى لا أحد اصبر منه ولا نسبة لصبر
جميع الخلق من أولهم الى آخرهم الى صبره سبحانه.
واذا اردت معرفة صبر الرب تعالى وحلمه والفرق بينهما
فتأمل قوله تعالى ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من
أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وقوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا
تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله
{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} على قراءة من فتح اللام.
ص -278-
فأخبر سبحانه أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والارض فالحلم وامساكهما أن
تزولا هو الصبر فبحلمه صبر عن معالجة أعدائه.
وفى الآية اشعار بأن السموات والارض تهم وتستأذن بالزوال
لعظم ما يأتى به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته وذلك حبس عقوبته عنهم وهو حقيقة
صبره تعالى فالذى عنه الامساك هو صفة الحلم والامساك هو الصبر وهو حبس العقوبة
ففرق بين حبس العقوبة وبين ما صدر عنه حبسها فتأمله
وفى مسند الامام أحمد مرفوعا: "ما من يوم الا
والبحر يستأذن ربه أن يغرق بنى آدم" وهذا مقتضى الطبيعة لأن كرة الماء تعلو
كرة التراب بالطبع ولكن الله يمسكه بقدرته وحلمه وصبره
وكذلك خرور الجبال وتفطير السموات الرب تعالى يحبسها عن
ذلك بصبره وحلمه فإن ما يأتى به الكفار والمشركون والفجار فى مقابلة العظمة
والجلال والإكرام يقتضى ذلك فجعل سبحانه فى مقابلة هذه الاسباب أسبابا يحبها ويرضاها
ويفرح بها أكمل فرح وأتمه تقابل تلك الأسباب التى هي سبب زوال العالم وخرابه فدفعت
تلك الأسباب وقاومتها.
وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه وغلبتها له وسبقها
اياه فغلب اثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب ولهذا استعاذ النبى بصفة
الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ثم جمع الامرين فى الذات اذ هما
قائمان بها فقال أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك فإن ما
يستعاذ به هو صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه فهو الذى أذن فى وقوع الاسباب
التى يستعاذ منها خلقا وكونا فمنه السبب والمسبب وهو الذى حرك الانفس والابدان
وأعطاها قوى التاثير وهو الذى أوجدها وأعدها ومدها وسلطها على ما شاء وهو الذى
يمسكها إذا شاء ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها.
ص -279-
فتأمل ما تحت قوله: "أعوذ بك منك" من محض التوحيد وقطع الالتفات الى
غيره وتكميل التوكل عليه تعالى والاستعانة به وحده وافراده بالخوف والرجاء ودفع
الضر وجلب الخير وهو الذى يمس بالضر بمشيئته وهو الذى يدفعه بمشيئته وهو المستعاذ
بمشيئته من مشيئته وهو المعيذ من فعله بفعله وهو الذى سبحانه خلق ما يصبر عليه وما
يرضى به فاذا أغضبه معاصى الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم ارضاه تسبيح ملائكته وعبادة
المؤمنين له وحمدهم اياه وطاعتهم له فيعيذ رضاه من غضبه
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: ليس عند ربكم ليل
ولا نهار نور السموات والارض من نور وجهه وان مقدار يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة
ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالامس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها
على ما يكره فيغضبه ذلك فأول ما يعلم بغضبه حملة العرش يجدونه يثقل عليهم فتسبحه
حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة حتى ينفخ جبريل فى
القرن فلا يبقى شئ الا يسمع فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن رحمة فتلك
ست ساعات قال ثم يؤتى بالارحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله تعالى هو الذى
يصوركم فى الارحام كيف يشاء ويهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم
ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالارزاق فينظر فيها
ثلاث ساعات فذلك قوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ} قال هذا شأنكم وشأن ربكم + رواه أبو القاسم الطبرانى فى السنة +
وعثمان بن سعيد الدارمى وشيخ الاسلام الانصارى وابن مندة وابن خزيمة وغيرهم
ولما ذكر سبحانه فى سورة الانعام أعداءه وكفرهم وشركهم
وتكذيب
ص -280-
رسله ذكر فى أثر ذلك شأن خليله ابراهيم وما اراه من ملكوت السموات والارض وما حاج
به قومه فى اظهار دين الله وتوحيده ثم ذكر الانبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم
الكتاب والحكم والنبوة ثم قال {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.
فأخبر أنه سبحانه كما جعل فى الارض من يكفر به ويجحد
توحيده ويكذب رسله كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويصدق بما
كذبوا به ويحفظ من حرماته ما أضاعوه وبهذا تماسك العالم العلوى والسفلى والا فلو تبع
الحق أهواء أعدائه لفسدت السموات والارض ومن فيهن ولخرب العالم ولهذا جعل سبحانه
من أسباب خراب العالم رفع الاسباب الممسكه له من الارض وهى كلامه وبيته ودينه
والقائمون به فلا يبقى لتلك الاسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها
ولما كان اسم الحليم أدخل فى الاوصاف واسم الصبور فى الافعال كان الحلم أصل الصبر
فوقع الاستغناء بذكره فى القرآن عن اسم الصبور والله أعلم.
فصل: وأما تسميته سبحانه بالشكور فهو فى حديث أبى هريرة
وفى القرآن تسميته شاكرا قال الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}
وتسميته أيضا شكور.
قال الله تعالى {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} وقال تعالى
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} فجمع لهم
سبحانه بين الأمرين أن شكر سعيهم وأثابهم عليه والله تعالى يشكر عبده إذا أحسن
طاعته ويغفر له اذا تاب اليه فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه ومغفرته لاساءته انه غفور
شكور
وقد تقدم فى الباب العشرين ذكر حقيقة شكر العبد وأسبابه
ووجوهه وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر كشأن صبره فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور
بل هو الشكور على الحقيقة فإنه يعطى
ص -281-
العبد ويوفقه لما يشكره عليه ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره
ويشكر الحسنة بعشر أمثالها الى أضعاف مضاعفة ويشكر عبده بقوله بأن يثنى عليه بين
ملائكته وفى ملئه الأعلى ويلقى له الشكر بين عباده ويشكره بفعله فإذا ترك له شيئا
أعطاه أفضل منه وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة وهو الذى وفقه للترك
والبذل وشكره على هذا وذاك.
ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبا له اذ شغلته عن ذكره
فاراد ألا تشغله مرة أخرى أعاضه عنها متن الريح ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا
منها فى مرضاته أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم.
ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكن له
فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر
لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها
الى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه ولما بذل رسله أعراضهم فيه
لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم
أطيب الثناء فى سمواته وبين خلقه فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار.
ومن شكره سبحانه أنه يجازى عدوه بما يفعله من الخير
والمعروف فى الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الاحسان
وهو من أبغض خلقه اليه ومن شكره أنه غفر للمرأة البغى بسقيها كلبا كان قد جهده
العطش حتى أكل الثرى وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين.
فهو سبحانه يشكر العبد على احسانه لنفسه والمخلوق انما
يشكر من أحسن اليه وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذى أعطى العبد ما يحسن به الى
نفسه وشكره على قليله بالاضعاف المضاعفة التى لا نسبة لإحسان
ص -282-
العبد اليها فهو المحسن بإعطاء الاحسان وإعطاء الشكر فمن أحق باسم الشكور منه
سبحانه!.
وتأمل قوله سبحانه { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} كيف تجد فى ضمن
هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأبى اضاعة سعيهم باطلا
فالشكور لا يضبع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء.
وفى هذا رد لقول من زعم أنه سبحانه يكلفه مالا يطيقه ثم
يعذبه على مالا يدخل تحت قدرته تعالى الله عن هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل
علوا كبيرا فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من
لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص التى تنافى
كماله وغناه وحمده
ومن شكر سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة
من خير ولا يضيع عليه هذا القدر ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاما
يرضيه بين الناس فيشكره له وينوه بذكره ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين كما شكر
لمؤمن آل فرعون ذلك المقام وأثنى به عليه ونوه بذكره بين عباده وكذلك شكره لصاحب
يس مقامه ودعوته اليه فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته الا هالك فإنه سبحانه غفور
شكور يغفر الكثير من الزلل ويشكر القليل من العمل.
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه
اليه من اتصف بصفة الشكر كما أن أبغض خلقه اليه من عطلها واتصف بضدها وهذا شأن
اسمائه الحسنى أحب خلقه اليه من اتصف بموجبها وأبغضهم اليه من اتصف باضدادها ولهذا
يبغض الكفور الظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمهين واللئيم وهو سبحانه
جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء رحيم يحب الراحمين محسن يحب المحسنين شكور يحب
ص -283-
الشاكرين صبور يحب الصابرين جواد يحب أهل الجود ستار يحب أهل الستر قادر يلوم على
العجز والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف عفو يحب العفو وتر يحب الوتر وكل
ما يحبه فهو من آثار اسمائه وصفاته وموجبها وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها.
ص -284- خاتمة
يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة قد رفع لك
علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس
والعمل والتقصير فما ابقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول هذه منجيتى من عذاب
السعير ما المعول إلا على عفوه ومفغرته فكل أحد إليهما فقير أبوء لك بنعمتك على
وأبوء بذنبى فاغفر لى أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور ما تساوى أعمالك لو
سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه عليك وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك
فهل رعيتها بالله حق رعايتها وهى فى تصريفك وطوع يديك فتعلق بحبل الرجاء وادخل من
باب التوبة والعمل الصالح انه غفور شكور.
نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها وعرفه طرق تحصيل
السعادة وأعطاه أسبابها وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها
وعقابها وقال إن أطعت فبفضلى وأنا أشكر وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور.
أزاح عن العبد العلل وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل
ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن ربنا لغفور شكور
أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه اليه ووعده على إحسانه
لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين
يديه ان ربنا لغفور شكور.
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها وعكفت بكرمه آمال
المحسنين فما
ص -285-
قطع طمعها وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمعها ووسع الخلائق عفوه
ومغفرته ورزقه فما من دابة فى الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها
ان ربنا لغفور شكور.
يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال ويعطى سائله ومؤمله
فوق ما تعلقت به منهم الآمال ويغفر لمن تاب اليه ولو بلغت ذنوبه عدد الآمواج
والحصى والتراب والرمال ان ربنا لغفور شكور
ارحم بعباده من الوالدة بولدها وأفرح بتوبة التائب من
الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة اذا وجدها وأشكر للقليل
من جميع خلقه فمن تقرب اليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها ان ربنا لغفور شكور
تعرف الى عباده بأسمائه وأوصافه وتحبب اليهم بحلمه وآلائه ولم تمنعه معاصيهم بأن
جاد عليهم بآلائه ووعد من تاب اليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه ان ربنا
لغفور شكور.
السعادة كلها فى طاعته والأرباح كلها فى معاملته والمحن
والبلايا كلها فى معصيته ومخالفته فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته ان ربنا لغفور
شكور أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذى كتبه ان رحمته تغلب
غضبه ان ربنا لغفور شكور.
يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله ويعصى فيحلم ومعصية
العبد من ظلمه وجهله ويتوب اليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قط من أهله
ان ربنا لغفور شكور.
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان
والسيئة عنده بواحدة ومصيرها الى العفو والغفران وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات
والارض الى آخر الزمان ان ربنا لغفور شكور.
بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار وسماء عطاه لا
تقلع عن الغيث بل هى مدرار ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ان ربنا
لغفور شكور.
لا يلقى وصاياه الا الصابرون ولا يفوز بعطاياه الا
الشاكرون ولا يهلك
ص -286-
عليه الا الهالكون ولا يشقى بعذابه الا المتمردون ان ربنا لغفور شكور
فإياك أيها المتمرد أن ياخذك على غرة فإنه غيور واذا
أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور وبشراك ايها
التائب بمغفرته ورحمته أنه غفور شكور.
من علم أن الرب شكور تفوع فى معاملته ومن عرف أنه واسع
المغفرة تعلق بأذيال مغفرته ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته ان ربنا
لغفور شكور.
من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه ومن
سار اليه بأسمائه الحسنى وصل اليه ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته وكانت آثر شئ لديه
حياة القلوب فى معرفته ومحبته وكمال الجوارح فى التقرب إليه بطاعته والقيام بخدمته
والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته فأهل شكره أهل زيادته وأهل ذكره أهل
مجالسته وأهل طاعته أهل كرامته وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا فهو
حبيبهم وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب ليكفر عنهم الخطايا
ويطهرهم من المعائب انه غفور شكور.
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما
يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله حمدا يملا السموات والارض
ومابينهما وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع حمده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم
على نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم عدد ما حمد الحامدون وغفل عن ذكره الغافلون
وعدد ما جرى به قلمه واحصاه كتابه واحاط به علمه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين وعلى
سائر الانبياء والمرسلين ورضى الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أقسام الكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق