كتاب : البرهان في علوم القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
وبمعنى على كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ}.
بدليل قوله : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}.
وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}.
لما في الكلام من معنى الاستعلاء.
وقيل: ظرفية لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور فلذلك جاز أن يقال في.
وقيل: إنما آثر لفظة في للإشعار بسهولة صلبهم لأن على تدل على نبو يحتاج فيه إلى تحرك إلى فوق.
وبمعنى إلى نحو: {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}
{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}
وبمعنى من: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}
وللمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق كقوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}
وللتوكيد كقوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا}
وبمعنى بعد: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي بعد عامين
وبمعنى عن كقوله: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى}قيل لما نزلت: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}،لم يسمعوا ولم يصدقوا فنزل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى}. أي عن النعيم الذي قلناه ووصفناه في الدنيا فهو في نعيم الآخرة أعمى إذ لم يصدق
قد
تدخل على الماضي المتصرف وعلى المضارع بشرط تجرده عن الجازم والناصب وحرف التنفيس.
وتأتي لخمس معان: التوقع والتقريب والتقليل والتكثير والتحقيق.
فأما
التوقع فهو نقيض ما التي للنفي وتدخل على الفعل المضارع نحو قد يخرج زيد
تدل على أن الخروج متوقع أي منتظر وأما مع الماضي فلا يتحقق الوقوع بمعنى
الانتظار لأن الفعل قد وقع وذلك ينافي كونه منتظرا ولذلك استشكل بعضهم
كونها للتوقع مع الماضي ولكن معنى التوقع فيه أن "قد" تدل على أنه كان
متوقعا منتظرا ثم صار ماضيا ولذلك تستعمل في الأشياء المترقبة.
وقال الخليل: إن قولك قد قعد كلام لقول ينتظرون الخير ومنه قول المؤذن قد قامت الصلاة لأن الجماعة منتظرون
وظاهر كلام ابن مالك في تسهيله أنها لم تدخل على المتوقع لإفادة كونه متوقعا بل لتقريبه من الحال انتهى.
ولا يبعد أن يقال إنها حينئذ تفيد المعنيين
واعلم
أنه ليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جوابا لمتوقع كقوله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} لأن القوم توقعوا علم حالهم عند الله
وكذلك قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
لأنها كانت تتوقع إجابة الله تعالى لدعائها.
وأما
التقريب فإنها ترد للدلالة عليه مع الماضي فقد فتدخل لتقريبه من الحال
ولذلك تلزم قد مع الماضي إذا وقع حالا كقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وأما ما ورد دون قد فقوله تعالى: {هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ،فـ "قد" فيه مقدرة هذا مذهب المبرد
والفراء وغيرهما.
وقيل: لا يقدر قبله قد.
وقال ابن عصفور: إن جواب
القسم بالماضي المتصرف المثبت إن كان قريبا من زمن الحال دخلت عليه قد
واللام نحو والله لقد قام زيد وإن كان بعيدا لم تدخل نحو والله لقام زيد.
وكلام الزمخشري: يدل على أن قد مع الماضي في جواب القسم للتوقع قال في الكشاف عند قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ}
في سورة الأعراف فإن قلت مالهم لا يكادون ينطقون باللام إلا مع قد وقل عندهم مثل قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر.
لناموا فما إن حديث ولا صال
قلت:
إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها
التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع
المخاطب كلمة القسم
وقال ابن الخباز: إذا دخلت قد على الماضي أثرت
فيه معنيين تقريبه من زمن الحال وجعله خبرا منتظرا فإذا قلت قد ركب الأمير
فهو كلام لقوم ينتظرون حديثك هذا تفسير الخليل انتهى.
وظاهرة أنها تفيد المعنيين معا في الفعل الواحد.
ولا يقال إن معنى التقريب ينافي معنى التوقع لأن المراد به ما تقدم تفسيره.
وكلام الزمخشري في المفصل يدل على أن التقريب لا ينفك عن معنى التوقع.
وأما
التقليل فإنها ترد له مع المضارع إما لتقليل وقوع الفعل نحو قد يجود
البخيل وقد يصدق الكذوب أو للتقليل لمتعلق كقوله تعالى {قَدْ يَعْلَمُ مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . أي ما هم عليه هو أقل معلوماته سبحانه.
وقال
الزمخشري: هي للتأكيد وقال: إن" قد" إن دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما
فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير والمعنى إن جميع السموات والأرض
مختصا به خلقا وملكا وعلما فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين
وقال في سورة
الصف: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ} قد معناها التوكيد كأنه قال تعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه
ونص ابن مالك على أنها كانت للتقليل صرفت المضارع إلى الماضي
وقد
نازع بعض المتأخرين في أن "قد" تفيد التقليل مع أنه مشهور ونص عليه
الجمهور فقال قد تدل على توقع الفعل عمن أسند إليه وتقليل المعنى لم يستفد
من قد بل لو قيل البخيل يجود والكذوب يصدق فهم منه التقليل لأن الحكم على
من شأنه
البخل بالجود وعلى من شأنه الكذب بالصدق إن لم يحمل ذلك على صدور ذلك قليلا كان الكلام كذبا لأن آخره يدفع أوله.
وأما التكثير فهو معنى غريب وله من التوجيه نصيب وقد ذكره جماعة من المتأخرين
وجعل منه الزمخشري: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}
وجعلها غيره للتحقيق.
وقال ابن مالك: إن المضارع هنا بمعنى الماضي أي قد رأينا.
وأما
التحقيق فترد لتحقيق وقوع المتعلق مع المضارع والماضي لكنه قد يرد والمراد
به المضي كما في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ}
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ}
{قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}
وقال الراغب: إن دخلت على الماضي اجتمعت لكل فعل متجدد نحو: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ}
ولهذا لا تستعمل في أوصاف الله لا يقال قد كان الله غفورا رحيما
فأما
قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} ،فهو متأول للمرضى في المعنى كما
أن النفي في قولك: ما علم الله زيد يخرج هو للخروج وتقديره وما يخرج زيد
فيما علم الله وإن دخلت على المضارع فذلك لفعل يكون في حاله نحو: {قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ}
أي قد يتسللون فيما علم الله
الكاف
للتشبيه نحو: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} وهو كثير
وللتعليل كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} ،قال الأخفش: أي لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم فاذكروني.
وهو ظاهر في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}
وجعل ابن برهان النحوي منه قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
وللتوكيد: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس شيء مثله وإلا لزم إثبات المثل.
قال ابن جني: وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا.
وقال
غيره: الكاف زائدة لئلا يلزم إثبات المثل لله تعالى وهو محال لأنها تفيد
نفي المثل عن مثله لا عنه لأنه لولا الحكم بزيادتها لأدى إلى محال آخر وهو
أنه إذا لم يكن مثل شيء لزم إلا يكون شيئا لأن مثل المثل مثله.
وقيل: المراد مثل الشيء ذاته وحقيقته كما يقال مثلي لا يفعل كذا أي أنا لا أفعل وعلى هذا لا تكون زائدة.
وقال ابن فورك: هي غير زائدة والمعنى ليس مثل مثله شيء وإذا نفيت التماثل عن الفعل فلا مثل لله على الحقيقة
قال
صاحب المستوفى: ولتأكيد الوجود كقوله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا
كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}، أي أن تربيتهما لي قد وجدت كذلك أوجد رحمتك
لهما يا رب
كان
تأتي للمضي وللتوكيد وبمعنى القدرة كقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}. أي ما قدرتم.
وبمعنى
ينبغي كقوله: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي لم ينبغ
لنا. وتكون زائدة كقوله تعالى: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
أي بما يعملون لأنه قد كان عالما ما علموه من إيمانهم به.
وقد سبقت في مباحث الأفعال
كأن
للتشبيه المؤكد ولهذا جاء: {كَأَنَّهُ هُوَ}.
دون غيرها من أدوات التشبيه ولليقين كما في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ}، على ما سيأتي.
وقد تخفف قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}
كأين
بمعنى
كم للتكثير لأنها كناية عن العدد قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} . وفيها قراءتان كائن على وزن
قائل وبائع وكأين بتشديد الياء
قال ابن فارس: سمعت بعض أهل القرية يقول ما أعلم كلمة تثبت فيها النون خطا غيره هذه
كاد
بمعنى قارب وسبقت في مباحث الأفعال
كلا
قال سيبويه حرف ردع وزجر.
قال
الصفار إنها تكون اسما للرد إما لرد ما قبلها وإما لرد ما بعدها كقوله
تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} هي رد
لما قبلها لأنه لما قال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ}. كان إخبارا بأنهم لا يعلمون الآخرة ولا يصدقون بها فقال:
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فلا يحسن الوقف عليها هنا إلا لتبيين ما بعدها
ولو لم يفتقر لما بعدها لجاز الوقف.
وقوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كُلاً} هي رد لما قبلها فالوقف عليها حسن انتهى.
وقال
ابن الحاجب: شرطه أن يتقدم ما يرد بها ما في غرض المتكلم سواء كان من كلام
غير المتكلم على سبيل الحكاية أو الإنكار أو من كلام غيره.
كقوله
تعالى: {كُلاً}. بعد قوله: {يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ} وكقوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
قَالَ كَلاَّ}
وكقولك: أنا أهين العالم!كلا انتهى
وهي نقيض إي في الإثبات كقوله: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ}
وقوله: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ}
وقوله:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً
كَلاَّ} وتكون بمعنى حقا صلة لليمين كقوله: {كَلاَّ وَالْقَمَرِ}
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً}
وقوله:
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}،{كَلاَّ
إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}،{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ
الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}
وأما قوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كُلاً}
فيحتمل الأمرين.
وقد اختلف القراء في الوقف عليها.
فمنهم من يقف عليها أينما وقعت وغلب عليها معنى الزجر.
ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ويبتدئ بها وغلب عليها معنى الزجر.
ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ويبتدئ بها وغلب عليها أن تكون لتحقيق ما بعدها
ومنهم من نظر إلى المعنيين فيقف عليها إذا كانت بمعنى الردع ويبتدئ بها إذا كانت بمعنى التحقيق وهو أولى
ونقل
ابن فارس عن بعضهم أن ذلك وهذا نقيضان لـ "لا" وأن كذلك نقيض لـ "كلا"
كقوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ}. على
معنى ذلك كما قلنا وكما فعلنا.
ومثله: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}
قال:
ويدل على هذا المعنى دخول الواو بعد قوله ذلك وهذا لأن ما بعد الواو يكون
معطوفا على ما قبله بها وإن كان مضمرا وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
ثم قال{كَذَلِكَ} أي كذلك فعلنا ونفعله من التنزيل وهو كثير
وقيل:
إنها إذا كانت بمعنى لا فإنها تدخل على جملة محذوفة فيها نفي لما قبلها
والتقدير ليس الأمر كذلك وهي على هذا حرف دال على هذا المعنى ولا تستعمل
عند خلاف النحويين بهذا المعنى إلا في الوقف عليها ويكون زجرا وردا أو
إنكارا لما قبلها وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد والزجاج وغيرهم
لأن فيها معنى التهديد والوعيد ولذلك لم تقع في القرآن إلا في سورة مكية
لأن التهديد والوعيد أكثر ما نزل بمكة لأن أكثر عتو المشركين وتجبرهم بمكة
فإذا رأيت سورة فيها كلا فأعلم أنها مكية
وتكون كلا بمعنى حقا عند
الكسائي فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها فتكون في موضع المصدر ويكون موضعها
نصبا على المصدر والعامل محذوف أي أحق ذلك حقا
ولا تستعمل بهذا المعنى عند حذاق النحويين إلا إذا ابتدئ بها لتأكيد ما بعدها.
وتكون
بمعنى ألا فيستفتح بها الكلام وهي على هذا حرف وهذا مذهب أبي حاتم واستدل
على أنها للاستفتاح أنه روي أن جبريل نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس آيات من سورة العلق ولما قال:
{عَلَّمَ
الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. طوى النمط فهو وقف صحيح ثم لما نزل بعد
ذلك: {كَلاَّ إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى} فدل على أن الابتداء بـ "كلا"
من طريق الوحي فهي في الابتداء بمعنى ألا عنده.
فقد حصل لـ "كلا" معاني النفي في الوقف عليها وحقا وألا في الابتداء بها.
وجميع كلا في القرآن ثلاثة وثلاثون موضعا في خمس عشرة سورة ليس في النصف الأول من ذلك شيء
وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}.
على معنى ألا واختار قوم جعلها بمعنى حقا وهو بعيد لأنه يلزم فتح إن بعدها ولم يقرأ به أحد
كل
اسم
وضع لضم أجزاء الشيء على جهة الإحاطة من حيث كان لفظه مأخوذا من لفظ
الإكليل والكلة والكلالة مما هو للإحاطة بالشيء وذلك ضربان أحدهما انضمام
لذات الشيء وأحواله المختصة به وتفيد معنى التمام كقوله تعالى: {وَلا
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}.
أي بسطا تاما {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}. ونحوه.
والثاني انضمام الذوات وهو المفيد للاستغراق.
ثم إن دخل على منكر أوجب عموم أفراد المضاف إليه أو على معرف أوجب عموم أجزاء ما دخل عليه.
وهو ملازم للأسماء ولا يدخل على الأفعال.
وأما قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}. فالتنوين بدل من المضاف أي كل واحد.
وهو لازم للإضافة معنى ولا يلزم إضافته لفظا إلا إذا وقع تأكيدا أو نعتا وإضافته منوية عند تجرده منها
ويضاف
تارة إلى الجمع المعرف نحو كل القوم ومثله اسم الجنس نحو: {كُلُّ
الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} وتارة إلى ضميره نحو:
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَرْداً} {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.
وإلى
نكرة مفردة نحو: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} {وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
وربما
خلا من الإضافة لفظا وينوي فيه نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ}{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَرْداً}{كُلاً هَدَيْنَا}{كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}{وَكُلاً
ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} وهل تنوينه حينئذ عوض أو تنوين صرف؟ قولان.
قال
أبو الفتح: وتقديمها أحسن من تأخيرها لأن التقدير كلهم فلو أخرت لباشرت
العوامل مع أنها في المعنى منزلة منزلة ما لا يباشره فلما تقدمت أشبهت
المرتفعة بالابتداء في أن كلا منهما لم يل عاملا في اللفظ وأما كل المؤكد
بها فلازمة للإضافة.
وتحصل لها ثلاثة أحوال:
مؤكدة ومبتدأ بها مضافة ومقطوعة عن الإضافة.
فأما المؤكدة فالأصل فيها أن تكون توكيدا للجملة أو ما هو في حكم الجملة مما يتبعض لأن موضوعها الإحاطة كما سبق
وأما المضافة غير المؤكدة فالأصل فيها أن تضاف إلى النكرة الشائعة في الجنس لأجل
معنى
الإحاطة وهو إنما ما يطلب جنسا يحيط به فإن أضفته إلى جملة معرفة نحو كل
إخوتك ذاهب قبح إلا في الابتداء إلا أنه إذا كان مبتدأ وكان خبره مفردا
تنبيها على أن أصله الإضافة للنكرة لشيوعها.
فإن لم يكن مبتدأ وأضفته
إلى جملة معرفة نحو ضربت كل إخوتك وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة
ما قبله لأنك لم تضفه إلى جنس ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى
إضافته إلى جنس معرف بالألف واللام حسن ذلك كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا
بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
لأن الألف واللام للجنس ولو كانت للعهد لم يحسن لمنافاتها معنى الإحاطة.
ويجوز أن يؤتى بالكلام على أصله فتؤكد الكلام بـ "كل" فتقول خذ من الثمرات كلها.
فإن
قيل فإذا استوى الأمران في قوله كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها فما
الحكمة في اختصاص أحد الجائزين في نظم القرآن دون الآخر؟
قال السهيلي
في النتائج: له حكمة وهو أن من في الآية لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور
في موضع المفعول لا في موضع الظرف وإنما يريد الثمرات أنفسها لأنه أخرج
منها شيئا وأدخل من لبيان الجنس كله ولو قال أخرجنا به من الثمرات كلها
لقيل أي شيء أخرج منها وذهب التوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وإن مفعول:
{أُخْرِجْنَا} فيما بعد وهذا يتوهم مع تقدم كل لعلم المخاطبين أن كلا
إذا تقدمت اقتضت الإحاطة بالجنس وإذا تأخرت اقتضت الإحاطة بالمؤكد بتمامه جنسا شائعا كان أو معهودا.
وأما
قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}. ولم يقل من الثمرات
كلها ففيه الحكمة السابقة وتزيد فائدة وهي أنه قد تقدمها في النظم: {وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} الآية.
فلو قال بعدها: ثم كلي من الثمرات كلها لأوهم أنها للعهد المذكور قبله فكان الابتداء بـ "كل" أحضر للمعنى وأجمع للجنس وأرفع للبس.
وأما
المقطوع عن الإضافة فقال السهيلي حقها أن تكون مبتدأة مخبرا عنها أو
مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها كقولك
كلا ضربت وبكل مررت فلا بد من مذكورين قبلها لأنه إن لم يذكر قبلها جملة
ولا أضيفت إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ولم يعقل لها معنى.
واعلم أن لفظ كل لأفراد التذكير ومعناه بحسب ما يضاف إليه والأحوال ثلاثة:
فالأول:
أن يضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا في
قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} {وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ}.
ومفردا مؤنثا في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
ومجموعا مذكرا في قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
في معنى الجمع لأنه اسم جمع.
وما
ذكرناه من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ كل قد أوردوا عليه نحو
قوله تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}.
وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ}.
وقوله: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى}
وأجيب بأن الجمع في الأولى باعتبار الأمة.
وكذلك في الثانية فإن الضامر اسم جمع كالجامل والباقر.
وكذلك في الثالثة إنما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام فلا يلزم عوده إلى كل.
وزعم
الشيخ أثير الدين في تفسيره: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ،ثم قال:
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أنه مما روعي فيه المعنى بهذا اللفظ.
وليس كذلك فإن الضمير لم يعد إلى كل بل على الأفاكين الدالة عليه: {لِكُلِّ أَفَّاكٍ}
. وأيضا فهاتان جملتان والكلام في الجملة الواحدة.
الثاني:
أن تضاف إلى معرفة فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها سواء كانت الإضافة
لفظا نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ،فراعى لفظ كل
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ولم يقل راعون ولا مسئولون
أو معنى نحو: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}، فراعى لفظها وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}.
فراعى المعنى.
وقد
اجتمع مراعاة اللفظ والمعنى في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ
أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَرْداً}.
هذا إذا جعلنا من موصولة فإن جعلناها نكرة موصوفة خرجت من هذا القسم إلى الأول.
الثالث: أن تقطع عن الإضافة لفظا فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها.
فمن الأول: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}{إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ}.
ولم يقل كذبوا {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}
ومن الثاني: {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}،{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}
قال
أبو الفتح: وعلته أن أحد الجمعين عندهم كان عن صاحبه فإن لفظ كل للأفراد
ومعناها الجمع وهذا يدل على أنهم قدروا المضاف إليه المحذوف في الموضعين
جمعا فتارة روعي كما إذا صرح به وتارة روعي لفظ كل وتكون حالة الحذف مخالفة
لحال الإثبات
قيل: ولو قال قائل حيث أفرد يقدر الحذف مفردا وحيث جمع يقدر جمعا فيقدر في قوله: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}
كل واحد ويقدر في قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}.
كل نوع مما سبق لكان موافقا إذا أضيف لفظا إلى نكرة.
وما ذكروه يقتضي أن تقديره وكلهم آتوه وكلا التقديرين سائغ والمراد الجمع.
ويتعين في قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
أن
كلا من الشمس والقمر والليل والنهار لا يصح وصفه بالجمع وقد قدر الزمخشري
{كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} كل أحد وهو يساعد ما ذكرناه.
وما ذكرناه في هذه الحالة هو المشهور.
وقال
السهيلي في نتاج الفكر إذا قطعت كل عن الإضافة فيجب أن يكون خبرها جمعا
لأنها أسم في معنى الجمع تقول كل ذاهبون إذا تقدم ذكر قوم وأجاب عن إفراد
الخبر في الآيات السابقة بأن فيها قرينة تقتضي تحسين المعنى بهذا اللفظ دون
غيره.
أما قوله: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فلأن قبلها ذكر
فريقين مختلفين مؤمنين وظالمين فلو جمعهم في الأخبار وقال كل يعملون لبطل
معنى الاختلاف وكان لفظ الإفراد أدل على المراد والمعنى كل فريق يعمل على
شاكلته
وأما قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} فلأنه ذكر
قرونا وأمما وختم ذكرهم بقوم تبع فلو قال كل كذبوا لعاد إلى أقرب مذكور
فكان يتوهم أن الأخبار عن قوم تبع خاصة فلما قال: {إِنْ كُلٌّ إِلاَّ
كَذَّبَ} علم أنه يريد كل فريق منهم كذب لأن إفراد الخبر عن كل حيث وقع
إنما يدل على هذا المعنى
مسألة
وتتصل ما بـ "كل" نحو: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا}.
وهي مصدرية لكنها نائبة بصلتها عن ظرف زمان كما ينوب عنه المصدر الصريح والمعنى كل وقت.
وهذه
تسمى ما المصدرية الظرفية أي النائبة عن الظرف لا أنها ظرف في نفسها فـ
"كل" من كلما منصوب على الظرفية لإضافته إلى شيء هو قائم مقام الظرف.
ثم
ذكر الفقهاء والأصوليون أن كلما للتكرار قال الشيخ أبو حيان وإنما ذلك من
عموم ما لأن الظرفية مراد بها العموم فإذا قلت أصحبك ما ذر لله شارق فإنما
تريد العموم فـ "كل" أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية لا أن لفظ كلما
وضع للتكرار كما يدل عليه كلامهم وإنما جاءت كل توكيدا للعموم المستفاد من
ما الظرفية انتهى.
وقوله: إن التكرار من عموم ما ممنوع فإن ما المصدرية
لا عموم لها ولا يلزم من نيابتها عن الظرف دلالتها على العموم وإن استفيد
عموم في مثل هذا الكلام فليس من ما إنما هو من التركيب نفسه
وذكر بعض
الأصوليين أنها إذا وصلت بـ "ما" صارت أداة لتكرار الأفعال وعمومها قصدي
وفي الأسماء ضمني قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} وإذا جردت من
لفظ ما انعكس الحكم وصارت عامة في الأسماء قصدا وفي الأفعال ضمنا
ويظهر
الفرق بينهما في قوله كل امرأة أتزوجها فهي طالق تطلق كل امرأة يتزوجها
وتكون عامة في جميع النساء لدخولها على الاسم وهو قصدي ولو تزوج امرأة ثم
تزوجها مرة أخرى لم تطلق في الثانية لعدم عمومها قصدا في الأسماء ولو قال
كلما تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج امرأة مرارا طلقت في كل مرة لاقتضائها
عموم الأفعال قصدا وهو التزوج
مسألة.
ويأتي كل صفة ذكره سيبويه في باب النعت قال ومن الصفة أنت الرجل كل الرجل ومررت بالرجل كل الرجل
قال
الصفار: هذا يكون عند قصد التأكيد والمبالغة فإن قولك الرجل معناه الكامل
ومعنى كل الرجل أي هو الرجل لعظمته قد قام مقام الجنس كما تقول أكلت شاة كل
شاة وإليه أشار بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في
جوف الفرا" أي أن من صاده فقد صاد جميع الصيد لقيامه مقامه لعظمته قال وهذا
إنما يجوز إذا سبقها ما فيه رائحة الصفة كما ذكرنا فلو كان جامدا لم يجز
نحو مررت بعبد الله كل الرجل لا يفهم من عبد الله شيء
كِلا وكِلْتا
هما
توكيد الاثنين وفيهما معنى الإحاطة ولهذا قال الراغب هي في التثنية ككل في
الجمع ومفرد اللفظ مثنى المعنى عبر عنه مرة بلفظه ومرة بلفظ الاثنين
اعتبارا بمعناه قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}
قلت: لا خلاف أن معناها التثنية واختلف في لفظها فقال البصريون مفردة وقال الكوفيون تثنية.
والصحيح الأول، بدليل عود الضمير إليها مفردا في قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ}.
فالإخبار
عن كلتا بالمفرد دليل على أنها مفرد إذ لو كان مثنى لقال آتتا ودليل
إضافتها إلى المثنى في قوله: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}.
ولو كان
مثنى لم يجز إضافته إلى التثنية لأنه لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه والفصيح
مراعاة اللفظ لأنه الذي ورد به القرآن فيقال كلا الرجلين خرج وكلتا
المرأتين حضرت.
وقد نازع بعض المتأخرين وقال ليس معناه التثنية على
الإطلاق كما ذكره النحاة ولو كان كذلك لكثرة مراعاة المعنى كما كثرة
مراعاته في من وما الموصولتين لكن أكثر ما جاء في لسان العرب عود الضمير
مفردا كلتا الجنتين آتت وما جاء فيه مراعاة المعنى في غاية القلة قال
فالصواب أن معناها مفرد صالح لكل من الأمرين المضاف إليهما وأما مراعاة
التثنية فيه فعلى سبيل التوسع ووجه التوسع أن كل فرد في جانب الثبوت معه
غيره
فجاءت التثنية بهذا الاعتبار فالإفراد فيه مراعاة المعنى واللفظ والتثنية مراعاة المعنى من بعض الوجوه
فائدة.
وقع في شعر أبي تمام كلا الآفاق وخطأه المعرى لأن كلا يستعمل في الاثنين لا الجمع
قال:
ولم يأت في المسموع: كلا القوم،ولا كلا الأصحاب وإنما يقال كلا الرجلين
ونحوه فإن أخذ من الكلأ من قولك: كلأت الشيء إذا رعيته وحفظته فالمعنى يصح
إلا أن المتكلم يقصر وهي ممدودة
كم
نكرة لا تتعرف لأنها مبهمة في العدد كـ "أين" في الأمكنة ومتى في الأزمنة وكيف في الأحوال.
وقول سيبويه: كم أرضك جريبا؟كم مبتدأ وأرضك مبني عليه مجاز ليس بحقيقة وإنما أرضك مبتدأ وكم الخبر مثل كيف زيد؟
وهي قسمان:
استفهامية تحتاج إلى جواب بمعنى أي عدد؟فينصب ما بعدها نحو: كم رجلا ضربت؟
وخبرية لا تحتاج إلى جواب بمعنى عدد كثير فيجر ما بعدها نحو كم عبد ملكت.
وقد
تدخل عليها من كقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} {وَكَمْ
قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وليست الاستفهامية أصلا للخبرية خلافا للزمخشري
حيث ادعى ذلك في سورة يس عند الكلام على: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا} ولم تستعمل الخبرية غالبا إلا في مقام الافتخار والمباهاة لأن
معناها التكثير
ولهذا ميزت بما يميز العدد الكثير وهو مائة وألف فكما أن مائة تميز بواحد مجرور فكذلك كم
واعلم أن كم مفردة اللفظ ومعناها الجمع فيجوز في ضميرها الأمران بالاعتبارين قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ}.
ثم قال: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} فأتى به جمعا وقال: { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}.
ثم قال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}
كيف
استفهام عن حال الشيء لا عن ذاته كما أن ما سؤال عن حقيقته ومن عن مشخصاته ولهذا لا يجوز أن يقال في الله كيف.
وهي مع ذلك منزلة منزلة الظرف فإذا قلت: كيف زيد؟كان زيد مبتدأ وكيف في محل الخبر والتقدير على أي حال زيد؟
هذا أصلها في الوضع لكن قد تعرض لها معان تفهم من سياق الكلام أو من قرينة الحال مثل معنى التنبيه والاعتبار وغيرهما.
وقال بعضهم لها ثلاثة أوجه.
أحدها: سؤال محض عن حال نحو كيف زيد؟
وثانيها: حال لا سؤال معه كقولك لأكرمنك كيف أنت أي على أي حال كنت.
ثالثها: معنى التعجب.
وعلى هذين تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}.
قال
الراغب في تفسيره كيف هنا استخبار لا استفهام والفرق بينهما أن الاستخبار
قد يكون تنبيها للمخاطب وتوبيخا ولا يقتضي عدم المستخبر والاستفهام بخلاف
ذلك
وقال: في المفردات كل: ما أخبر الله بلفظ كيف عن نفسه فهو إخبار على طريق التنبيه للمخاطب أو توبيخ نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ}
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً}
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ}
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ}
{فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}.
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
وقال: غيره قد تأتي للنفي والإنكار كقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}
ولتضمنها معنى الجحد شاع أن يقع بعدها إلا كقوله: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ}
وللتوبيخ
كقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ
اللَّهِ} {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً
فَأَحْيَاكُمْ}
وللتحذير كقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}
وللتنبيه والاعتبار كقوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
وللتأكيد وتحقيق ما قبلها كقوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا}،
وقوله:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} ،فإنه توكيد لما
تقدم وتحقيق لما بعده على تأويل إن الله لا يظلم الناس شيئا في الدنيا فكيف
في الآخرة!
وللتعظيم والتهويل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}.
أي فكيف حالهم إذا جئنا وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن عمرو: "كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس"!
وقيل:
وتجيء مصدرا كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ} {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي
الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}
وتأتي ظرفا في قول سيبويه وهي عنده في قوله:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} منصوبة على التشبيه بالظرف أي في حال تكفرون وعلى
الحال عند الأخفش أي على حال تكفرون.
وجعل منه بعضهم قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}.
فإن شئت قدرت بعدها اسما وجعلتها خبرا أي كيف صنعكم أو حالكم وإن شئت قدرت بعدها فعلا تقديره كيف تصنعون؟
وأثبت
بعضهم لها الشرط كقوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}،{يُصَوِّرُكُمْ
فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} فيبسطه في السماء كيف يشاء وجوابه في ذلك
محذوف لدلالة ما قبلها
ومراد هذا القائل الشرط المعنوي وهو إنما يفيد الربط فقط أي ربط جملة بأخرى كأداة الشرط لا اللفظي وإلا لجزم الفعل.
وعن الكوفيين أنها تجزم نحو كيف تكن أكن
وقد يحذف الفعل بعدها قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}.
أي كيف توالونهم!
اللام
قسمان: إما أن تكون عاملة أو غير عاملة
القسم الأول: غير العاملة .
وتجيء لعشرة معان معرفة ودالة على البعد ومخففة وموجبة ومؤكدة ومتممة وموجهة ومسبوقة والمؤذنة والموطئة.
فالمعرفة:
التي معها ألف الوصل عند من يجعل المعرفة اللام وحدها وينسب لسيبويه وذهب
الخليل إلى أنه ثنائي وهمزته همزة قطع وصلت لكثرة الاستعمال.
وتنقسم
المعرفة إلى عهدية واستغراقية وقد سبقا في قاعدة التنكير والتعريف وزاد قوم
طلب الصلة وجعل منه: {رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}
وللإضمار، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}.
ولا خلاف أن الإضمار بعدها مراد وإنما اختلفوا في تقديره فعند الكوفيين هي مأواه وعند البصريين هي المأوى له
واللام
في التعريف مرققة إلا في اسم الله فيجب تفخيمها إذا كان قبلها ضمة أو فتحة
وهي في الأسماء تفخيم الجرس وفي المعنى توقير المسمى وتعظيمه سبحانه!
والدالة على البعد الداخلة على أسماء الإشارة إعلاما بالبعد أو توكيدا له على الخلاف فيه.
والمخففة التي يجوز معها تخفيف إن المشددة نحو: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}
وتسمى لام الابتداء والفارقة لأنها تفرق بينها وبين إن النافية.
والمخففة هي التي تحقق الخبر مع المبتدأ كقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
والموجبة بمعنى إلا عند الكوفيين كقوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
{وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
أي ما كل فجعلوا إن بمعنى ما واللام بمعنى إلا في الإيجاب.
وقرأ الكسائي: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بالرفع والمراد: وما كان مكرهم إلا لتزول منه.
والمؤكدة وهي الزائدة أول الكلام وتقع في موضعين:
أحدهما: المبتدأ وتسمى لام الابتداء فيؤذن بأنه المحكوم قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ} {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً}
ثانيهما: في باب إن على اسمها إذا تأخر، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً}
وعلى
خبرها نحو: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}،{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} فـ"إن" في هذا توكيد
لما يليها واللام لتوكيد الخبر.
وكذا في أن المفتوحة كقراءة سعيد {لاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ}.
بفتح
الهمزة فإنه ألغى اللام لأنها لا تدخل إلا على إن المكسورة أو على ما يتصل
بالخبر إذا تقدم عليه نحو {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ}. فإن تقديره ليعمهون في سكرتهم.
واختلف في اللام في قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ} فقيل هي مؤخرة والمعنى: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه.
وجاز تقديمها وإيلاؤها المفعول لأنها لام التوكيد واليمين فحقها أن تقع صدر الكلام.
واعترض
بأن اللام في صلة من فتقدمها على الموصول ممتنع وأجاب الزمخشري بأنها حرف
لا يفيد غير التوكيد وليست بعاملة كـ "من" المؤكدة في نحو ما جاءني من أحد
دخولها وخروجها سواء ولهذا جاء تقديمها
ويجوز ألا تكون هنا موصولة بل نكرة ولهذا قال الكسائي اللام في غير
موضعها و"من" في موضع نصب يدعو والتقدير يدعو من ضره أقرب من نفعه أي يدعو إلها ضره أقرب من نفعه.
قال
المبرد: يدعو في موضع الحال والمعنى في ذلك هو الضلال البعيد في حال دعائه
إياه وقوله: {لَمَنِ} مستأنف مرفوع بالابتداء وقوله: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ
مِنْ نَفْعِهِ} في صلته و{لَبِئْسَ الْمَوْلَى}. خبره.
وهذا يستقيم لو كان في موضع {يَدْعُو} يدعى لكن مجيئه بصيغة فعل الفاعل وليس فيه ضميره يبعده.
والمتممة كقوله تعالى: {إِذن لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}،{إِذن لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}.
فاللام هنا لتتميم الكلام.
قال الزمخشري إذن دالة على أن ما بعدها جواب وجزاء.
والموجهة في جواب لولا كقوله تعالى: { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ}.
فاللام في {لَقَدْ} توجه للتثبيت
والمسبوقة
في جواب لو كقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي تفيد
تأخره لأشد العقوبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}
وهذا بخلاف قوله: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} بغير لام فإنه يفيد التعجيل أي جعلناه أجاجا لوقته.
والمؤذنة:
الداخلة على أداة الشرط بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له
لا للشرط أو للإيذان بأن ما بعدها مبني على قسم قبلها.
وتسمى الموطئة لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهدته.
وقول
المعربين: إنها موطئة للقسم فيه تجوز وإنما هي موطئة لجوابه كقوله:
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} وليست
جوابا للقسم وإنما الجواب ما يأتي بعد الشرط ويجمع هذه الأربعة المتأخرة
قولك لام الجواب.
وقد اجتمعا في قوله تعالى: {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً}. فاللام في لئن مؤذنة وقوله: {نَسْفَعاً} جواب القسم
المقدر تقديره والله لنسفعن
ومن جواب القسم قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ}. وزعم الشيخ أثير الدين في تفسيره أنها لام التوكيد
وليس كما قال وقد قال الواحدي في البسيط: إنها لام القسم ولا يجوز أن تكون
لام ابتداء لأن لام الابتداء لا تلحق إلا الأسماء وما يكون بمنزلتها
كالمضارع
القسم الثاني: العاملة .
وهي على ثلاثة أقسام: جارة وناصبة وجازمة.
الأولى: الجارة وتأتي لمعان:
للملك
الحقيقي كقوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ}،{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
والتمليك،نحو وهبت لزيد دينارا ومنه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا}
والاختصاص ومعناها أنها تدل على أن بين الأول والثاني نسبة باعتبار ما دل عليه متعلقه نحو هذا صديق لزيد وأخ له ومنه الجنة للمؤمنين.
وللتخصيص ومنه: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}
وللاستحقاق كقوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}
والفرق بينه وبين الملك أن الملك لما حصل وثبت وهذا لم يحصل بعد لكن هو في حكم الحاصل من حيث ما قد استحق قاله الراغب
وللولاية كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}
ويجوز أن تجمع هذه الثلاثة كقولك الحمد لله لأنه يستحق الحمد ووليه والمخصوص به فكأنه يقول الحمد لي وإلي.
وللتعليل وهي التي يصلح موضعها من أجل كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
أي من أجل حب الخير.
وقوله:
{لإِيلافِ قُرَيْشٍ}. وهي متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} أو بقوله.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة.
وضعف بأن جعلهم كعصف مأكول إنما هو لكفرهم وتجرئهم على البيت.
وقيل متعلق بمحذوف أي أعجبوا.
وقوله: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي لأجل بلد ميت،بدليل: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ}
هذا قول الزمخشري وهو أولى من قول غيره إنها بمعنى إلى.
وقوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} أي لا تخاصم الناس لأجل الخائنين.
قال
الراغب: ومعناه كمعنى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ
أَنْفُسَهُمْ} وليست كالتي في قولك لا تكن لله خصيما لدخولها على المفعول
أي لا تكن خصيم الله
وبمعنى إلى كقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً}
بدليل قوله: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}
وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ}
وقوله:
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}،بدليل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ} وزيفه الراغب لأن الوحي للنحل جعل ذلك له للتسخير والإلهام وليس
كالوحي الموحى إلى الأنبياء فاللام على جعل ذلك الشيء له بالتسخير.
وبمعنى على نحو: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
وقوله:
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا}. أي فعليها لأن السيئة على الإنسان لا له بدليل قوله تعالى:
{فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}
وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي من لم يكن وقوله: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وبمعنى في كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}،{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.
{لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}
وبمعنى بعد نحو: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}. وقال ابن أبان الظاهر أنها للتعليل.
وبمعنى عن مع القول كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا}.
أي عن الذين آمنوا وليس المعنى خطابهم بذلك وإلا لقيل سبقتمونا وقيل لام التعليل وقيل للتبليغ والتفت عن الخطاب إلى الغيبة.
وكقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ}.
وأما قوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ}.
فاللام
للتبليغ كذلك قسمها ابن مالك كقوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} وغيره
يسميها لام التبليغ فإن عرف من غاب عن القول حقيقة أو حكما فللتعليل نحو:
{وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا} {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ}
وذكر ابن مالك وغيره ضابطا في اللام المتعلقة
بالقول وهو إن دخلت على مخاطبة القائل فهي لتعدية القول للمقول له نحو:
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا}
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا}.
وقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}
وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهو كثير.
وبمعنى أن المفتوحة الساكنة قاله الهروي وجعل منه:
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}
{وَأُمِرْنَا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذه اللام لا تكون إلا بعد أردت وأمرت
وذلك لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان في الماضي فلهذا جعل معهما بمعنى
أن وبذلك صرح صاحب الكشاف في تفسير سورة الصف فقال {يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}
أصله يريدون أن يطفئوا كما جاء في سورة براءة
وللتعدية وهي التي تعدى العامل إذا عجز نحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}.
فاللام فيه للتعدية لأن الفعل يضعف بتقديم المفعول عليه.
وسماها
ابن الأنباري: آلة الفعل وذكر أن البصريين يسمونها لام الإضافة كقوله
تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}{أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ}
وقال
الراغب: التعدية ضربان: تارة لتقوية الفعل،ولا يجوز حذفه نحو: {وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ} ،وتارة يحذف،نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} فأثبت في موضع وحذف في موضع انتهى.
وللتبيين كقوله تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي أقبل وتعال أقول لك.
وذكر
ابن الأنباري أن اللام المكسورة تجيء جوابا للقسم كقوله تعالى :
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ} والمعنى
ليجزين بفتح اللام والتوكيد بالنون فلما حذف النون أقام المكسورة مقام
المفتوحة.
وهذا ضعيف وذكر مثله عن أبي حاتم.
ويحتمل أن يكون قبلها فعل مقدر أي آمنوا ليجزي.
الثاني: الناصبة على قول الكوفيين في موضعين لام كي ولام الجحود.
ولام
الجحود هي الواقعة بعد الجحد أي النفي كقوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ}،{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} {لَمْ يَكُنِ
اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}
وضابطها أنها لو سقطت تم الكلام بدونها وإنما ذكرت توكيدا لنفي الكون بخلاف لام كي
قال
الزجاج: اللام في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى} لام كي لأن لام الجحود إذا سقطت لم يختل الكلام ولو سقطت
اللام من الآية بطل
المعنى ولأنه يجوز إظهار أن بعد لام كي ولا يجوز
بعد لام الجحود لأنها في كلامهم نفي للفعل المستقبل فالسين بإزائها فلم
يظهر بعدها ما لا يكون بعدها كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.
فجاء بلام الجحد حيث كانت نفيا لأمر متوقع مخوف في المستقبل ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال.
ومثله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى}.
ثم قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى}
ومثال
لام كي وكي مضمرة معها قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْساً} {لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤَادَكَ} {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ}
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}. يريد كي تكونوا.
وقوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}
وقد
تجيء معها كي نحو: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}{لِكَيْ لا
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} {لِكَيْ لا تَحْزَنُوا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ}.
وربما جاءت كي بلا لام كقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ}.
وفي
معناه لام الصيرورة كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
وتسمى لام العاقبة فإن من المعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك بل لضده بدليل قوله: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}
وحكى
ابن قتيبة عن بعضهم أن علامتها جواز تقدير الفاء موضعها وهو يقتضي أنها
لام التعليل لكن الفرق بينها وبين لام التعليل التي في نحو قوله:
{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}.
أن لام التعليل تدخل على ما هو غرض لفاعل الفعل ويكون مرتبا على الفعل وليس في لام الصيرورة إلا الترتب فقط.
وقال
الزمخشري: في تفسير سورة المدثر أفادت اللام نفس العلة والسبب ولا يجب في
العلة أن تكون غرضا إلا ترى إلى قولك خرجت من البلد مخافة الشر فقد جعلت
المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك.
ونقل ابن فورك عن الأشعري: أن كل لام نسبها الله إلى نفسه فهي للعاقبة والصيرورة دون التعليل لاستحالة الغرض
واستشكله الشيخ عز الدين بقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً}.
وقوله:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}. فقد
صرح فيه بالتعليل ولا مانع من ذلك إذ هو على وجه التفضل
وأقول: ما
جعلوه للعاقبة هو راجع للتعليل فإن التقاطهم أفضى إلى عداوته وذلك يوجب صدق
الإخبار بكون الالتقاط للعداوة لأن ما أفضى إلى الشيء يكون علة وليس من
شرطه أن يكون نصب العلة صادرا عمن نسب الفعل إليه لفظا بل جاز أن يكون ذلك
راجعا إلى من ينسب الفعل إليه خلقا كما تقول جاء الغيث لإخراج الأزهار
وطلعت الشمس لإنضاج الثمار فإن الفعل يضاف إلى الشمس والغيث.
كذلك
التقاط آل فرعون موسى فإن الله قدره لحكمته وجعله علة لعداوته لإفضائه إليه
بواسطة حفظه وصيانته كما في مجيء الغيث بالنسبة إلى إخراج الأزهار وإليه
يشير الزمخشري أيضا التحقيق أنها لام العلة وأن التعليل بها وارد على طريق
المجاز دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط كونه لهم عدوا وحزنا
بل المحبة والتبني غير أن ذلك لما أن نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي
الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء فاللام
مستعارة لما يشبه التعليل.
وقال ابن خالويه في كتاب المبتدأ في النحو
فأما قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} فهي لام كي عند
الكوفيين ولام الصيرورة عند البصريين والتقدير فصار عاقبة أمرهم إلى ذلك
لأنهم لم يلتقطوه لكي يكون عدوا انتهى
وجوز ابن الدهان في الآية وجها
غريبا على التقديم والتأخير أي فالتقط آل فرعون و{عَدُوّاً وَحَزَناً} حال
من الهاء في: {لِيَكُونَ لَهُمْ} أي ليتملكوه
قال: ويجوز أن يكون التقدير فالتقطه آل فرعون لكراهة أن يكون لهم عدوا وحزنا.
وأما
قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ،فحكى الهروي عن أبي حاتم أن اللام جواب
القسم والمعنى ليغفرن الله لك فلما حذفت النون كسرت اللام وإعمالها إعمال
كي وليس المعنى فتحنا لك لكي يغفر الله لك فلم يكن الفتح سببا للمغفرة.
قال: وأنكره ثعلب وقال هي لام كي ومعناه لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معه كي.
وكذلك
قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وأما
قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ
سَبِيلِكَ}.
فقال الفراء لام كي.
وقال: قطرب والأخفش: لم يؤتوا المال ليضلوا ولكن لما كان عاقبة أمرهم الضلال كانوا كأنهم أوتوها لذلك فهي لام العاقبة.
هذا كله على مذهب الكوفيين وأما البصريون فالنصب عندهم بإضمار أن وهما جارتان للمصدر واللام الجارة هي لام الإضافة.
واعلم أن الناصبة للمضارع تجيء لأسباب:
منها القصد والإرادة،إما في الإثبات نحو: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}.
أو النفي نحو: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ}.
فهو على تقدير حذف المضاف أي لنعلم ملائكتنا وأولياءنا
ويجوز أن يكون تعالى خاطب الخلق بما يشاكل طريقتهم في معرفة البواطن والظواهر على قدر فهم المخاطب.
وقد
تقع موقع أن وإن كانت غير معلولة لها في المعنى وذلك إن كان الكلام متضمنا
لمعنى القصد والإرادة نحو: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ}. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا}
ومنها العاقبة على ما سبق.
الثالث:
الجازمة الموضوعة للطلب وتسمى لام الأمر وتدخل على المضارع لتؤذن أنه
مطلوب للمتكلم وشرطها أن يكون الفعل لغير المخاطب فيقولون لتضرب أنت ومنه
قراءة بعضهم: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} ووصفها أن تكون مكسورة إذا ابتدئ
بها نحو: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}.
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ}.
وتسكن
بعد الواو والفاء نحو: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ويجوز الوجهان بعد
ثم كقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قرئ في السبع بتسكين:
{لْيَقْضُوا} وبتحريكه وتجيء لمعان
منها التكليف كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
ومنها
أمر المكلف نفسه كقوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} والابتهال وهو
الدعاء نحو: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} والتهديد نحو: {فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والخبر نحو: {مَنْ كَانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً}.
أي يمد.
ويحتمله {وَلْنَحْمِلْ}. أي ونحمل
ويجوز حذفها ورفع الفعل ومنه يقول: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
ويدل على أنه للطلب قوله تعالى بعد: {نَغْفِرْ لَكُمْ} مجزوما فلولا أنه طلب لم يصح الجزم لأنه ليس ثم وجه سواه
لا
على ستة أوجه.
أحدهما : أن تكون للنفي وتدخل على الأسماء والأفعال.
فالداخلة على الأسماء تكون عاملة وغير عاملة.
فالعاملة قسمان:
تارة
تعمل عمل إن وهي النافية للجنس وهي تنفي ما أوجبته إن فلذلك تشبه بها في
الأعمال نحو: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}،{لا مُقَامَ لَكُمْ} {لا جَرَمَ
أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}
ويكثر حذف خبرها إذا علم نحو: {لا ضَيْرَ} {فَلا فَوْتَ} وتارة تعمل عمل ليس.
وزعم الزمخشري في المفصل أنها غير عاملة.
وكذا قال الحريري في الدرة إنها لا تأتي إلا لنفي الوحدة.
قال ابن بري وليس بصحيح بل يجوز أن يريد منه العموم كما في النصب وعليه قال لا ناقة لي في هذا ولا جمل يعني فإنه نفى الجنس لما عطف
وكذلك قولك لا رجل في الدار ولا امرأة تفيد نفي الجنس لأن العطف أفهم للعموم
وممن نص على ذلك أبو البقاء في المحصل ويؤيده قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}.
قرئ بالرفع والنصب فيهما والمعنى فيهما واحد.
وقال
ابن الحاجب: ما قاله الزمخشري لا يستقيم ولا خلاف عند أصحاب الفهم أنه
يستفاد العموم منه كما في المبنية على الفتح وإن كانت المبنية أقوى في
الدلالة عليه إما لكونه نصا أو لكونه أقوى ظهورا وسبب العموم أنها نكرة في
سياق النفي فتعم.
وقال ابن مالك في التحفة: قد تكون المشبه بـ "ليس" نافية للجنس ويفرق فيها بين إرادة الجنس وغيره بالقرائن هذا كله في العاملة.
وأما
غير العاملة فيرفع الاسم بعدها بالابتداء إذا لم يرد نفي العموم ويلزم
التكرار ثم تارة تكون نكرة كقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا
يُنْزَفُونَ} {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}
وتارة تكون معرفة كقوله:
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} ولذلك يجب تكرارها
إذا وليها نعت نحو: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}.
وقوله تعالى: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} فإن قيل لم لم تكررها وقد أوجبوا تكرارها في الصفات؟
وجوابه: أنه من الكلام المحمول على المعنى والتقدير لا تثير الأرض ولا ساقية للحرث أي لا تثير ولا تسقي
وقال
الراغب: هي في هذه الحالة تدخل في المتضادين ويراد بها إثبات الأمرين بهما
جميعا نحو زيد ليس بمقيم ولا ظاعن أي تارة يكون كذا وتارة يكون كذا وقد
يراد إثبات حالة بينهما نحو زيد ليس بأبيض ولا أسود.
ومنها قوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}.
قيل معناه أنها شرقية وغربية.
وقيل
معناه مصونة عن الإفراط والتفريط وأما الداخلة على الأفعال فتارة تكون
لنفي الأفعال المستقبلة كقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
دُعَاءَكُمْ}.
لأنه جزاء فلا يكون إلا مستقبلا.
ومثله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}
وقد ينفي المضارع مرادا به نفي الدوام كقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}
وقد
يكون للحال كقوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} {فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ} يصح أن
تكون في موضع الحال أي مالكم غير مقاتلين.
وقيل: ينفي بها الحاضر على التشبيه بـ "ما" كقولك في جواب من قال زيد يكتب الآن لا يكتب
والنفي بها يتناول فعل المتكلم نحو لا أخرج اليوم ولا أسافر غدا ومنه قوله تعالى:
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}
وفعل المخاطب كقولك: إنك لا تزورنا ومنه قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى}،{فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}
وتدخل على الماضي في القسم والدعاء نحو والله لا صليت ونحو لا ضاق صدرك.
وفي غيرها نحو: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}
والأكثر تكرارها وقد جاءت غير مكررة في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}
قال
الزمخشري: لكنها مكررة في المعنى لأن المعنى لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا
ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك وقيل إنه دعاء أي أنه يستحق أن يدعى
عليه بأن يفعل خيرا.
وقد يراد الدعاء في المستقبل والماضي كقولك لا فض الله فاك وقوله لا يبعدن قومي.
الثانية: أن تكون للنهي ينهى بها الحاضر والغائب نحو لا تقم ولا يقم وقال تعالى:
{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}
{لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}
{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}
{لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ}
وتخلص المضارع للاستقبال نحو: {لا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} وترد للدعاء نحو: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
ولذلك قال بعضهم لا الطلبية ليشمل النهي وغيره.
وقد تحتمل النفي والنهي كقوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ}
الثالثة:
أن تكون جوابية أي رد في الجواب مناقض لـ "نعم" أو بلى فإذا قال مقررا ألم
أحسن إليك؟قلت: لا أو بلى وإذا قال: مستفهما هل زيد عندك قلت لا أو نعم
قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}
الرابعة: أن تكون بمعنى لم ولذلك اختصت بالدخول على الماضي نحو: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق ولم يصل
ومثله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}
الخامسة:
أن تكون عاطفة تشرك ما بعدها في إعراب ما قبلها وتعطف بعد الإيجاب نحو
يقوم زيد لا عمرو وبعد الأمر نحو اضرب زيدا لا عمرا وتنفي عن الثاني ما ثبت
للأول نحو خرج زيد لا بكر.
فإن قلت: ما قام زيد ولا بكر فالعطف للواو دونها لأنها أم حروف العطف.
السادسة: أن تكون زائدة في مواضع:
الأول:
بعد حرف العطف المتقدم عليه النفي أو النهي فتجيء مؤكدة له كقولك ما جاءني
زيد ولا عمرو وقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ}
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ}
وقوله: {وَلا الضَّالِّينَ}
قال
أبو عبيدة: وقيل: إنما دخلت هنا مزيلة لتوهم أن الضالين هم المغضوب عليهم
والعرب تنعت الواو وتقول مررت بالظريف والعاقل فدخلت لإزالة التوهم.
وقيل: لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين
ومثال
النهي قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} فـ "لا" زائدة وليست بعاطفة
لأنها إنما يعطف بها في غير النهي وإنما دخلت هنا لنفي احتمال أن يكون
المقصود نفي مجيئها جميعا تأكيدا للظاهر من اللفظ ونفيا للاحتمال الآخر
فإنه يفيد النفي عن كل واحد منها نصا ولو لم يأت بـ "لا" لجاز أن يكون
النفي عنها على جهة الاجتماع ولكنه خلاف الظاهر فلذلك كان يقول ببقاء
الزيادة أولى لبقاء الكلام بإثباتها على حالة عند عدمها وإن كانت دلالته
عند مجيئها أقوى
وأما قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}.
فمن
قال المراد أن الحسنة لا تساوي السيئة فـ "لا" عنده زائدة ومن قال إن جنس
الحسنة لا يستوي إفراده وجنس السيئة لا يستوي إفراده وهو الظاهر من سياق
الآية فليست زائدة والواو عاطفة جملة على جملة وقد سبق فيها مزيد كلام في
بحث الزيادة.
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}.
الآية فالأولى والثانية غير زائدة والثالثة والرابعة والخامسة زائدة.
وقال:
ابن الشجري قد تجيء مؤكدة النفي في غير موضعها الذي تستحقه كقوله تعالى:
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ}.
لأنك لا تقول ما يستوي زيد ولا عمرو ولا تقول ما يستوي زيد فتقتصر على واحد.
ومثله:
{وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ}
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
وقال
غيره: لا هاهنا صلة لأن المساواة لا تكون إلا بين شيئين فالمعنى ولا
الظلمات والنور حتى تقع المساواة بين شيئين كما قال تعالى: {وَمَا
يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}.
ولو قلت: ما يستوي زيد ولا عمرو لم يجز إلا على زيادة لا.
الثاني: بعد أن المصدرية الناصبة للفعل المضارع كقوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}.
وقيل إنما زيدت توكيدا للنفي المعنوي الذي تضمنته {مَنَعَكَ} بدليل الآية الأخرى: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}
وقال
ابن السيد: إنما دخلت لما يقتضيه معنى المنع لا يحتمل حقيقة اللفظ لأن
المانع من الشيء بأمر الممنوع بألا يفعل مهما كان المنع في تأويل الأمر
بترك الفعل والحمل على تركه أجراه مجراها.
ومن هنا قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}. أي لئن لم لأن المعنى يتم بذلك.
وقيل: ليست زائدة والمعنى عليها.
وهذا
كما تكون محذوفة لفظا مرادة معنى كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
أَنْ تَضِلُّوا}. المعنى ألا تضلوا لأن البيان إنما يقع لأجل ألا تضلوا.
وقيل على حذف مضاف أي كراهة أن تضلوا.
وأما
السيرافي فجعلها على بابها حيث جاءت زعم أن الإنسان إذا فعل شيئا لأمر ما
قد يكون فعله لضده فإذا قلت جئت لقيام زيد فإن المعنى أن المجيء وقع لأجل
القيام وهل هو لأن يقع أو لئلا يقع محتمل فمن جاء للقيام فقد جاء لعدم
القيام ومن جاء لعدم القيام فقد جاء للقيام برهان ذلك أنك إذا نصصت على
مقصودك فقلت جئت لأن يقع أو أردت أن يقع فقد جئت لعدم القيام أي لأن يقع
عدم القيام وهو أعني عدم الوقوع طلب وقوعه.
وإن قلت: وقصدي ألا يقع القيام ولهذا جئت فقد جئت لأن يقع عدم القيام فيتصور أن تقول جئت للقيام تعني به عدم القيام
وكذلك
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي يبين الضلال أي
لأجل الضلال يقع البيان: هل هو لوقوعه أو عدمه؟المعنى يبين ذلك
وكذلك قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ}. أي فعل الله هذا لعدم علمهم هل وقع أم لا؟
وإذا علموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله يبين لهم أنهم لا يعلمون فقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} باق على معناه ليس فيه زيادة.
الثالث: قبل قسم كقوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
المعنى
أقسم بدليل قراءة ابن كثير: {لاقْسِمُ} وهي قراء قويمة لا يضعفها عدم نون
التوكيد مع اللام لأن المراد بأقسم فعل الحال ولا تلزم النون مع اللام.
وقيل: إنها غير زائدة بل هي نافية.
وقيل:
على بابها ونفى بها كلاما تقدم منهم كأنه قال ليس الأمر كما قلتم من إنكار
القيامة فـ "لا أقسم" جواب لما حكي من جحدهم البعث كما كان قوله: {مَا
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}.
جوابا لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.
لأن القرآن يجري مجرى السورة الواحدة.
وهذا أولى من دعوى الزيادة لأنها تقتضي الإلغاء وكونها صدر الكلام يقتضي الاعتناء بها وهما متنافيان
قال
ابن الشجري: وليست "لا" في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ}. ونحوه بمنزلتها في قوله:
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،كما زعم بعضهم لأنها ليست في أول
السورة لمجيئها بعد الفاء
والفاء عاطفة كلمة على كلمة تخرجها عن كونها بمنزلتها في: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
فهي إذن زائدة للتوكيد.
وأجاز الخارزنجي في: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}
كون لا فيه بمعنى الاستثناء فحذفت الهمزة وبقيت لا.
وجعل الزمخشري لا في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}.
مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} لتأكيد وجوب العلم،{ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم ثم قال:
فإن
قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في: {لا يُؤْمِنُونَ} وأجاب بأنه يمنع
من ذلك استواء النفي والإثبات فيه وذلك قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}
انتهى.
وقد يقال: هب أنه لا يتأتى في آية الواقعة فما المانع من تأتيه
في النساء؟إلا أن يقال استقر بآية الواقعة أنها تزاد لتأكيد معنى القسم فقط
ولم يثبت زيادتها متظاهرة لها في الجواب.
السابعة: تكون اسما في قول الكوفيين أطلق بعضهم نقله عنهم.
وقيل: إن ما قالوه إذا دخلت على نكرة وكان حرف الجر داخلا عليها نحو غضبت من لا شيء وجئت بلا مال وجعلوها بمنزلة غير
وكلام ابن الحاجب يقتضي أنه أعم من ذلك فإنه قال جعلوا لا بمعنى غير
لأنه يتعذر فيها الإعراب فوجب أن يكون إعرابها على ما هو من تتمتها وهو ما بعدها كقولك جاءني رجل لا عالم ولا عاقل
ومنه قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ}.
وقوله: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ}
لات
قال
سيبويه: لات مشبهة بـ "ليس" في بعض المواضع ولم تتمكن تمكنها ولم
يستعملوها إلا مضمرا فيها لأنها كـ "ليس" في المخاطبة والإخبار عن غائب ألا
ترى أنك تقول ليست وليسوا وعبد الله ليس ذاهبا فتبنى عليها ولات فيها ذلك
قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}.
أي ليس حين مهرب.
وكان بعضهم يرفع حين لأنها عنده بمنزلة ليس والنصب بها الوجه
لا جرم
جاءت في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجئ بعدها فعل.
الأول في "هود" وثلاثة في "النحل" والخامس في "غافر" وفيه فسرها الزمخشري.
وذكر اللغويون والمفسرون في معناها أقوالا:
أحدها:
أن "لا" نافية ردا للكلام المتقدم وجرم فعل معناه حق و"أن" مع ما في حيزها
فاعل أي حق ووجب بطلان دعوته وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش فقوله
تعالى: {لا جَرَمَ} معناه أنه رد على الكفار وتحقيق لخسرانهم
الثاني: أن لا زائدة وجرم معناه كسب أي كسب عملهم الندامة وما في خبرها على هذا القول في موضع نصب وعلى الأول في موضع رفع.
الثالث: لا جرم كلمتان ركبتا وصار معناهما حقا وأكثر المفسرين يقتصر على ذلك.
والرابع: أن معناها لا بد وأن الواقعة بعدها في موضع نصب بإسقاط الخافض
لو
على خمسة أوجه.
أحدها: الامتناعية واختلف في حقيقتها فقال سيبويه هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
ومعناه
كما قال الصفار: أنك إذا قلت: لو قام زيد قام عمرو دلت على أن قيام عمرو
كان يقع لو وقع من زيد وأما أنه إذا امتنع قيام زيد هل يمتنع قيام عمرو أو
يقع القيام من عمرو بسبب آخر؟فمسكوت عنه لم يتعرض له اللفظ.
وقال غيره: هي لتعليق ما امتنع بامتناع غيره.
وقال ابن مالك: هي حرف شرط يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه.
وهي تسمى امتناعية شرطية ومثاله قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}. دلت على أمرين:
أحدهما: أن مشيئة الله لرفعه منتفية ورفعه منتف إذ لا سبب لرفعه إلا المشيئة
الثاني: استلزام مشيئة الرفع للرفع إذ المشيئة سبب والرفع مسبب وهذا بخلاف:
"لو
لم يخف الله لم يعصه" إذ لا يلزم من انتفاء لم يخف انتفاء لم يعص حتى يكون
خاف وعصى لأن انتفاء العصيان له سببان خوف العقاب والإجلال وهو أعلى
والمراد أن صهيبا لو قدر خلوه عن الخوف لم يعص للإجلال كيف والخوف حاصل!
ومن
فسرها بالامتناع اختلفوا فقال الأكثرون إن الجزاء وهو الثاني امتنع
لامتناع الشرط وهو الأول فامتنع الثاني وهو الرفع لامتناع الأول وهو
المشيئة.
قال ابن الحاجب: ومن تبعه كابن جمعة الموصلي وابن خطيب زملكا
امتنع الأول لامتناع الثاني قالوا لأن امتناع الشرط لا يستلزم امتناع
الجزاء لجواز إقامة شرط آخر مقامه وأما امتناع الجزاء فيستلزم امتناع الشرط
مطلقا.
وذكروا أن لها مع شرطها وجوابها أربعة أحوال:
أحدها: أن
تتجرد من النفي نحو لو جئتني لأكرمتك وتدل حينئذ على انتفاء الأمرين وسموها
حرف وجوب لوجوب ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}
وقوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
أي ما هداني بدليل قوله بعده: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي}.
لأن بلى جواب للنفي.
وثانيها:
إذا اقترن بها حرف النفي تسمى حرف امتناع لامتناع نحو لو لم تكرمني لم
أكرمك فيقتضي ثبوتهما لأنهما للامتناع فإذا اقترن بهما حرف نفي سلب عنهما
الامتناع فحصل الثبوت لأن سلب السلب إيجاب
ثالثها: أن يقترن حرف النفي
بشرطها دون جوابها وهي حرف امتناع لوجوب نحو لو تكرمني أكرمتك ومعناه عند
الجمهور انتفاء الجزاء وثبوت الشرط.
رابعها: عكسه وهو حرف وجوب
لامتناع نحو لو جئتني لم أكرمك فيقتضي ثبوت الجزاء وانتفاء الشرط ومنه قوله
تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}
واعلم أن تفسير
سيبويه لها مطرد في جميع مواردها ألا ترى أن مفهوم الآية عدم نفاذ كلمات
الله مع فرض شجر الأرض أقلاما والبحر ممدودا بسبعة أبحر مدادا ولا يلزم ألا
يقع عدم نفاذ الكلمات إذا لم يجعل الشجر أقلاما والبحر مدادا.
وكذا في نعم العبد صهيب فإن مفهومه أن عدم العصيان كان يقع عند عدم الخوف ولا يلزم ألا يقع عدم العصيان إلا عند الخوف وهكذا الباقي.
وأما
تفسير من فسرها بأنها حرف امتناع لامتناع وذكر لها هذه الأحوال الأربعة
فلا يطرد وذلك لتخلف هذا المعنى في بعض الموارد وهو كل موضوع دل الدليل فيه
على أن الثاني ثابت مطلقا إذ لو كان منفيا لكان النفاد حاصلا والعقل يجزم
بأن الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن تنفد مع قلتها وعدم بعضها
أولى.
وكذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}
وكذا قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا}.
فإن التولي عند عدم الإسماع أولى
وأما
قوله: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" فنفي العصيان ثابت إذ لو
انتفى نفي العصيان لزم وجوده وهو خلاف ما يقتضيه سياق الكلام في المدح
ولما لم يطرد لهم هذا التفسير مع اعتقادهم صحته اختلفوا في تخريجها على طرق:
الأول:
دعوى أنها في مثل هذه المواضع أعني الثابت فيها الثاني دائما إنما جاءت
لمجرد الدلالة على ارتباط الثاني بالأول لا للدلالة على الامتناع وضابطها
ما يقصد به الدلالة على مجرد الارتباط دون امتناع كل موضع قصد فيه ثبوت شيء
على كل حال فيربط ذلك الشيء بوجود أحد النقيضين لوجوده دائما ثم لا يذكر
إذ ذاك إلا النقيض الذي يلزم من وجود ذلك الشيء على تقدير وجود النقيض
الآخر فعدم النفاد في الآية الكريمة واقع على تقدير كون ما في الأرض من
شجرة أقلام وكون البحر مد من سبعة أبحر فعدم النفاد على تقدير انتفاء كون
هذين الأمرين أولى وكذا عدم عصيان صهيب واقع على تقدير عدم خوفه فعدم
عصيانه على تقدير وجود الخوف أولى وعلى هذا يتقرر جميع ما يرد عليك من هذا
الباب.
والتحقيق أنها تفيد امتناع الشرط كما سبق من الآيات الشريفة وتحصل أنها تدل على أمرين:
أحدهما:
امتناع شرطها والآخر بكونه مستلزما لجوابها ولا يدل على امتناع الجواب في
نفس الأمر ولا ثبوته فإذا قلت لو قام زيد لقام عمرو فقيام زيد محكوم
بانتفائه فيما مضى وبكونه مستلزما ثبوته لثبوت قيام عمرو وهل لقيام عمرو
وقت آخر غير اللازم عن قيام زيد أو ليس له؟لا يعرض في الكلام لذلك ولكن
الأكثر كون الثاني والأول غير واقعين
وقد سلب الإمام فخر الدين الدلالة
على الامتناع مطلقا وجعلها لمجرد الربط واحتج بقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ
اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا}.
قال:
فلو أفادت لو انتفاء الشيء لانتفاء غيره لزم التناقض لأن قوله:
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} يقتضي أنه ما علم
فيهم خيرا وما أسمعهم وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} يفيد أنه
تعالى ما أسمعهم ولا تولوا لكن عدم التولي خير فيلزم أن يكون وما علم فيهم
خيرا.
قال فعلمنا أن كلمة لو لا تفيد إلا الربط هذا كلامه.
وقد يمنع
قوله إن عدم التولي خير فإن الخير إنما هو عدم التولي بتقدير حصول الإسماع
والفرض أن الإسماع لم يحصل فلا يكون عدم التولي على الإطلاق خيرا بل عدم
التولي المرتب على الإسماع.
الطريق الثاني: أن قولهم لامتناع الشيء
لامتناع غيره معناه أن ما كان جوابا لها كان يقع لوقوع الأول فلما امتنع
الأول امتنع أن يكون الثاني واقعا لوقوعه فإن وقع فلأمر آخر وذلك لا ينكر
فيها ألا ترى أنك إذا قلت لو قام زيد قام عمرو دل ذلك على امتناع قيام عمرو
الذي كان يقع منه لو وقع قيام زيد لا على امتناع قيام عمرو لسبب آخر وكذلك
لو لم يخف الله لم يعصه امتنع عدم العصيان الذي كان سيقع عند عدم الخوف لو
وقع ولا يلزم امتناع عدم العصيان عند وجود الخوف.
الثالث: أن تحمل لو
فيما جاء من ذلك على أنها محذوفة الجواب فيكون قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي
الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} معناه لو كان هذا لتكسرت الأشجار وفني
المداد ويكون قوله: {مَا نَفِدَتْ} مستأنف أو على حذف حرف العطف أي وما
نفدت
الرابع: أن تحمل لو في هذه المواضع على التي بمعنى إن قال أبو
العباس لو أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره تقول لو جئتني
لأعطيتك ولو كان زيد هناك لضربتك ثم تتسع فتصير في معنى إن الواقعة للجزاء
تقول أنت لا
تكرمني ولو أكرمتك تريد وإن قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}
وقوله:
{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى
بِهِ}. تأويله عند أهل اللغة لا يقبل أن يتبرر به وهو مقيم على الكفر ولا
يقبل وإن افتدى به.
فإن قيل: كيف يسوغ هذا في قوله: {وْلَو أَنَّ مَا
فِي الأَرْضِ} فإن إن الشرطية لا يليها إلا الفعل وإن المشددة مع ما عملت
فيه اسم فإذا كانت لو بمنزلة إن فينبغي ألا تليها.
أجاب الصفار بأنه قد
يلي أنّ الاسم في اللفظ فأجاز ذلك في إن نفسها فأولى أن يجوز في لو
المحمولة عليها وكما جاز ذلك في لو قبل خروجها إلى الشرط مع أنها من الحروف
الطالبة للأفعال.
قال والدليل على أن لو في الآيتين السابقين بمعنى إن
أن الماضي بعدها في موضع المستقبل ولو الامتناعية تصرف معنى المستقبل إلى
الماضي فإن المعنى وإن يفتد به.
واعلم أن ما ذكرناه من أنها تقتضي امتناع ما يليها أشكل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فإنهم لم يقروا بالكذب.
وأجيب بوجهين: أحدهما: أنها بمعنى إن والثاني: قاله الزمخشري أنه على الفرض أي ولو كنا من أهل الصدق عندك
وقال
الزمخشري فيما أفرده على سورة الحجرات لو تدخل على جملتين فعليتين تعلق ما
بينهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولما لم تكن مخلصة بالشرط كان ولا
عاملة مثلها
وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في
مضموني جملتها أن الثاني امتنع لامتناع الأول وذلك أن تكسو الناس فيقال لك
هلا كسوت زيدا فتقول لو جاءني زيد لكسوته افتقرت في جوابها إلى ما ينصب
علما على التعليق فزيدت اللام ولم تفتقر إلى مثل ذلك إن لعملها في فعلها
وخلوصها للشرط.
ويتعلق بـ "لو" الامتناعية مسائل:
الأولى: أنها
كالشرطية في اختصاصها بالفعل فلا يليها إلا فعل أو معمول فعل يفسره ظاهر
بعده كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ
رَبِّي}. حذف الفعل فانفصل الضمير.
وانفردت لو بمباشرة أنّ كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} وهو كثير.
واختلف في موضع أنّ بعد لو فقال سيبويه في موضع رفع بالابتداء واختلف عنه في الخبر فقيل محذوف وقيل لا يحتاج إليه.
وقال الكوفيون: فاعل بفعل مقدر تقديره: ولو ثبت أنهم وهو أقيس لبقاء الاختصاص.
الثانية: قال الزمخشري يجب كون خبر أن الواقعة بعد لو فعلا ليكون عوضا عن الفعل المحذوف
وقال
أبو حيان: هو وهم وخطأ فاحش قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي
الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} وكذا رده ابن الحاجب وغيره بالآية
وقالوا إنما ذاك في الخبر المشتق لا الجامد كالذي في الآية
وأيد
بعضهم كلام الزمخشري بأنه إنما جاء من حيث إن قوله: {وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ} لما التبس بالعطف بقوله: {مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ} صار خبر الجملة المعطوفة وهو {يَمُدُّهُ} كأنه خبر الجملة
المعطوف عليها لالتباسها بها.
قال الشيخ في المغني: وقد وجدت آية في
التنزيل وقع فيها الخبر مشتقا ولم يتنبه لها الزمخشري كما لم يتنبه لآية
لقمان ولا ابن الحاجب وإلا لمنع ذلك.
قلت: وهذا عجيب فإن لو في الآية
للتمني والكلام في الامتناعية بل أعجب من ذلك كله أن مقالة الزمخشري سبقه
إليها السيرافي وهذا الاستدراك وما استدرك به منقول قديما في شرح الإيضاح
لابن الخباز لكن في غير مظنته فقال في باب إن وأخواتها قال السيرافي تقول
لو أن زيدا أقام لأكرمته ولا تجوز لو أن زيدا حاضر لأكرمته لأنك لم تلفظ
بفعل يسد مسد ذلك الفعل.
هذا كلامهم وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ}.
فأوقع خبرها صفة ولهم أن يفرقوا بأن هذه للتمني فأجريت مجرى ليت كما تقول ليتهم بادون انتهى كلامه
تنبيه
ذكر
الزمخشري بعد كلامه السابق في سورة الحجرات سؤالا وهو ما الفرق بين قولك
لو جاءني زيد لكسوته ونظيره قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى} وبين قوله: لو زيد جاءني لكسوته ومنه قوله
تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ
رَحْمَةِ رَبِّي} وبين قوله: لو أن زيدا جاءني لكسوته ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا}.
وأجاب
بأن القصد في الأول أن الفعلين تعليق أحدهما بصاحبه لا غير من غير تعرض
لمعنى زائد على التعليق الساذج على الوجه الذي بينته وهو المعنى في الآية
الأولى لأن الغرض نفي أن يتخذ الرحمن ولدا وبيان تعاليه عن ذلك وليس لأداء
هذا الغرض إلا تجديد الفعلين للتعلق دون أمر زائد عليه وأما في الثاني فقد
انضم إلى التعليق بأحد معنيين إما نفي الشك أو الشبهة أن المذكور الذي هو
زيد مكسو لا محالة لو وجد منه المجيء ولم يمتنع وإما بيان أنه هو المختص
بذلك دون غيره وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ} محتمل المعنيين جميعا أعني أنهم لا محالة يملكون وأنهم
المخصوصون بالإمساك لو ملكوا إشارة إلى أن الإله الذي هو مالكها وهو الله
الذي وسعت رحمته كل شيء لا يمسك.
فإن قلت: لو لا تدخل إلا على فعل وأنتم
ليس بمرفوع بالابتداء ولكن بـ "تملك" مضمرا وحينئذ فلا فرق بين لو تملكون
وبين لو أنتم تملكون لمكان القصد إلى الفعل في الموضعين دون الاسم وإنما
يسوغ هذا الفرق لو ارتفع بالابتداء.
قلت: التقدير وإن كان على ذلك إلا
أنه لما كان تمثيلا لا يتكلم به ينزل الاسم في الظاهر منزلة الشيء تقدم
لأنه أهم بدليل لو ذات سوار لطمتني في ظهور قصدهم إلى الاسم لكنه أهم فيما
ساقه المثل لأجله
وكذا قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} وإن كان أحد مرفوعا بفعل مضمر في التقدير
وأما
في الثالث: ففيه ما في الثاني مع زيادة التأكيد الذي تعطيه أن وفيه إشعار
بأن زيدا كان حقه أن يجيء وأنه بتركه المجيء قد أغفل حظه فتأمل هذه الفروق
وقس عليها نظائر التراكيب في القرآن العزيز فإنها لا تخرج عن واحد من
الثلاثة.
الثالثة: الأكثر في جوابها المثبت اللام المفتوحة للدلالة على
أن ما دخلت عليه هو اللازم لما دخلت عليه لو قال تعالى: {لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. ففي اللام إشعار بأن
الثانية لازمة للأولى.
وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}. ويجوز حذفها: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}
الرابعة:
يجوز حذف جوابها للعلم وللتعظيم كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً}. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} ،وهو
كثير سبق في باب الحذف على ما فيه من البحث وأما قوله: {وَلَوْ أَنَّ مَا
فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} فيحتمل أن يكون جواب لو محذوفا
والتقدير لنفدت هذه الأشياء وما نفدت كلمات الله وأن يكون {مَا نَفِدَتْ}
هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النفاد لازما على تقدير
كون ما في الأرض من شجرة أقلاما والبحر مدادا كان لزومه على تقدير عدمها
أولى.
وقيل: تقدر هي وجوابها ظاهرا كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ
مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ
بِمَا خَلَقَ} تقديره ولو كان معه آلهة إذا لذهب كل إله
وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}.
أي ولو يكون وخططت إذن لارتاب
الوجه
الثاني: من أوجه "لو" أن تكون شرطية وعلامتها أن يصلح موضعها إن المكسورة
وإنما أقيمت مقامها لأن في كل واحدة منهما معنى الشرط وهي مثلها فيليها
المستقبل كقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} {وَلَوْ نَشَاءُ
لَطَمَسْنَا}
وإن كان ماضيا لفظا صرفه للاستقبال كقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}.
وقوله:
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} {فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}. ونظائره.
قالوا:
ولولا أنها بمعنى الشرط لما اقتضت جوابا لأنه لا بد لها من جواب ظاهر أو
مضمر وقد قال المبرد في الكامل إن تأويله عند أهل اللغة لا يقبل منه أن
يفتدى به وهو مقيم على الكفر ولا يقبل إن افتدى به.
قالوا: وجوابها يكون
ماضيا لفظا كما سبق وقوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا
لَكُمْ} ، ومعنى ويكون باللام غالبا نحو: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ} وقد يحذف نحو: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}.
ولا يحذف غالبا إلا في صلة نحو: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} الآية
الثالث: "لو" المصدرية وعلامتها أن يصلح موضعها أن المفتوحة كقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}
وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ}
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ}
{وَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي}. أي الافتداء.
ولم
يذكر الجمهور مصدرية لو وتأولوا الآيات الشريفة على حذف مفعول يود وحذف
جواب لو أي يود أحدهم طول العمر لو يعمر ألف سنة ليسر بذلك.
وأشكل قول الأولين بدخولها على أن المصدرية في نحو قوله تعالى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ}.
والحرف المصدري لا يدخل على مثله !
وأجيب: بأنها إنما دخلت على فعل محذوف مقدر تقديره يود لو ثبت أن بينها فانتفت مباشرة الحرف المصدري لمثله!
وأورد ابن مالك السؤال في: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} وأجاب بهذا وبأن هذا من باب توكيد اللفظ بمرادفه نحو
{فِجَاجاً سُبُلاً}
وفي كلا الوجهين نظر أما الأول وهو دخول لو على ثبت مقدرا إنما هو مذهب المبرد وهو لا يراه فكيف يقرره في الجواب!
وأما
الثاني،فليست هنا مصدرية بل للتمني كما سيأتي ولو سلم فإنه يلزم ذلك وصل
لو بجملة اسمية مؤكدة بـ "أن" وقد نص ابن مالك وغيره على أن صلتها لا بد أن
تكون فعلية بماض أو مضارع
قال ابن مالك: وأكثر وقوع هذه بعد ود أو يود
أو ما في معناهما من مفهم تمن وبهذا يعلم غلط من عدها حرف تمن لو صح ذلك لم
يجمع بينها وبين فعل تمن كما لا يجمع بين ليت وفعل تمن.
الرابع:
"لو" التي للتمني وعلامتها أن يصح موضعها ليت نحو لو تأتينا فتحدثنا كما
تقول ليتك تأتينا فتحدثنا ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}.
ولهذا نصب فيكون في جوابها لأنها أفهمت التمني كما انتصب {فَأَفُوزَ} في جواب ليت: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ}
وذكر بعضهم قسما آخر وهو التعليل كقوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}
لولا
مركبة عند سيبويه من لو ولا حكاه الصفار والصحيح أنها بسيطة.
ومن
التركيب ما يغير ومنه ما لا يغير فمما لا يغير لولا ومما يتغير بالتركيب
حبذا صارت للمدح والثناء وانفصل ذا عن أن يكون مثنى أو مجموعا أو مؤنثا
وصار بلفظ واحد لهذه الأشياء وكذلك هلا زال عنها الاستفهام جملة.
ثم هي على أربعة أضرب:
الأول: حرف امتناع لوجوب وبعضهم يقول لوجود بالدال.
قيل: ويلزم على عبارة سيبويه في لو أن تقول حرف لما سيقع لانتفاء ما قبله.
وقال
صاحب رصف المباني: الصحيح أن تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل عليها فإن كانت
الجملتان بعدها موجبتين فهي حرف امتناع لوجوب نحو لولا زيد لأحسنت إليك
فالإحسان امتنع لوجود زيد وإن كانتا منفيتين فحرف وجود لامتناع نحو لولا
عدم زيد لأحسنت إليك انتهى.
ويلزم في خبرها الحذف ويستغنى بجوابها عن
الخبر والأكثر في جوابها المثبت اللام نحو: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا
مُؤْمِنِينَ}،{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
وقد يحذف للعلم به كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
وقد
قيل: في قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.
لهم بها لكنه امتنع همه بها لوجود رؤية برهان ربه فلم يحصل منه هم البتة
كقولك لولا زيد لأكرمتك المعنى أن الإكرام ممتنع لوجود زيد وبه يتخلص من
الإشكال الذي يورد وهو كيف يليق به الهم.
وأما جوابها إذا كان منفيا فجاء القرآن بالحذف نحو: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً }
وهو يرد قول ابن عصفور أن المنفي بـ "ما" الأحسن باللام.
الثاني:
التحضيض فتختص بالمضارع نحو: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} {لَوْلا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ}
والتوبيخ والتنديم فتختص بالماضي نحو: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}
وفي كل من القسمين تختص بالفعل لأن التحضيض والتوبيخ لا يردان إلا على الفعل هذا هو الأصل
وقد
جوزوا فيها إذا وقع الماضي بعدها أن يكون تحضيضا أيضا وهو حينئذ يكون
قرينة صارفة للماضي عن المضي إلى الاستقبال فقالوا في قوله تعالى:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يجوز بقاء نفر على معناه في المضي فيكون لولا توبيخا ويجوز أن يراد به الاستقبال فيكون تحضيضا.
قالوا: وقد تفصل من الفعل بإذ وإذا معمولين له وبجملة شرطية معترضة.
فالأول {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}
والثاني
والثالث نحو: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ}،المعنى: فهلا ترجعون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم مؤمنين
وحالتكم أنكم شاهدون ذلك ونحن أقرب إلى المحتضر منكم بعلمنا أو بالملائكة
ولكنكم لا تشاهدون ذلك ولولا الثانية تكرار للأولى.
الثالث: للاستفهام بمعنى "هل" نحو: {لوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}
قاله الهروي: ولم يذكره الجمهور والظاهر أن الأولى للعرض والثانية مثل: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
الرابع: للنفي بمعنى لم نحو قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} أي لم تكن
{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي فلم يكن ذكره ابن فارس في كتاب فقه العربية والهروي في الأزهية
والظاهر
أن المراد فهلا ويؤيده أنها في مصحف أبي: {فَهلاَّ كَانَتْ قَرْيَةٌ} نعم
يلزم من ذلك الذي ذكراه معنى المضي لأن اقتران التوبيخ بالماضي يشعر
بانتفائه.
وقال ابن الشجري هذا يخالف أصح الإعرابين لأن المستثنى بعد
النفي يقوى فيه البدل ويجوز فيه النصب ولم يأت في الآيتين إلا النصب أي فدل
على أن الكلام موجب وجوابه ما ذكرنا من أن فيه معنى النفي.
وجعل ابن فارس منه: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}المعنى اتخذوا من دون الله آلهة ولا يأتون عليه بسلطان.
ونقل
ابن برجان في تفسيره في أواخر سورة هود عن الخليل أن جميع ما في القرآن من
لولا فهي بمعنى هلا إلا قوله في سورة الصافات: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ
مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ} لأن جوابها بخلاف غيرها.
وفيه نظر لما سبق
لوما
هي قريب من لولا كقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} قال ابن فارس هي بمعنى هلا
لم
نفي للمضارع وقلبه ماضيا وتجزمه نحو: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.
ومن
العرب من ينصب بها وعليه قراءة: {أَلَمْ نَشْرَحْ} بفتح الحاء وخرجت على
أن الفعل مؤكد بالنون الخفيفة ففتح لها ما قبلها ثم حذفت ونويت
لما
على ثلاثة أوجه:
أحدها:
تدخل على المضارع فتجزمه وتقبله ماضيا كـ "لم" نحو: {وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} بل لما يذوقوا عذاب.
أي لم يذوقوه: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}
لكنها تفارق لم من جهات:
أحدها:
أن لم لنفي فعل ولما لنفي قد فعل فالمنفي بها آكد قال الزمخشري في الفائق
لما مركبة من "لم" و"ما" هي نقيضة "قد" وتنفي ما تثبته من الخبر المنتظر.
وهذا
أخذه من أبي الفتح فإنه قال أصل "لما" "لم" زيدت عليها"ما" فصارت نفيا
تقول قام زيد فيقول المجيب بالنفي لم يقم فإن قلت قد قام قال لما يقم لما
زاد في الإثبات قد زاد في النفي ما إلا أنهم لما ركبوا لم مع ما حدث لها
معنى ولفظ أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفا فقالوا لما قمت قام
زيد أي وقت قيامك قام زيد وأما اللفظ فلأنه يجوز الوقف عليها دون مجزومها
نحو جئتك ولما أي ولما تجئ انتهى
ويخرج من كلامه ثلاثة فروق ما ذكرناه أولا وكونها قد تقع اسما هو ظرف وأنه يجوز الوقف عليها دون النفي بخلاف لم
ورابعها:
يجيء اتصال منفيها،بالحال والمنفي بلم لا يلزم فيه ذلك بل قد يكون منقطعا
نحو: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئاً مَذْكُوراً}، وقد يكون متصلا نحو: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ
رَبِّ شَقِيّاً}
وخامسها: أن الفعل بعد لما يجوز حذفه اختيارا.
سادسها: أن لم تصاحب أدوات الشرط بخلاف لما فلا يقال إن لما يقم وفي التنزيل: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ}،{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا}
سابعها: أن منفي لما متوقع ثبوته بخلاف منفي لم ألا ترى أن معنى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.
أنهم لم يذوقوه إلى الآن وأن ذوقهم له متوقع.
قال
الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
ما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد
وأنكر الشيخ أبو حيان دلالة لما على التوقع فكيف يتوهم أنه يقع بعد
وأجاب
بعضهم بأن لما ليست لنفي المتوقع حيث يستبعد توقعه وإنما هي لنفي الفعل
المتوقع كما أن قد لإثبات الفعل المتوقع وهذا معنى قول النحويين إنها
موافقة لـ "قد فعل" أي يجاب بها في النفي حيث يجاب بـ "قد" في الإثبات
ولهذا قال ابن السراج جاءت لما بعد فعل يقول القائل لما يفعل فتقول قد فعل
الوجه الثاني: أن تدخل على ماض فهي حرف لوجود أو وجوب لوجوب فيقتضي وقوع الأمرين جميعا عكس لو نحو لما جاءني زيد أكرمته.
وقال: ابن السراج والفارسي: ظرف بمعنى حين
ورده ابن عصفور بقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}.
قال
لأن الهلاك لم يقع حين ظلموا بل كان بين الظلم والهلاك إرسال الرسل
وإنذارهم إياهم وبعد ذلك وقع الإهلاك فليست بمعنى حين وهذا الرد لا يحسن
إلا إذا قدرنا الإهلاك أول ما ابتدأ الظلم وليس كذلك بل قوله: {ظَلَمُوا}
في معنى استداموا الظلم أي وقع الإهلاك لهم حين ظلمهم أي في حين استدامتهم
الظلم وهم متلبسون به.
ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}.
وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً}
{إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا}
{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا}
وأما
جوابها فقد يجيء ظاهرا كما ذكرنا قد يكون جملة اسمية مقرونة بالفاء نحو:
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}.
أو مقرونة بما النافية كقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ}.
وبإذا المفاجئة نحو: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
وبهذا رد على من زعم أنها ظرف بمعنى حين فإن ما النافية وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلها فانتفى أن يكون ظرفا.
وقد
يكون مضارعا كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ
وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} وهو بمعنى الماضي أي جادلنا.
وقد
يحذف كقوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال بعضهم التقدير انقسموا قسمين منهم
مقتصد ومنهم غير ذلك لكن الحق أن: {مُقْتَصِدٌ} هو الجواب هو الذي ذكره
ابن مالك ونوزع في ذلك من جهة أن خبرها مقرون بالفاء يحتاج لدليل.
وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} جوابه محذوف أي لمنعتكم.
وأما
قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}
قيل: جواب لما
الأولى لما الثانية وجوابها ورد باقترانه وقيل: {كَفَرُوا بِهِ} جواب لهما
لأن الثانية تكرير للأولى ز وقيل جواب الأولى محذوف أي أنكروه واختلف في
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فقيل الجواب: {ذَهَبَ
اللَّهُ} وقيل محذوف استطالة للكلام مع أمن اللبس أي حمدت
وكذلك قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ}.
قيل الجواب قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ}. على جعل الواو زائدة.
وقيل: الجواب محذوف أي أنجيناه وحفظناه.
وقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا}.
قيل: الجواب {وَجَاءَتْهُ} على زيادة الواو.
وقيل الجواب محذوف أي أخذ يجادلنا وقيل: {يُجَادِلُنَا} مؤول بـ "جادلنا" وكذلك قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}.
أي أجزل له الثواب وتله.
وأما قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}.
فما
تقدم من قوله: {وَجَعَلْنَا} يسد مسد الجواب لا أنه الجواب لأن الجواب لا
يقدم عليها وكذا قوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا
ظَلَمُوا}.
فما تقدم من قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} يسد مسد الجواب لا أنه
الجواب لأن الجواب لا يقدم عليها وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا
زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً}.
فإنما وقع جوابها بالنفي لأن التقدير فلما جاءهم نذير زادهم نفورا أو ازداد نفورهم
تنبيه:
يختلف المعنى بين تجردها من أن ودخولها عليه وذلك أن من شأنها أن تدل على
أن الفعل الذي هو ناصبها قد تعلق بعقب الفعل الذي هو خافضته من غير مهلة
وإذا انفتحت أن بعدها أكدت هذا المعنى وشددته وذكره الزمخشري في كشافه
القديم قال ونراه مبنيا في قوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
لُوطاً} الآية كأنه قال لما أبصرهم لحقته المساءة وضيق الذرع في بديهة
الأمر وغرته
الوجه الثالث: حرف استثناء كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}.
على قراءة تشديد الميم.
وقوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
لما المخففة
مركبة من حرفين: اللام وما النافية وسيبويه يجعل ما زائدة والفارسي يجعل اللام وسيأتي في حرف الميم
لن
صيغة مرتجلة للنفي في قول سيبويه ومركبة عند الخليل من لا وأن واعترض بتقديم المفعول عليها نحو زيدا لن أضرب
وجوابه: يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط.
وكان
ينبغي أن تكون جازمة وقد قيل به إلا أن الأكثر النصب وعلى كل قول فهي لنفي
الفعل في المستقبل لأنها في النفي نقيضة السين وسوف وأن في الإثبات فإذا
قلت سأفعل أو سوف أفعل كان نقيضه لن أفعل.
وهي في نفي الاستقبال آكد من لا وقوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ}.
آكد من قوله: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}
وليس
معناها النفي على التأبيد خلافا لصاحب الأنموذج بل إن النفي مستمر في
المستقبل إلا أن يطرأ ما يزيله فهي لنفي المستقبل ولم لنفي الماضي وما لنفي
الحال.
ومن خواصها أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد
معناها وقد جاء في قوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً}. بحرف لا في
الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم يعم الأزمنة
كأنه يقول متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات وقيل لهم تمنوا الموت فلا يتمنونه
وقال في البقرة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فقصر من صيغة النفي لأن قوله تعالى:
{قُلْ
إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} وليست لن مع كان من صيغ العموم
لأن كان لا تدخل على حدث وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن قصر
الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث كأنه يقول إن كان قد وجب لكم الدار الآخرة
فتمنوا الموت ثم قال في الجواب: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فانتظم معنى
الآيتين وأما التأبيد فلا يدل على الدوام تقول زيد يصوم أبدا ويصلي أبدا
وبهذا يبطل تعلق المعتزلة بأن لن تدل على امتناع الرؤية ولو نفي بـ "لا"
لكان لهم فيه متعلق إذ لم يخص بالكتاب أو بالسنة وأما الإدراك الذي نفي بـ
"لا" فلا يمنع من الرؤية لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إنكم ترون ربكم" ولم يقل تدركون ربكم والعرب تنفي المظنون بـ "لن"
والمشكوك بـ "لا".
وممن صرح بأن التأبيد عبارة عن الزمن الطويل لا عن الذي لا ينقطع ابن الخشاب.
وقد سبق مزيد كلام فيها في فصل التأبيد وأدواته.
قيل:
وقد تأتي للدعاء كما أتت لا لذلك ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}
ومنعه آخرون لأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب والغائب نحو يا رب لا عذبت فلانا ونحوه لا عذب الله عمرا
لكن
للاستدراك
مخففة ومثقلة وحقيقته رفع مفهوم الكلام السابق تقول ما زيد شجاع ولكنه غير
كريم فرفعت بـ "لكن" ما أفهمه الوصف بالشجاعة من ثبوت الكرم له لكونهما
كالمتضايفين فإن رفعنا ما أفاده منطوق الكلام السابق فذاك استثناء وموقع
الاستدراك بين متنافيين بوجه ما فلا يجوز وقوعها بين متوافقين وقوله تعالى:
{ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}.
لكونه جاء في سياق لو ولو تدل على
امتناع الشيء لامتناع غيره فدل على أن الرؤية ممتنعة في المعنى فلما قيل:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} علم إثبات ما فهم إثباته أولا وهو سبب التسليم
وهو نفي الرؤية فعلم أن المعنى ولكن الله ما أراكهم كثيرا ليسلمكم فحذف
السبب وأقيم المسبب مقامه.
قال ابن الحاجب الفرق بين بل ولكن وإن اتفقا
في أن الحكم للثاني أن لكن وضعها على مخالفة ما بعدهما لما قبلهما ولا
يستقيم تقديره إلا مثبتا لامتناع تقدير النفي في المفرد وإذا كان مثبتا وجب
أن يكون ما قبله نفيا كقولك ما جاءني زيد لكن عمرو ولو قلت جاءني زيد لكن
عمرو لم يجز لما ذكرنا وأما بل فللإضراب مطلقا موجبا كان الأول أو منفيا.
وإذا
ثقلت فهي من أخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر ولا يليها الفعل وأما وقوع
المرفوع بعدها في قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} وهو ضمير
الرفع فجوابه أنها هنا ليست المثقلة بل هي المخففة والتقدير لكن أنا هو
الله ربي
ولهذا تكتب في المصاحف بالألف ويوقف عليها بها إلا أنهم
القوا حركة الهمزة على النون فالتقت النونان فأدغمت الأولى في الثانية
وموضع أنا رفع بالابتداء وهو مبتدأ ثان والله مبتدأ ثالث وربي خبر المبتدأ
الثالث والمبتدأ الثالث وخبره خبر الثاني والثاني هو خبر الأول والراجع إلى
الأول الياء.
ثم المخففة قد تكون مخففه من الثقيلة فهي عاملة وقد تكون
غير عاملة فيقع بعدها المفرد نحو ما قام زيد لكن عمرو فتكون عاطفة على
الصحيح وإن وقع بعدها جملة كانت حرف ابتداء.
وقال صاحب البسيط إذا وقع بعدها جملة فهل هي للعطف أو حرف ابتداء قولان كقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ}
قال: ونظير فائدة الخلاف في جواز الوقف على ما قبلها فعلى العطف لا يجوز وعلى كونها حرف ابتداء يجوز.
قال: وإذا دخل عليها الواو انتقل العطف إليها وتجردت للاستدراك
وقال
الكسائي: المختار عند العرب تشديد النون إذا اقترنت بالواو وتخفيفها إذا
لم تقترن بها وعلى هذا جاء أكثر القرآن العزيز كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ} {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} {لَكِنِ الرَّسُولُ}
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ}
وعلل
الفراء ذلك بأنها مخففه تكون عاطفة فلا تحتاج إلى واو معها كـ "بل" فإذا
كان قبلها واو لم تشبه بل لأن بل لا تدخل عليها الواو وأما إذا كانت مشدده
فإنها تعمل عمل إن ولا تكون عاطفة.
وقد اختلف القراء في {مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}
فأكثرهم على تخفيفها ونصب رسول بإضمار كان أو بالعطف على أبا أحد.
والأول أليق لكن ليست عاطفة لأجل الواو فالأليق لها أن تدخل على الجمل كـ "بل" العاطفة
وقرأ أبو عمرو بتشديدها على أنها عاملة وحذف خبرها أي ولكن رسول الله هو أي محمد
لعل
تجيء لمعان
الأول:
للترجي في المحبوب نحو لعل الله يغفر لنا وللإشفاق في المكروه نحو لعل
الله يغفر للعاصي ثم وردت في كلام من يستحيل عليه الوصفان لأن الترجي للجهل
بالعاقبة وهو محال على الله وكذلك الخوف والإشفاق.
فمنهم من صرفها إلى المخاطبين قال سيبويه في قوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى.
معناه
كونا على رجائكما في ذكرهما يعني أنه كلام منظور فيه إلى جانب موسى وهارون
عليهما السلام لأنهما لم يكونا جازمين بعدم إيمان فرعون.
وأما استعمالهما في الخوف ففي قوله تعالى: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
فإن الساعة مخوفة في حق المؤمنين بدليل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا}
وفي هذا رد على الزمخشري حيث أنكر أن تكون هذه الآية من هذا القبيل
فإن
قلت: ما معنى قولهم لعل من الله واجبه؟ هل ذلك من شأن المحبوب أو مطلقا
وإذا كانت في المحبوب فهل ذلك إخراج لها عن وضع الترجي إلى وضع الخبر فيكون
مجازا أم لا؟
قلت: ليس إخراجا لها عن وضعها وذلك أنهم لما رأوها من
الكريم للمخاطبين في ذلك المحبوب تعريض بالوعد وقد علم أن الكريم لا يعرض
بأن يفعل إلا بعد التصميم عليه فجرى الخطاب الإلهي مجرى خطاب عظماء الملوك
من الخلق وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ} الآية
إلى: {تَتَّقُونَ} إطماع المؤمن بأن يبلغ بإيمانه درجة التقوى العالية لأنه
بالإيمان يفتتحها وبالإيمان يختتمها ومن ثم قال مالك وأبو حنيفة الشرع
ملزم.
وقد قال: الزمخشري وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن
لكنه كريم رحيم إذا اطمع فعل ما يطمع لا محالة فجرى إطماعه مجرى وعده فلهذا
قيل إنها من الله واجبة.
وهذا فيه رائحة الاعتزال في الإيجاب العقلي
وإنما يحسن الإطماع دون التحقيق كيلا يتكل العباد كقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى
رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ}
وقال الراغب: لعل طمع وإشفاق.
وذكر بعض المفسرين أن لعل من الله واجبة وفسر في كثير من المواضع بـ "لا" وقالوا إن الطمع والإشفاق لا يصح على الله تعالى.
وقال:
ولعل وإن كان طمعا فإن ذلك يقتضي في كلامهم تارة طمع المخاطب وتارة طمع
المخاطب وتارة طمع غيرهما فقوله تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ}. فذلك طمع منهم في فرعون.
وفي قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. إطماع موسى وهارون ومعناه قولا له قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى
وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي تظن بك الناس
وعليه قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} ،وقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي راجين الفلاح
كما قال: كما قال: {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}
وزعم بعضهم بأنها لا تكون للترجي إلا في الممكن لأنه انتظار ولا ينتظر إلا في ممكن فأما قوله تعالى:
{لَعَلِّي
أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} الآية فاطلاع فرعون إلى الإله مستحيل وبجهله اعتقد
إمكانه لأنه يعتقد في الإله الجسمية والمكان تعالى الله عن ذلك.
الثاني: للتعليل كقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
{وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي كي.
وجعل منه ثعلب: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أي كي حكاه عنه صاحب المحكم.
الثالث:
الاستفهام كقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْراً} {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} وحكى البغوي في
تفسيره عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله:
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنها للتشبيه
وكونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة ووقع في صحيح البخاري في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أن "لعل" للتشبيه
وذكر غيره أنها للرجاء المحض وهو بالنسبة إليهم.
واعلم أن الترجي والتمني من باب الإنشاء كيف يتعلقان بالماضي.
وقد وقع خبر ليت ماضيا في قوله: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} وممن نص على منع وقوع الماضي خبرا للعل الرماني
ليس
فعل
معناه نفي مضمون الجملة في الحال إذا قلت ليس زيدا قائما نفيت قيامه في
حالك هذه وإن قلت ليس زيد قائما غدا لم يستقم ولهذا لم يتصرف فيكون فيها
مستقبلا.
هذا قول الأكثرين وبعضهم يقول إنها لنفي مضمون الجملة عموما.
وقيل مطلقا حالا كان أو غيره وقواه ابن الحاجب.
ورد الأول بقوله: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ}
وهذا
نفي لكون العذاب مصروفا عنهم يوم القيامة فهو نفي في المستقبل وعلى هذين
القولين يصح ليس إلا الله وعلى الأول يحتاج إلى تأويل وهو أنه قد ينفى عن
الحال بالقرينة نحو ليس خلق الله مثله.
وهل هو لنفي الجنس أو الوحدة لم
أر من تعرض لذلك غير ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح فقال في قوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس صلاة أثقل على المنافقين ففيه شاهد على
استعمال ليس للنفي العام المستغرق به للجنس وهو مما يغفل عنه. ونظيره قوله
تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ}
لدن
بمعنى عند وهي أخص منها لدلالته على ابتدائها به نحو: أقمت عنده من لدن
طلوع الشمس إلى غروبها فتوضح نهاية الفعل وهي أبلغ من عند قال تعالى:
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}
{مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} وقد سبق الفرق بينهما في عند.
وقد تحذف نونها قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}
{هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
ما
تكون على اثني عشر وجها ستة منها أسماء وستة حروف
ما الاسمية.
فالاسمية
ضربان: معرفة ونكرة لأنه إذا حسن موضعها الذي فهي معرفة أو شيء فهي نكرة
وإن حسنا معا جاز الأمران كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}.
و{هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
والنكرة: ضربان ضرب يلزم الصفة وضرب لا
يلزمه والذي يلزمه الاستفهامية والشرطية والتعجب وما عداها تكون منه نكرة
فلا بد لها من صفة تلزمها.
فالأول: من الستة: الأسماء الخبرية وهي
الموصولة ويستوي فيها التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع كقوله
تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}.
وقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}
فإن كان المراد بها المذكر كانت للتذكير بمعنى الذي وإن كان المراد بها المؤنث كانت للتأنيث بمعنى التي.
وقال السهيلي: كذا يقول النحويون إنها بمعنى الذي مطلقا وليس كذلك بل بينهما تخالف في المعنى وبعض الأحكام
أما المعنى فلان ما اسم مبهم في غاية الإبهام حتى إنه يقع على المعدوم نحو: "إن الله عالم بما كان وبما لم يكن"
وأما في الأحكام فإنها لا تكون نعتا لما قبلها ولا منعوتة لأن صلتها تغنيها عن النعت ولا تثنى ولا تجمع انتهى.
ثم لفظها مفرد ومعناها الجمع ويجوز مراعاتها في الضمير.
ونحوه من مراعاة المعنى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}.
ثم قال: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا}. لما أراد الجمع.
وكذلك
قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً
مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ}
ومن مراعاة
اللفظ: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} وأصلها أن تكون
لغير العاقل كقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}
وقد تقع على من يعقل عند اختلاطه بما لا يعقل تغليبا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
وقوله:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية بدليل نزول الآية
بعدها مخصصة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}
قالوا: وقد تأتي لأنواع من يعقل كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي الأبكار إن شئتم أو الثيبات
ولا تكون لأشخاص من يعقل على الصحيح لأنها اسم مبهم يقع على جميع الأجناس فلا يصح وقوعها إلا على جنس
ومنهم من جوزه محتجا بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} والمراد آدم.
وقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي الله.
فأما
الأولى فقيل إنها مصدرية وقال السهيل بل إنها وردت في معرض التوبيخ على
امتناعه من السجود ولم يستحق هذا من حيث كان السجود لما يعقل ولكن لعلة
أخرى وهي المعصية والتكبر فكأنه يقول لم عصيتني وتكبرت على ما خلقته وشرفته
فلو قال ما منعك أن تسجد لمن؟كان استفهاما مجردا من توبيخ ولتوهم أنه وجب
السجود له من حيث كان يعقل أو لعلة موجودة فيه أو لذاته وليس كذلك.
وأما
آية السماء فلأن القسم تعظيم للمقسم به من حيث ما في خلقها من العظمة
والآيات فثبت لهذا القسم بالتعظيم كائنا ما كان وفيه إيحاء إلى قدرته تعالى
على إيجاد هذا الأمر العظيم بخلاف قوله من لأنه كان يكون للمعنى مقصورا
على ذاته دون أفعاله ومن هذا يظهر غلط من جعلها بتأويل المصدر.
وأما
{مَا أَعْبُدُ} فهي على بابها لأنها واقعة على معبوده عليه السلام على
الإطلاق لأن الكفار كانوا يظنون أنهم يعبدون الله وهم جاهلون به فكأنه قال
أنتم لا تعبدون معبودي
ووجه آخر وهو أنهم كانوا يحسدونه ويقصدون مخالفته
كائنا من كان معبوده فلا يصح في اللفظ إلا لفظة ما لإبهامها ومطابقتها
لغرض أو لازدواج الكلام لأن معبودهم لا يعقل وكرر الفعل على بنية المستقبل
حيث أخبر عن نفسه إيماء إلى عصمة الله له عن
الزيغ والتبديل وكرره بلفظ حين أخبر عنهم بأنهم يعبدون أهواءهم ويتبعون شهواتهم بفرض أن يعبدوا اليوم مالا يعبدون غدا.
وهاهنا
ضابط حسن الفرق بين الخبرية والاستفهامية وهو أن ما إذا جاءت قبل ليس أو
لم أو لا أو بعد إلا فإنها تكون خبرية كقوله: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}{مَا
لَمْ يَعْلَمْ}{مَا لا تَعْلَمُونَ}{إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.
وشبهه.
وكذلك إذا جاءت بعد حرف الجر نحو ربما وعما وفيما ونظائرها إلا بعد كاف التشبيه.
وربما كانت مصدرا بعد الباء نحو: {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} {بِمَا تَعْمَلُونَ}
وإن وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر جاز فيها الخبر والاستفهام كقوله تعالى:
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
{وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}
{هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ}.
{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}
{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ}
الثاني:
الشرطية ولها صدر الكلام ويعمل فيها ما بعدها من الفعل نحو ما تصنع أصنع
وفي التنزيل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا}
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} {وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} {مَا يَفْتَحِ
اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} فـ "ما" في هذه
المواضع في موضع نصب بوقوع الفعل عليها
الثالث: الاستفهامية بمعنى أي
شيء ولها صدر الكلام كالشرط ويسأل بها عن أعيان ما لا يعقل وأجناسه وصفاته
عن أجناس العقلاء وأنواعهم وصفاتهم قال تعالى: {مَا هِيَ}.
و{مَا لَوْنُهَا} {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}
قال
الخليل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} ما استفهام أي أي شيء تدعون من دون الله؟
ومثال
مجيئها لصفات من يعلم قوله تعالى: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا
تَأْمُرُنَا} ،ونظيرها لكن في الموصولة {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ}.
وجوز بعض النحويين أن يسأل بها عن أعيان من يعقل أيضا
حكاه الراغب فإن كان مأخذه قوله تعالى عن فرعون: {وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ}. فإنما هو سؤال عن الصفة لأن الرب هو المالك والملك صفة
ولهذا أجابه موسى بالصفات ويحتمل أنّ ما سؤال عن ماهية الشيء ولا يمكن ذلك
في حق الله تعالى فأجابه موسى تنبيها على صواب السؤال.
ثم فيه مسألتان:
إحداهما في إعرابها وهو بحسب الاسم المستفهم عنه فإن كانت هي المستفهم عنها
كانت في موضع رفع بالابتداء نحو قوله تعالى: {مَا لَوْنُهَا}. و{مَا هِيَ}
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وإن كان ما بعدها هو
المسئول عنه كانت في موضع الخبر كقوله: {مَا الرَّحْمَنُ}. وقوله: {مَا
الْقَارِعَةُ}. {مَا الْحَاقَّةُ}
الثانية: في حذف ألفها ويكثر في حالة
الخفض قصدوا مشاكلة اللفظ للمعنى فحذفوا الألف كما أسقطوا الصلة ولم يحذفوا
في حال النصب والرفع كيلا تبقى الكلمة على حرف واحد فإذا اتصل بها حرف
الجر أو مضاف اعتمدت عليه لأن الخافض والمخفوض بمنزلة الكلمة الواحدة كقوله
تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ} {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
وأما قوله:
{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} ،فقال المفسرون
معناه بأي شيء غفر لي فجعلوا ما استفهاما وقال الكسائي معناه بمغفرة ربي
فجعلها مصدرية
قال الهروي: إثبات الألف في ما بمعنى الاستفهام مع
اتصالها بحرف الجر لغة وأما قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ
لَهُمْ} فقيل إنها للاستفهام أي بأي شيء
أغويتني؟ ثم ابتدأ
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} وقيل مصدرية والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف أي
فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن أي بسبب إغوائك أقسم.
ويجوز أن تكون
الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان مكلفا
والتكليف من أفعال الله لكونه تعريفا لسعادة الأبد وكان جديرا أن يقسم به.
فإن قيل تعلقها بـ {لأَقْعُدَنَّ} قيل يصد عنه لام القسم ألا ترى أنك لا تقول والله لا بزيد لأمرن.
والرابع: التعجبية كقوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}
ولا ثالث لهما في القرآن إلا في قراءة سعيد بن جبير: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}
وتكون
في موضع رفع بالابتداء وما خبر وهو قريب مما قبله لأن الاستفهام والتعجب
بينهما تلازم لأنك إذا تعجبت من شيء فبالحري أن تسأل عنه
والخامس: نكرة
بمعنى شيء ويلزمها النعت كقولك رأيت ما معجبا لك وفي التنزيل: {مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}،{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي
نعم شيئا يعظكم به
والسادس: نكرة بغير صفة ولا صلة كالتعجب وموضعها
نصب على التمييز كقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ،أي
فنعم شيئا هي كما تقول نعم رجلا زيد أي نعم الرجل رجلا زيد ثم قام ما مقام
الشيء.
فائدة: قال بعضهم: وقد تجيء ما مضمرة كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ}.
أي ما ثم.
وقوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }. أي ما بيني
{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.
أي ما بينكم
ما الحرفية
وأما الحرفية فستة.
الأول:
النافية ولها صدر الكلام وقد تدخل على الأسماء والأفعال ففي الأسماء كـ
"ليس" ترفع وتنصب في لغة أهل الحجاز ووقع في القرآن في ثلاث مواضع:
قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً}
وقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
على قراءة كسر التاء وقوله:
{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
وعلى الأفعال فلا تعمل وتدخل على الماضي بمعنى لم نحو ما خرج أي لم يخرج.
وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
وعلى المضارع لنفي الحال بمعنى لا نحو ما يخرج زيد أي لا يخرج نفيت أن يكون منه خروج في الحال
ومنهم من يسميه جحدا وأنكره بعضهم وسبق الفرق بين الجحد والنفي في الكلام على قاعدة المنفي.
وقال
ابن الحاجب هي لنفي الحال في اللغتين الحجازية والتميمية نحو ما زيد
منطلقا ومنطلق ولهذا جعلها سيبويه في النفي جوابا لـ "قد" في الإثبات ولا
ريب أن قد للتقريب من الحال فلذلك جعل جوابا لها في النفي.
قال ويجوز أن
تستعمل للنفي في الماضي والمستقبل عند قيام القرائن قال تعالى حكاية عن
الكفار: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
وفي
الماضي،نحو: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}. فإنه ورد للتعليل
على معنى كراهة أن يقولوا عند إقامة الحجة عليهم ما جاءنا في الدنيا من
بشير ولا نذير وهذا للماضي المحقق وأمثال ذلك كثيرة.
قال: ثم إن سيبويه جعل فيها معنى التوكيد لأنها جرت موضع قد في النفي فكما أن قد فيها معنى التأكيد فكذلك ما جعل جوابا لها.
وهنا ضابط وهو إذا ما أتت بعدها إلا في القرآن فهي من نفي إلا في ثلاثة عشر موضعا.
أولها: في البقرة قوله تعالى: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا}
الثاني: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ}
الثالث: في النساء قوله: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ}.
الرابع: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}
الخامس: في المائدة: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}
السادس: في الأنعام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}
السابع: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ}
الثامن والتاسع في هود: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ}.
في موضعين
أحدهما: في ذكر أهل النار والثاني: في ذكر أهل الجنة.
العاشر والحادي عشر: في يوسف: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
وفيها: {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ} الثاني عشر: في الكهف: {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}. على خلاف فيها.
الثالث عشر: {وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّّ بِالْحَقِّ}. حيث كان.
والثاني: المصدرية،وهي قسمان وقتية وغير وقتية.
فالوقتية
هي التي تقدر بمصدر نائب عن الظرف الزمان،كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا
مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}. وقوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِماً}.
و{مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ،أي مدة دوام السموات والأرض ووقت دوام قيامكم وإحرامكم وتسمى ظرفية أيضا
وغير
الوقتية هي التي تقدر مع الفعل نحو بلغني ما صنعت أي صنعك قال تعالى:
{وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} أي بتكذيبهم أو بكذبهم على القرآن
وقوله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}.
وقوله : {كَمَا آمَنَ النَّاسُ}.
و{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً}.
و: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا}.
أي كإيمان الناس وكإرسال الرسل وبئس اشتراؤهم.
وكلما
أتت بعد كاف التشبيه أو بئس فهي مصدرية على خلاف فيه وصاحب الكتاب يجعلها
حرفا والأخفش يجعلها اسما وعلى كلا القولين لا يعود عليها من صلتها شيء.
والثالث: الكافة للعامل عن عمله وهو ما يقع بين ناصب ومنصوب أو جار ومجرور أو رافع ومرفوع.
فالأول:
كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْماً}
والثاني: كقوله: ربما رجل أكرمته وقوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
والثالث: كقولك قلما تقولين وطالما تشتكين.
والرابع:
المسلطة وهي التي تجعل اللفظ متسلطا بالعمل بعد أن لم يكن عاملا نحو ما في
إذما وحيثما لأنهما لا يعملان بمجردهما في الشرط ويعملان عند دخولها
عليهما
والخامس: أن تكون مغيرة للحرف عن حاله كقوله في لو لوما غيرتها إلى معنى هلا قال تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا}
والسادس:
المؤكد للفظ ويسميه بعضهم صلة وبعضهم زائدة والأول أولى لأنه ليس في
القرآن حرف إلا وله معنى ويتصل بها الاسم والفعل وتقع أبدا حشوا أو آخرا
ولا تقع ابتداء وإذا وقعت حشوا فلا تقع إلا بين الشيئين المتلازمين وهو مما
يؤكد زيادتها لإقحامها بين ما هو كالشيء الواحد.
نحو: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً}
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}
وكذا قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
{أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}
{عَمَّا قَلِيلٍ}
{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}
وجعل منه سيبويه في باب الحروف الخمسة قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} قال فجعلها زائدة
وأجاز الفارسي زيادة اللام،والمعنى إن كل نفس ما عليها حافظ
ثم قال سيبويه: وقال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ}.
إنما هو لجميع وما لغو.
قال الصفار: والذي دعاه إلى أن يجعلها لغوا ولم يجعلها موصولا لأن بعدها مفرد فيكون من باب: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}
فإن قيل: فهلا جعلها في {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} موصولة لأن بعدها الظرف؟
قلنا: منع من ذلك وقوع ما على آحاد من يعقل ألا ترى كل نفس وهذا يمنع في الآيتين من الصلة
انتهى
وكان ينبغي أن يتجنب عبارة اللغو
مَن
لا تكون إلا اسما لوقوعها فاعلة ومفعولة ومبتدأة ولها أربعة أقسام متفق عليها الموصولة والاستفهامية والشرطية والنكرة الموصوفة.
فالموصولة
كقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ
لا يَسْتَكْبِرُونَ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ}
والاستفهامية وهي التي أشربت معنى النفي ومنه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}.
و{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}
ولا يتقيد جواز ذلك بأن يتقدمها الواو خلافا لابن مالك في التسهيل بدليل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}
والشرطية كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} و{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}.
والنكرة الموصوفة كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} أي فريق يقول
وقيل: موصولة وضعفه أبو البقاء بأن الذي يتناول أقواما بأعيانهم والمعنى هاهنا على الإيهام.
وتوسط
الزمخشري فقال: إن كانت "أل" للجنس فنكرة أو للعهد فموصولة وكأنه قصد
مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد لكنه ليس بلازم بل يجوز أن تكون للجنس ومن
موصولة وللعهد ومن نكرة.
ثم الموصولة قد توصف بالمفرد وبالجملة وفي التنزيل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.
في أحد الوجهين أي كل شخص مستقر عليها.
قالوا: وأصلها أن تكون لمن يعقل وإن استعملت في غيره فعلى المجاز.
هذه
عبارة القدماء وعدل جماعة إلى قولهم من يعلم لإطلاقها على الباري كما في
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}.
وهو سبحانه يوصف بالعلم لا بالعقل لعدم الإذن فيه.
وضيق سيبويه العبارة فقال هي للأناسي.
فأورد عليه أنها تكون للملك كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}.
فكان حقه أن يأتي بلفظ يعم الجميع بأن يقول لأولى العلم.
وأجيب بأن هذا يقل فيها فاقتصر على الأناسي للغلبة.
وإذا أطلقت على ما لا يعقل فإما لأنه عومل معاملة من يعقل وإما لاختلاطه به
فمن
الأول قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}،والذي لا يخلق
المراد به الأصنام لأن الخطاب مع العرب لكنه لما عوملت بالعبادة عبر عنها
بـ "من" بالنسبة إلى اعتقاد المخاطب ويجوز أن يكون المراد بـ "من" لا يخلق
العموم الشامل لكل ما عبد من دون
الله من العاقلين وغيرهم فيكون مجيء من هنا للتغليب الذي اقتضاه الاختلاط في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية فعبر بها عمن يمشي على بطنه وهم الحيات وعمن يمشي على أربع وهم البهائم لاختلاطهم مع من يعقل في صدر الآية لأن عموم الآية يشمل العقلاء وغيرهم فغلب على الجميع حكم العاقل
فائدة.
قيل: إنما كان "من" لمن يعقل
و"ما" لما لا يعقل لأن مواضع ما في الكلام أكثر من مواضع من وما لا يعقل
أكثر ممن يعقل فأعطوا ما كثرت مواضعه للكثير وأعطوا ما قلت مواضعه للقليل
وهو من يعقل للمشاكلة والمجانسة
تنبيه.
ذكر الإبياري في شرح البرهان
أن اختصاص من بالعاقل وما بغيره مخصوص بالموصولتين أما الشرطية فليست من
هذا القبيل لأن الشرط يستدعي الفعل ولا يدخل على الأسماء
تنبيه
وقد
سبق في قاعدة مراعاة اللفظ والمعنى بيان حكم من في ذلك وقوله تعالى:
{إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} فجعل اسم كان مفردا حملا على لفظ
من وخبرها جمعا حملا على معناها ولو حمل الاسم والخبر على اللفظ معا لقال
إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ولو حملهما على معناها لقال إلا من كانوا
هودا أو نصارى فصارت الآية الشريفة بمنزلة قولك لا يدخل الدار إلا من كان
عاقلين وهذه المسألة منعها ابن السراج وغيره وقالوا لا يجوز أن يحمل الاسم
والخبر معا على اللفظ فيقال إلا من كان عاقلا أو يحملا معا على المعنى
فيقال إلا من كانوا عاقلين وقد جاء القرآن بخلاف قولهم
مِن
حرف يأتي لبضعة عشر معنى.
الأول: ابتداء الغاية إذا كان في مقابلتها إلى التي للانتهاء.
وذلك
إما في اللفظ نحو سرت من البصرة إلى الكوفة وقوله تعالى: {مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} ما في المعنى نحو زيد
أفضل من عمرو لأن معناه زيادة الفضل على عمرو وانتهاؤه في الزيادة إلى
زيد.
ويكون في المكان اتفاقا نحو من المسجد الحرام.
وما نزل منزلته نحو من فلان ومنه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ}،
وقولك ضربت من الصغير إلى الكبير إذا أردت البداءة من الصغير والنهاية بالكبير.
وفي الزمان عند الكوفيين كقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}
وقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} فإن قبل وبعد ظرفا زمان.
وتأوله
مخالفوهم على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم فـ "من" داخلة في التقدير على
التأسيس وهو مصدر وأما قبل وبعد فليستا ظرفين في الأصل وإنما هما صفتان
الثاني: الغاية وهي التي تدخل على فعل هو محل لابتداء الغاية وانتهائه معا نحو:
أخذت من التابوت فالتابوت محل ابتداء الأخذ وانتهائه وكذلك أخذته من زيد فـ "زيد" محل لابتداء الأخذ وانتهائه كذلك.
قاله
الصفار وغاير قيله وبين ما قبله قال: وزعم بعضهم أنها تكون لانتهاء الغاية
نحو قولك رأيت الهلال من داري من خلل السحاب فابتداء الرؤية وقع من الدار
وانتهاؤها من خلل السحاب وكذلك شممت الريحان من داري من الطريق فابتداء
الشم من الدار وانتهاؤه إلى الطريق.
وقال: وهذا لا حجة فيه بل هما
لابتداء الغاية فالأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل والثانية لابتداء
الغاية في حق المفعول ونظيره كتاب أبي عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام وأبو
عبيدة لم يكن وقت كتبه إلى عمر بالشام بل الذي كان في الشام عمر فقوله
بالشام ظرف للفعل بالنسبة إلى المفعول.
قال وزعم ابن الطراوة أنها إذا
كانت لابتداء الغاية في الزمان لزمها إلى الانتهاء فأجاز سرت من يوم الجمعة
إلى يوم الأحد لأنك لو لم تذكر لم يدر إلى أين انتهى السير.
قال الصفار وهذا الذي قاله غير محفوظ من كلامهم وإذا أرادت العرب هذا أتت فيه بمذ ومنذ ويكون الانتهاء إلى زمن الإخبار.
الثالث:
التبعيض ولها علامتان أن يقع موقعها وأن يعم ما قبلها ما بعدها إذا حذفت
كقوله تعالى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ،ولهذا في مصحف ابن
مسعود بعض ما تحبون
وقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}
وقوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} فإنه كان نزل ببعض ذريته.
الرابع: بيان الجنس وقيل: إنها لا تنفك عنه مطلقا حكاه التراس ولها علامتان أن يصح وضع الذي موضعها وأن يصح وقوعها صفة لما قبلها.
وقيل
هي أن تذكر شيئا تحته أجناس والمراد أحدها فإذا أردت واحدا منها بينته
كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}. وغيرها فلما
اقتصر عليه لم يعلم المراد فلما صرح بذكر الأوثان علم أنها المراد من الجنس
وقرنت بـ "من" للبيان فلذلك قيل إنها للجنس وأما اجتناب غيرها فمستفاد من
دليل آخر والتقدير واجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان أي اجتنبوا الرجس الوثني
فهي راجعة إلى معنى الصفة.
وهي بعكس التي للتبعيض فإن تلك يكون ما
قبلها بعضا مما بعدها فإذا قلت أخذت درهما من الدراهم كان الدرهم بعض
الدراهم وهذه ما بعدها بعض مما قبلها ألا ترى أن الأوثان بعض الرجس.
ومنه
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} ،أي الذين هم أنتم لأن الخطاب للمؤمنين فلهذا لم يتصور فيها
التبعيض.
وقد اجتمعت المعاني الثلاثة في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}.
فـ
"من" الأولى لابتداء الغاية أي ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض
أي بعض جبال منها والثالثة لبيان الجنس لأن الجبال تكون بردا وغير برد
ونظيرها:
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
فالأولى للبيان لأن الكافرين نوعان كتابيون
ومشركون والثانية مزيدة لدخولها على نكرة منفية والثالثة لابتداء الغاية.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}.
فالأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الجنس أو زائدة بدليل قوله: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ}.
والثالثة لبيان الجنس أو التبعيض.
وقد
أنكر القوم من متأخري المغاربة بيان الجنس وقالوا هي في الآية الشريفة
لابتداء الغاية لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها فإذا قيل من الأوثان فمعناه
الابتداء من هذا الصنف لأن الرجس ليس هو ذاتها فـ "من" في هذه الآية كهي في
أخذته من التابوت.
وقيل: للتبعيض لأن الرجس منها هو عبادتها واختاره
ابن أبي الربيع ويؤيده قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ
يَعْبُدُوهَا}
وأما قوله: {مِنْكُمْ} فهي للتبعيض ويقدر الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم.
وأما
قوله: {مِنَ الْجِبَالِ} فهو بدل من السماء لأن السماء مشتملة على جبال
البرد فكأنه قال وينزل من برد في السماء وهو من قبيل ما أعيد فيه العامل مع
البدل كقوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} وأما
قوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ}.
ففي موضع الصفة فهي للتبعيض
وكثيرا
ما تقع بعد ما ومهما لإفراط إبهامهما نحو: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}،{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} {مَهْمَا تَأْتِنَا
بِهِ مِنْ آيَةٍ} وهي ومخفوضها في موضع نصب على الحال
وقد تقع بعد غيرهما: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}.
الشاهد في غير الأولى،فإن تلك للابتداء وقيل زائدة.
الخامس: التعليل ويقدر بلام نحو: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}.
وقوله: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}.
أي من أجل الجوع.
ورده الأبذي بأن الذي فهم منه العلة إنما هو لأجل المراد وإنما هي للابتداء أي ابتداء الإطعام من أجل الجوع.
السادس:
البدل من حيث العوض عنه فهو كالسبب في حصول العوض فكأنه منه أتى نحو قوله
تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. لأن
الملائكة لا تكون من الإنس.
وقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ}. أي بدلا من الآخرة ومحلها مع مجرورها النصب على الحال.
وقوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}.
أي بدل طاعة الله أو رحمة الله
وقوله: {قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أي بدل الرحمن
السابع: بمعنى على نحو: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}. أي على القوم وقيل على التضمين أي منعناه منهم بالنصر.
الثامن:
بمعنى عن نحو: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
{يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}.
وقيل: هي للابتداء فيهما. وقوله: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ}. فقد أشار سيبويه إلى أن من هنا تؤدي معنى عن.
وقيل: هي بمنزلة اللام للعلة أي لأجل الجوع وليس بشيء فإن الذي فهم منه العلة إنما هو أجل لا من.
واختار الصفار أنها لابتداء الغاية.
التاسع: بمعنى الباء نحو: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}.
حكاه البغوي عن يونس وقيل إنما قال: {مِنْ طَرْفٍ} لأنه لا يصح عنه وإنما نظره ببعضها.
وجعل منه ابن أبان: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. أي بأمر الله.
وقوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ}.
العاشر: بمعنى في نحو: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} وقيل لبيان الجنس.
الحادي عشر: بمعنى عند نحو: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
قال أبو عبيد وقيل إنها للبدل.
الثاني
عشر: بمعنى الفصل وهي الداخلة بين المتضادين نحو: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}،{حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ}
الثالث عشر: الزائدة ولها شرطان عند البصريين أن تدخل على
نكرة وأن يكون الكلام نفيا نحو ما كان من رجل أو نهيا نحو لا تضرب من رجل
أو استفهاما نحو هل جاءك من رجل؟
وأجرى بعضهم الشرط مجرى النفي نحو إن قام رجل قام عمرو.
وقال الصفار: الصحيح المنع
ولها في النفي معنيان:
أحدهما:
أن تكون للتنصيص على العموم وهي الداخلة على مالا يفيد العموم نحو ما
جاءني من رجل فإنه قبل دخولها يحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة فإذا دخلت من
تعين نفي الجنس وعليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ
وَاحِدٌ}
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}
وثانيهما:
لتوكيد العموم وهي الداخلة على الصيغة المستعملة في العموم نحو ما جاءني
من أحد أو من ديار لأنك لو أسقطت من لبقي العموم على حاله لأن أحدا لا
يستعمل إلا للعموم في النفي.
وما ذكرناه من تغاير المعنيين خلاف ما نص عليه سيبويه من تساويهما.
قال
الصفار: وهو الصحيح عندي وأنها مؤكدة في الموضعين فإنها لم تدخل على جاءني
رجل إلا وهو يراد به ما جاءني أحد لأنه قد ثبت فيها تأكيد الاستغراق مع
أحد ولم يثبت لها الاستغراق فيحمل هذا عليه فلهذا كان مذهب سيبويه أولى.
قال:
وأشار إلى أن المؤكدة ترجع لمعنى التبعيض فإذا قلت ما جاءني من رجل فكأنه
قال ما أتاني بعض هذا الجنس ولا كله وكذا ما أتاني من أحد أي بعض من
الأحدين انتهى.
وقال: الأستاذ أبو جعفر بن الزبير نص سيبويه على أنها نص في العموم قال فإذا قلت ما أتاني رجل فإنه يحتمل ثلاثة معان:
أحدها: أن تريد ما أتاك من رجل في قوته ونفاذه بل أتاك الضعفاء.
والثاني: أن تريد أنه ما أتاك رجل واحد بل أكثر من واحد
والثالث: أن تريد ما أتاك رجل واحد ولا أكثر من ذلك
فإن قلت: ما أتاني من رجل كان نفيا لذلك كله قال هذا معنى كلامه.
والحاصل أن من في سياق النفي تعم وتستغرق.
ويلتحق بالنفي الاستفهام كقوله تعالى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}
وجوز الأخفش زيادتها في الإثبات كقوله: {غْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.
والمراد الجميع بدليل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}
فوجب حمل الأول على الزيادة دفعا للتعارض.
وقد نوزع في ذلك بأنه إنما يقع التعارض لو كانتا في حق قبيل واحد وليس كذلك فإن الآية التي فيها من قوم نوح والأخرى لهذه الأمة.
فإن قيل: فإذا غفر للبعض كان البعض الآخر معاقبا عليه فلا يحصل كمال الترغيب في الإيمان إلا بغفران الجميع.
وأيضا: فكيف يحسن التبعيض فيها مع أن الإسلام يجب ما قبله فيصح قول الأخفش فالجواب من وجوه:
أحدها:
أن المراد بغفران بعض الذنوب في الدنيا لأن إغراق قوم نوح عذاب لهم وذلك
إنما كان في الدنيا مضافا إلى عذاب الآخرة فلو آمنوا لغفر لهم من الذنوب ما
استحقوا به الإغراق في الدنيا وأما غفران الذنب بالإيمان في الآخرة
فمعلوم.
والثاني: أن الكافر إذا آمن فقد بقي عليه ذنوب وهي مظالم العباد فثبت التبعيض بالنسبة للكافر
الثالث: أن قوله: {ذُنُوبَكُمْ} يشمل الماضية والمستقبلة فإن الإضافة تفيد
العموم فقيل من لتفيد أن المغفور الماضي وعدم إطماعهم في غفران المستقبل بمجرد الإسلام حتى يجتنبوا المنهيات.
وقيل: إنها لابتداء الغاية وهو حسن لقوله: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
وسيبويه يقدر في نحو ذلك مفعولا محذوفا أي يغفر لكم بعضا من ذنوبكم محافظة على معنى التبعيض.
وقيل:
بل الحذف للتفخيم والتقدير يغفر لكم من ذنوبكم ما لو كشف لكم عن كنهه
لاستعظمتم ذلك والشيء إذا أرادوا تفخيمه أبهموه كقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}. أي أمر عظيم
وقال الصفار: من للتبعيض على
بابها وذلك أن غفر تتعدى لمفعولين أحدهما باللام فالأخفش يجعل المفعول
المصرح الذنوب وهو المفعول الثاني فتكون من زائدة ونحن نجعل المفعول محذوفا
وقامت من ذنوبكم مقامه أي جملة من ذنوبكم وذلك أن المغفور لهم بالإسلام ما
اكتسبوه في حال الكفر لا حال الإسلام والذي اكتسبوه في حال الكفر بعض
ذنوبهم لا جميعها.
وأما قوله في آية الصدقة: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} فللتبعيض لأن أخذ الصدقة لا يمحو كل السيئات.
ومما احتج به الأخفش أيضا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}.
أي أبصارهم وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
أي كل الثمرات
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}
وهذا
ضعيف أيضا بل هي في الأول للتبعيض لأن النظر قد يكون عن تعمد وغير تعمد
والنهي إنما يقع على نظر العمد فقط ولهذا عطف عليه قوله: {وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ}.
من غير إعادة من لأن حفظ الفروج واجب مطلقا ولأنه يمكن
التحرز منه ولا يمكن في النظر لجواز وقوعه اتفاقا وقد يباح للخطبة وللتعليم
ونحوهما.
وأما الثانية فإن الله وعد أهل الجنة أن يكون لهم فيها كل نوع
من أجناس الثمار مقدار ما يحتاجون إليه وزيادة ولم يجعل جميع الذي خلقه
الله من الثمار عندهم بل عند كل منهم من الثمرات ما يكفيه وزيادة على
كفايته وليس المعنى على أن جميع الجنس عندهم حتى لم تبق معه بقية لأن في
ذلك وصف ما عند الله بالتناهي.
وأما الثالثة فللتبعيض بدليل قوله:
{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} لطيفة: إنها حيث وقعت في خطاب المؤمنين لم تذكر
كقوله في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} . إلى قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
وقوله في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}. إلى قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
وقال في خطاب الكفار في سورة نوح: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}
وفي سورة الأحقاف: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ}
وما ذاك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد ولهذا
إنه في سورة نوح والأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان لا مطلقا
وهو غفران ما بينه وبينهم لا مظالم العباد.
الرابع عشر: الملابسة كقوله
تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} ،أي
يلابس بعضهم بعضا ويواليه وليس المعنى على النسل والولادة لأنه قد يكون من
نسل المنافق مؤمن وعكسه.
ونظيره قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
وكذا قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}.
كما يتبرأ الكفار كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}
فأما
قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي
بعضكم يلابس بعضا ويواليه في ظاهر الحكم من حيث يشملكم الإسلام
مع
للمصاحبة
بين أمرين لا يقع بينهما مصاحبة واشتراك إلا في حكم يجمع بينهما ولذلك لا
تكون الواو التي بمعنى مع إلا بعد فعل لفظا أو تقديرا لتصح المعية.
وكمال معنى المعية الاجتماع في الأمر الذي به الاشتراك دون زمانه.
فالأول:
يكثر في أفعال الجوارح والعلاج نحو دخلت مع زيد وانطلقت مع عمرو وقمنا معا
ومنه قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ}،{أَرْسِلْهُ
مَعَنَا غَداً} {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ}
والثاني: يكثر في الأفعال المعنوية نحو آمنت مع المؤمنين وتبت مع التائبين
وفهمت المسألة مع من فهمها ومنه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}
وقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
أي بالعناية والحفظ
{يَوْمَ
لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يعني الذين
شاركوه في الإيمان وهو الذي وقع فيه الاجتماع والاشتراك من الأحوال
والمذاهب
وقد ذكروا الاحتمالين المذكورين في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}.
قيل:
إنه من باب المعية في الاشتراك فتمامه الاجتماع في الزمان على حذف مضاف
إما أن يكون تقديره أنزل مع نبوته وإما أن يكون التقدير مع اتباعه.
وقيل: لأنه فيما وقع به الاشتراك دون الزمان وتقديره واتبعوا معه النور.
وقد تكون المصاحبة في الاشتراك بين المفعول وبين المضاف كقوله شممت طيبا مع زيد.
ويجوز أن يكون منه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
نقل
ذلك أبو الفتح القشيري في شرح الإلمام عن بعضهم ثم قال وقد ورد في الشعر
استعمال مع في معنى ينبغي أن يتأمل ليلحق بأحد الأقسام وهو قوله:
يقوم مع الرمح الرديني قامة
ويقصر عنه طول كل نجاد
وقال
الراغب: مع تقتضي الاجتماع إما في المكان نحو هما معا في الدار أو في
الزمان نحو ولدا معا أو في المعنى كالمتضايفين نحو الأخ والأب فإن أحدهما
صار أخا للآخر في حال ما صار الآخر أخاه وإما في الشرف والرتبة نحو هما معا
في العلو وتقتضي مع النصرة والمضاف إليه لفظ مع هو المنصور نحو قوله
تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}،{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} انتهى
وقال ابن مالك إن معا إذا أفردت تساوى جميعا معنى.
ورد
عليه الشيخ أبو حيان بأن بينهما فرقا قال ثعلب إذا قلت قام زيد وعمرو
جميعا احتمل أن يكون القيام في وقتين وأن يكون في واحد وإذا قلت قام زيد
وعمرو معا فلا يكون إلا في وقت واحد.
والتحقيق ما سبق.
ويكون بمعنى النصرة والمعونة والحضور كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} أي ناصر كما
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}. أي معينهم.
{وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي عالم بكم ومشاهدكم فكأنه حاضر معهم وهو
ظرف زمان عند الأكثرين إذا قلت كان زيد مع عمرو أي زمن مجيء عمرو ثم حذف
الزمن والمجيء وقامت "مع" مقامهما
النون
للتأكيد وهي إن كانت
خفيفة كانت بمنزلة تأكيد الفعل مرتين أو شديدة فمنزلة تأكيده ثلاثا وأما
قوله تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}، من حيث أكدت
السجن بالشدة دون ما بعده إعظاما.
ولم يقع التأكيد بالخفيفة في القرآن إلا في موضعين: هذا وقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}
وفي
القواعد أنها إذا دخلت على فعل الجماعة الذكور كان ما قبلها مضمونا نحو يا
رجال اضربن زيدا ومنه وقوله تعالى: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ}.
فأما قوله تعالى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ}.
فإنما
جاء قبلها مفتوحا لأنها دخلت على فعل الجماعة المتكلمين وهو بمنزلة الواحد
ولا تلحقه واو الجماعة لأن الجماعة إذا أخبروا عن أنفسهم قالوا نحن نقوم
ليكون فعلهم كفعل الواحد والرجل الرئيس إذا أخبر عن نفسه قال كقولهم فلما
دخلت النون هذا الفعل مرة أخرى بني آخره معها على الفتح لما كان لا يلحقه
واو الجمع وإنما يضمون ما قبل النون في الأفعال التي تكون للجماعة ويلحقها
واو الجمع التي هي ضميرهم وذلك أن واو الجمع يكون ما قبلها مضموما نحو قولك
يضربون فإذا دخلت النون حذفت نون الإعراب لدخولها وحذف الواو لسكونها
وسكون النون وبقي ما قبل الواو مضموما ليدل عليه.
ومثله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
فإن كان ما قبل الواو مفتوحا لم يحذفها ولكنها تحركها لالتقاء الساكنين نحو اخشون زيدا
الهاء
تكون ضميرا للغائب وتستعمل في موضع الجر والنصب نحو: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}.
وتكون لبيان السكت وتلحق وقفا لبيان الحركة وإنما تلحق بحركة بناء لا تشبه حركة الإعراب نحو: {مَا هِيَهْ}.
وكالهاء في {كِتَابِيَهْ}.
و{حِسَابِيَهْ}.
و{سُلْطَانِيَهْ}.
و{مَالِيَهْ}
وكان حقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف أو وصل
بنيه الوقف في {كِتَابِيَهْ} و{حِسَابِيَهْ} . اتفاقا فأثبتت الهاء كذا عند
الجميع القراء إلا حمزة فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وأثبتها وقفا
أعني في ماليه وسلطانيه وماهيه في القارعة لأنها في الوقف يحتاج إليها
لتحصين حركة الموقوف عليه وفي الوصل يستغني عنه
فإن قيل: فلم لا يفعل ذلك في كتابيه وحسابيه؟قيل: إنه جمع بين اللغتين
ها
كلمة تستعمل على ضربين.
أحدهما: أن تكون اسما سمي به الفعل
وثانيهما: للتنبيه ولها موضعان:
أحدهما:
أن تلحق الأسماء المبهمة المفردة نحو هذا وتتنزل منزلة حرف من الكلمة
ولهذا يدخل حرف الجر عليه كقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِهِ}
ويفصل به بين المضاف والمضاف إليه كقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
الثاني: أن تدخل على الجملة كقوله: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ}
ويدل
على دخول حرف التنبيه على الجملة أنه لا يخلوا إما أن يقدر به الدخول على
الاسم المفرد أو الجملة لا يجوز الأول لأن المبهم في الآيتين دخل عليهما
حرف الإشارة فعلم أن دخولها إنما هو الجملة ذكره أبو علي
هل
للاستفهام
قيل ولا يكون المستفهم معها إلا فيما لا ظن له فيه البتة بخلاف الهمزة
فإنه لا بد أن يكون معه إثبات فإذا قلت أعندك زيد؟فقد هجس في نفسك أنه عنده
فأردت أن تستثبته بخلاف هل حكاه ابن الدهان.
وقد سبق فروق في الكلام على معنى الاستفهام.
وقد
تأتي بمعنى قد كقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} {هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ}
وذكر بعضهم أن هل تأتي للتقرير والإثبات كقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}.
أي في ذلك قسم وكذا قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ}. على القوم بأن المراد آدم فإنه توبيخ لمن ادعى ذلك.
وتأتي بمعنى ما كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}
وبمعنى ألا كقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}
وبمعنى الأمر نحو: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
وبمعنى السؤال: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
وبمعنى التمني: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}
وبمعنى أدعوك نحو: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}.
فالجار والمجرور متعلق به
هيهات.
لتبعيد الشيء ومنه: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} قال الزجاج البعد لما توعدون
وقيل: وهذا غلط من الزجاج أوقعه فيه اللام فإن تقديره بعد الأمر لما توعدون أي لأجله
الواو
الواو العاملة.
حرف يكون عاملا وغير عامل
فالعامل قسمان: جار وناصب.
فالجار واو القسم نحو: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
واو رب على قول كوفي والصحيح أن الجر بـ "رُبّ" المحذوفة لا بالواو.
والناصب ثنتان: واو مع فتنصب المفعول معه عند قوم والصحيح أنه منصوب بما قبل الواو من فعل أو شبهه بواسطة الواو.
والواو التي ينتصب المضارع بعدها في موضعين في الأجوبة الثمانية وأن يعطف بها الفعل على المصدر على قول كوفي.
والصحيح أن الواو فيه عاطفة والفعل منصوب بأن مضمرة.
ولها
قسم آخر عند الكوفيين تسمى واو الصرف ومعناها أن الفعل كان يقتضي إعرابا
فصرفته الواو عنه إلى النصب كقوله تعالى: { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} على قراءة النصب.
الواو غير العاملة
وأما غير العاملة فلها معان:
الأول:
وهو أصلها العاطفة تشرك في الإعراب والحكم وهي لمطلق الجمع على الصحيح ولا
تدل على أن الثاني بعد الأول بل قد يكون كذلك وقد يكون قبله وقد يكون معه
فمن الأول: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ
أَثْقَالَهَا} فإن الإخراج متأخر عن الزلزال وذلك معلوم من قضية الوجود لا
من الواو.
ومن الثاني: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ،والركوع قبل السجود ولم ينقل أن شرعهم كان مخالفا لشرعنا في ذلك.
وقوله تعالى: مخبرا عن منكري البعث: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ} أي نحيا ونموت.
وقوله:
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}. والأيام
هنا قبل الليالي إذ لو كانت الليالي قبل الأيام كانت الأيام مساوية لليالي
وأقل.
قال الصفار: ولو كان على ظاهره لقال سبع ليال وستة أيام أو سبعة أيام وأما ثمانية فلا يصح على جعل الواو للترتيب
فائدة: وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ}
أجاز
أبو البقاء كون الواو عاطفة وهو فاسد لأنه يلزم فيه أن يكون الله تعالى
أمر نبيه عليه السلام أن يتركه وكأنه قال اتركني واترك من خلقت وحيدا وكذلك
اتركني واترك المكذبين فتعين أن يكون المراد خل بيني وبينهم وهو واو "مع"
كقولك لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها
والثاني: واو الاستثناء وتسمى
واو القطع والابتداء وهي التي يكون بعدها جملة غير متعلقة بما قبلها في
المعنى ولا مشاركة في الإعراب ويكون بعدها الجملتان.
فالاسمية كقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ}
والفعلية كقوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً وَيَقُولُ الأِنْسَانُ}.
والظاهر
أنها الواو العاطفة لكنها تعطف لجمل التي لا محل لها من الإعراب لمجرد
الربط وإنما سميت واو الاستئناف لئلا يتوهم أن ما بعدها من المفردات معطوف
على ما قبلها.
الثالث: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية وهي عندهم
مغنية عن ضمير صاحبها كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ}
وقوله: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}
وقوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}
وقد
يجتمعان نحو: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
{لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}
{لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}
{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}
{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}
{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}.
الرابع: للإباحة نحو جالس الحسن وابن سيرين لأنك أمرت بمجالستهما معا.
قال وعلى هذا أخذ مالك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية
الخامس:
واو الثمانية والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد فإن السبعة
عندهم هي العقد التام كالعشرة عندنا فيأتون بحرف العطف الدال على المغايرة
بين المعطوف والمعطوف عليه فتقول خمسة ستة سبعة وثمانية فيزيدون الواو إذا
بلغوا الثمانية
حكاه البغوي عن عبد الله بن جابر عن أبي بكر بن
عبدوس ويدل عليه قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ونقل
عن ابن خالويه وغيره ومثلوه بقوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
بعد ما ذكر العدد مرتين بغير واو.
وقوله تعالى في صفة الجنة: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
بالواو لأنها ثمانية وقال تعالى في صفة النار: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
بغير الواو لأنها سبعة وفعل ذلك فرقا بينهما.
وقوله: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.
بعد ما ذكر قبلها من الصفات بغير واو.
وقيل دخلت فيه أعلاما بأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره بالمعروف فهما حقيقتان متلازمتان.
وليس قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} من هذا القبيل خلافا لبعضهم لأن الواو لو أسقطت منه لاستحال المعنى لتناقض الصفتين.
ولم
يثبت المحققون واو الثمانية وأولوا ما سبق على العطف أو واو الحال وإن
دخلت في آية الجنة لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم وحذفت في الأول لأنها
كانت مغلقة قبل مجيئهم.
وقيل: زيدت في صفة الجنة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته وفيها زيادة كلام سبق في مباحث الحذف
وزعم بعضهم أنها لا تأتي في الصفات إلا إذا تكررت النعوت وليس كذلك
بل يجوز دخولها من غير تكرار قال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ }.
وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}
وتقول جاءني زيد والعالم.
السادس: الزيادة للتأكيد كقوله تعالى: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}.
بدليل الآية الأخرى.
قال الزمخشري: دخلت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف الدالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر
وضابطه
أن تدخل على جملة صفة للنكرة نحو جاءني رجل ومعه ثوب آخر وكذا:
{وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقال الشيخ جمال الدين بن مالك في باب
الاستثناء من شرح التسهيل وتابعه الشيخ أثير الدين إن الزمخشري تفرد بهذا
القول وليس كذلك فقد ذكر الأزهري في الأزهرية فقال وتأتي الواو للتأكيد نحو
ما رأيت رجلا إلا وعليه ثوب حسن وفي القرآن منه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}.
وقال: { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ }. انتهى
وأجازه أبو البقاء أيضا في الآية وفي قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
فقال يجوز أن تكون الجملة في موضع نصب صفة لـ "شيء" وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا
وأجاز أيضا في قوله تعالى: {عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ، فقال: الجملة في موضع جر صفة لـ "قرية"
وأما قوله: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فقيل الواو زائدة ويحتمل أن يكون مجزوما جواب الأمر بتقدير أضرب به ولا تحنث.
ويتحمل أن يكون نهيا.
قال ابن فارس: والأول أجود.
وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} قيل الواو زائدة.
وقيل: ولنعلمه فعلنا ذلك.
كذلك: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} أي وحفظا فعلنا ذلك
وقيل: في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}: إنها زائدة للتأكيد والصحيح أنها عاطفة وجواب إذا محذوف أي سعدوا وأدخلوا
وقيل: وليعلم فعلنا ذلك وكذلك: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} أي حفظا فعلنا ذلك
وقيل في قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ}.
أي
ناديناه والصحيح أنها عاطفة والتقدير عرف صبره وناديناه: {وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ}
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}
وقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ}. أي لنعلم.
وقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}
وزعم
الأخفش أن إذا من قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} مبتدأ وخبرها
إذا في قوله: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} والواو زائدة والمعنى أن وقت
انشقاق السماء هو وقت مد الأرض وانشقاقها واستبعده أبو البقاء لوجهين:
أحدهما: أن الخبر محط الفائدة ولا فائدة في إعلامنا بأن الوقت الانشقاق في وقت المد بل الغرض من الآية عظم الأمر يوم القيامة.
والثاني: بأن زيادة الواو تغلب في القياس والاستعمال.
وقد
تحذف كثيرا من الجمل كقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ} أي وقلت والجواب قوله تعالى: {تُوَلُّوا}
وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} وفي قول أكثر: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}
ويكأن
قال الكسائي كلمة تندم وتعجب قال تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
وقيل: إنه صوت لا يقصد به الإخبار عن التندم ويحتمل أنه اسم فعل مسماه ندمت أو تعجبت.
وقال الصفار: قال المفسرون معناه ألم تر فإن أرادوا به تفسير المعنى فمسلم وإن أرادوا تفسير الإعراب فلم يثبت ذلك.
وقيل: بمعنى ويلك فكان ينبغي كسر إن.
وقيل: وي تنبيه وكأن للتشبيه وهو الذي نص عليه سيبويه.
ومنهم من جعل كأن زائدة لا تفيد تشبيها ولم يثبت فلم يبق إلا أنها للتشبيه الأمر يشبه هذا بل هو كذا.
قلت:
عن هذا اعتذر سيبويه فقال المعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر
علمهم أو نبهوا فقيل لهم أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا.
وهذا بديع جدا
كأنهم لم يحققوا هذا الأمر فلم يكن عندهم إلا ظن فقالوا نشبه أن يكون
الأمر كذا ونهوا ثم قيل لهم يشبه أن يكون الأمر هكذا على وجه التقرير انتهى
وقال صاحب البسيط كأنه على مذهب البصريين لا يراد به التشبيه بل القطع واليقين
وعلى مذهب الكوفيين يحتمل أن تكون الكاف حرفا للخطاب لأنه إذا كان اسم فعل لم يضف.
وذهب بعضهم إلى أنه بكماله اسم.
وذهب الكسائي إلى أن أصله ويلك فحذفت اللام وفتحت على مذهبه أن باسم الفعل قبلها.
وأما
الوقف فأبو عمرو ويعقوب يقفان على الكاف على موافقة مذهب الكوفيين
والكسائي يقف على الياء وهو مذهب البصريين وهذا يدل على أنهم لم يأخذوا
قراءتهم من نحوهم وإنما أخذوها نقلا وإن خالف مذهبهم في النحو ولم يكتبوها
منفصلة لأنه لما كثر بها الكلام وصلت
ويل
قال الأصمعي ويل تقبيح قال تعالى: { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
وقد توضع موضع التحسر والتفجع منه كقوله: {يَا وَيْلَتَنَا} {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ}
يا
لنداء البعيد حقيقة أو حكما ومنه قول الداعي يا الله وهو { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
استصغارا لنفسه واستبعادا لها من مظان الزلفى.
وقد ينادى بها القريب إذا كان ساهيا أو غافلا تنزيلا البعيد.
وقد ينادى بها القريب الذي ليس بساه ولا غافل إذا كان الخطاب المرتب على النداء في محل الاعتناء بشأن المنادى.
وقد
تحذف نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} {قَالَ ابْنَ أُمَّ} وقد قيل في قوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}.
في قراءة تخفيف من إن الهمزة فيه للنداء أي يا صاحب هذه الصفات.
قال ابن فارس تأتي للتأسف والتلهف نحو: {أَلاَّ يَسْجُدُوا} وقيل للتنبيه
قال: وللتلذذ نحو:
يا بَرْدَهَا على الفؤاد لو تَقِف*
وهذا مع التوفيق كافٍ فحصِّلا*
في آخر النسخة المنقول منها ما مثاله.
تمت
النسخة المباركة بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ونسأل الله العظيم رب
العرش العظيم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم مقربا بالفوز في جنات النعيم
وذلك في اليوم المبارك السعيد رابع عشر شهر شعبان الفرد من شهور سنة تسع
وسبعين وثمانمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والحمد
الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين
وغفر الله لنا ولكم ولجميع المسلمين والحمد الله رب العالمين
وإن تجد عيبا فسد الخللا
فجل من لا فيه عيب وعلا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق