كتاب : البرهان في علوم القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
هشاشة إليه ومحبة له وإن كان جاحدا وجد فيه مع تلك الروعة نفورا وعيا لانقطاع مادته بحسن سمعه
ومنها: أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين
ومنها: ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة ومخاطبة أخرى لخلقه لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف في قلبه وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه كما يشاهد من الكتب المتقدمة
ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الأسماع مثل الفصحاء من الأعراب وفحول الشعراء منهم ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ مثل أشعار المخضرمين ومن داناهم من المولدين المتأخرين وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز
ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
فصل في قدر المعجز من القرآن
قال القاضي أبو بكر: ذهب عامة أصحابنا وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة أو ما كان بقدرها
قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز قال ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة وقد حكي عنهم نحو قولنا إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة بل شرط الآيات الكبيرة وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ولم يخص ولم يأتوا بشيء منها فعلم أن جميع ذلك معجزوأما قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} فلا يخالف هذا لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة وهو يؤكد مذهب أصحابنا وإن كان قد يتأول قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} مثله على القبيل دون التفصيل وكذلك يحمل
قولة تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} على القبيل لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره
فإن قيل: هل يعرف إعجاز السور القصار بما يعرف به إعجاز الطوال وهل يعرف إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه على ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها؟
قلنا: إن أبا الحسن الأشعري قد أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول إنه يصح أن يكون علم ذلك توقيفا والطريقة الأولى أسد وتظهر فائدتهما في أن الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا موجود في كل سورة قصرت أو طالت فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا والأخرى تتضمن تقدير معرفة إعجاز القرآن بالطريق التي سلكناها
فصل
اعلم أنه سبحانه تحداهم أولا في الإتيان بمثله فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ثم تحداهم بعشر سور منه وقطع عذرهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وإنما قال: {مُفْتَرَيَاتٍ} من أجل أنهم قالوا لا علم لنا بما فيه من الأخبار الخالية والقصص البالغة فقيل لهم: مفتريات إزاحة لعللهم وقطعا لأعذارهم فعجزوا فردهم من العشر إلى سورة واحدة من مثله مبالغة في التعجيز لهم فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي يشهدون لكم أنها في نظمه وبلاغته وجزالته فعجزوا فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم {اتَّقُوا النَّارَ} وهذه مبالغة في الوعيد مع أن اللغة لغتهم والكلام كلامهم وناهيك بذلك أن الوليد بن المغيرة- لعنه الله- كان سيد قريش وأحد فصحائهم لما سمعه أخرس لسانه وبلد جنانه وأطفئ بيانه وقطعت حجته وقصم ظهره وظهر عجزه وذهل عقله حتى قال: فد عرفنا الشعر كله هزجه ورجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر! قالت له قريش: فساحر قال: وما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر
وإنه ليعلو ولا يعلى سمعت قولا يأخذ القلوب قالوا: مجنون قال: لا، والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته ولا رعشته قالوا: كاهن قال: قد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم ثم حملته الحمية فنكص على عقبيه وكابر حسه فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}
مسألة في أن التحدي إنما وقع للإنس دون الجن
التحدي إنما وقع للإنس دون الجن لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه وإنما ذكروا في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ} تعظيما لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز ونظيره في الفقه تقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب في ولاية النكاح مع أن الأمومة ليس لها مدخل في النكاح
فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة
قال القاضي: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه
وسلم يعلم ضرورة وكونه معجزا يعلم بالاستدلال وهذا المذهب يحكى عن المخالفين والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا وكذلك من ليس ببليغ فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله
مسألة في الحكمة في تنزيه النبي عليه السلام عن الشعر
قيل: للحكمة تنزيه الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشعر وجوه:
أحدها: أنه سبحانه أخبر عن الشعراء بأنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون وأن للشعر شرائط لا يسمى الإنسان بغيرها شاعرا كما قال بعضهم وقد سئل عن الشاعر فقال إن هزل أضحك وإن جد كذب فالشاعر بين كذب وإضحاك فنزه الله نبيه عن هاتين الخصلتين وعن كل أمر دنيء وإنا لا نكاد نجد شاعرا إلا مادحا ضارعا أو هاجيا ذا قذع وهذه أوصاف لا تصلح للنبي
والثاني : أن أهل العروض مجمعون كما قال ابن فارس على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم وصناعة العروض تقسمه
بالحروف المتنوعة فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع والإيقاع ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال: "لست من دد ولا دد مني"
وأما ما حكي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألفاظ الوزن فالجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أنه لم يقصد بها الشعر ومن حقيقة الشعر قصده قال ابن فارس: الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى ويكون أكثر من بيت لأنه يجوز اتفاق شطر واحد بوزن يشبه وزن الشعر من غير قصد والثاني : أنه صلى الله عليه سلم كان إذا أنشد شيئا من ذلك غيره
فصل في تنزيه الله القرآن عن أن يكون شعرا
مع أن الموزون في الكلام رتبته فوق رتبة المنظوم غير الموزون فإن كل موزون منظوم ولا عكس وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فأعلم سبحانه أنه نزه القرآن عن نظم الشعر والوزن لأن القرآن مجمع الحق ومنبع الصدق وقصارى أمر الشاعر التحصل بتصوير الباطل في صورة الحق والإفراط في الإطراء والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق وإثبات الصدق منه كان بالعرض ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} أي كاذب ولم يعن أنه
ليس بشعر فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى المنطقيون القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية
فإن قيل: فقد وجد في القرآن ما وافق شعرا موزونا إما بيت تام أو أبيات أو مصراع كقول القائل:
وقلت لما حاولوا سلوتي
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
وقوله: {وَجُفُونٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } قالوا هذا من الرمل وكقوله: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } قالوا هو مجزوء من الخفيف وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } قالوا هو من المتقارب أي بإسقاط "مخرجا" وقوله: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } ويشبعون حركة الميم فيبقى من الرجز وحكي أن أبا نواس ضمنه فقال:
وفتية في مجلس وجوههم
ريحانهم قد عدموا التثقيلا
دانية عليهمو ظلالها
{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}
وقوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قالوا: هو من الوافر وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قالوا: هو من الخفيف وقوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} ونحوه قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً. فَالْحَامِلاتِ وِقْراً. فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} وهو عندهم شعر من بحر البسيط وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله تعالى:} {فلا فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} وقوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
وقوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }وقوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}
ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: كسرت إنما قال: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } فقيل له: هذا القرآن وليس بشعر
فالجواب قال القاضي أبو بكر: إن الفصحاء منهم لما أورد عليهم القرآن لو اعتقدوه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليبهم لبادروا إلى معارضته لأن الشعر منقاد إليهم فلما لم يعمدا إلى ذلك دل على أنهم لم يعتقدوا فيه ذلك فمن استدرك فيه شعرا زعم أنه خفي على أولئك النفر وهم ملوك الكلام مع شدة حاجتهم إلى الطعن في القرآن والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه فلن يجوز أن يخفي على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن فهو بالجهل حقيق
وحينئذ فالذي أجاب به العلماء عن هذا بأن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا وأقل الشعر بيتان فصاعدا وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام
وقالوا: أيضا إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر أصلا ثم منهم من قال إن الرجز ليس بشعر أصلا لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا وكذا ما يقاربه في قلة الأجزاء وعلى هذا يسقط السؤال
ثم يقول: إن الشعر إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعرا وإلا لكان الناس كلهم شعراء لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه
وقيل: أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات وليس ذلك في القرآن بحال قال القاضي وهذه الطريق التي سلكوها في الجواب معتمدة أو أكثرها ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم
فصل في اختلاف المقامات ووضع كل شيء في موضع بلائمه
مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما بلائمه ووضع الألفاظ في كل موضع ما يليق به وإن كانت مترادفة حتى لو أبدل واحد منها بالآخر ذهبت تلك الطلاوة وفاتت تلك الحلاوة
فمن ذلك أن لفظ الأرض لم ترد في التنزيل إلا مفردة وإذا ذكرت والسماء مجموعة لم يؤت بها معها إلا مفردة ولما أريد الإتيان بها مجموعة قال: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} تفاديا من جمعها
ولفظ البقعة لم تستعمل فيه إلا مفردة كقوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}فإن جمعت حسن ذلك ورودها مضافة كقولهم بقاع الأرض
وكذلك لفظ اللب مرادا به العقل كقوله تعالى: {وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} {لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} فإنه يعذب دون الإفراد
وكذلك قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وفي موضع آخر: {فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} استعمل الجوف في الأول والبطن في الثاني مع اتفاقهما
في المعنى ولو استعمل في أحدهما في موضع الآخر لم يكن له من الحسن والقبول عند الذوق ما لاستعمال كل واحد منهما في موضعه
وأما بالنسبة إلى المقامات فانظر إلى مقام الترغيب وإلى مقام الترهيب فمقام الترغيب كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} نجده تأليفا لقلوب العباد وترغيبا لهم في الإسلام
قيل: وكان سبب نزولها أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا قال: وكنا نقول: قوم لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به فنزلت وكان عمر كاتبا فكتب بها عمر بن الخطاب إليهم رضي الله عنه حين فهم قصد الترغيب فآمنوا وأسلموا وهاجروا ولا يلزم دلالتها على مغفرة الكفر لكونه من الذنوب فلا يمكن حملها على فضل الترغيب في الإسلام وتأليف القلوب له لوجوه:
منها أن قوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} عام دخله التخصيص بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فيبقى معتبرا فيما عداه
ومنها أن لفظ العباد مضافا إليه في القرآن مخصوص بالمؤمنين قال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}
فإن قلت: فلم يكونوا مؤمنين حال الترغيب! قلت كانوا مؤمنين قبله بدليل سبب نزولها وعوملوا هذه المعاملة من الإضافة مبالغة في الترغيب
وأما مقام الترهيب فهو مضاد له كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} ويدل على قصد مجرد الترهيب بطلان النصوصية من ظاهرها على عدم المغفرة لأهل المعاصي لأن من للعموم لأنها في سياق الشرط فيعم في جميع المعاصي فقد حكم عليهم بالخلود وهو ينافي المغفرة وكذلك كل مقام يضاد الآخر ويعتبر التفاضل بين العبارتين من وجوه:
أحدها: المعاني الإفرادية بأن يكون بعضها أقوى دلالة وأفخم مسمى وأسلس لفظا ونحوه
الثاني: المعاني الإعرابية بأن يكون مسماها أبلغ معنى كالتمييز مع البدل في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} مع اشتعل الرأس شيبة وهذا أبلغ من اشتعل شيب الرأس
الثالث: مواقع التركيب كقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فإن الأولى جعل اثنين مفعول يتخذوا وإلهين صفة له تقدمت فانتصبت على الحال والتقدير اتخذوا إلهين اثنين لأن اثنين أعم من إلهين
فصل في اشتمال القرآن على أعلى أنواع الإعجاز
وهو أن يقع التركيب بحيث لا يمتنع أن يوجد ما هو أشد تناسا ولا اعتدالا في إفادة ذلك المعنى
وقد اختلف في أنه: هل تتفاوت فيه مراتب الفصاحة واختار القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب الإعجاز المنع وأن كل كلمة موصوفة بالذروة العليا وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض وهذا كما أن بعضهم يفطن للوزن بخلاف بعض واختار أبو نصر بن القشيري في تفسيره التفاوت فقال وقد رد على الزجاج وغيره تضعيفهم قراءة {وَالأَرْحَامِ} بالجر ومثل هذا من الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات السبع متواترة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا ثبت شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن رد ذلك فكأنما رد على النبوة وهذا
مقام محذور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو فإن العربية تتلقى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يشك أحد في فصاحته ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه فإنا لا ندعي أن كل ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة
وإلى هذا نحا الشيخ عز الدين في كتاب المجاز وأورد سؤالا فقال: فإن قلت: فلم لم يأت القرآن جميعه بالأفصح والأملح؟ وقال: فيه إشكال يسر الله حله
قال القاضي صدر الدين موهوب الجزري رحمه الله وقد وقع لي حل هذا الإشكال بتوفيق الله تعالى فأقول البارئ جلت قدرته له أساليب مختلفة على مجاري تصريف أقداره فإنه كان قادرا على إلجاء المشركين إلى الإقرار بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ولكنه سبحانه أرسل رسوله على أساليب الأسباب والمسببات وجاري العوائد الواقعة من أهل الزمان ولذلك تكون حروب الأنبياء سجالا بينهم وبين الكفار ويبتدئ أمر الأنبياء بأسباب خفيفة ولا تزال تنمى وتشتد كل ذلك يدل على أن أساليبهم في الإرسال على ما هو المألوف والمعتاد من أحوال غيرهم
إذا عرف ذلك كان مجيء القرآن بغير الأفصح والأملح جميعه لأنه تحداهم بمعارضته على المعتاد فلو وقع على غير المعتاد لكان ذلك نمطا غير النمط الذي أراده الله عز وجل في الإعجاز
ولما كان الأمر على ما وصفنا جاء القرآن على نهج إنشاءهم الخطب والأشعار وغيرها ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزوا عنها فيظهر الفلج بالحجة لأنهم لو لم يتمكنوا لكان لهم أن يقولوا قد أتيت بما لا قدرة لنا عليه فكما لا يصح من أعمى معارضة المبصر
في النظر لا يحسن من البصير أن يقول غلبتك أيها الأعمى بنظري فإن للأعمى أن يقول: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرا وكان نظرك أقوى من نظري فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح المعارضة!
فإن قلت: فلو كانت المعجزة شيئا لا يقدر عليه البشر كإحياء الموتى وأمثاله فكيف كان ذلك أدعى إلى الانقياد؟
قلت هذا السؤال سبق الجواب عنه في الكلام وإن أساليب الأنبياء تقع على نهج أساليب غيرهم
فإن قلت: فما ذكرته يدل على أن عجز العرب عن معارضته وإنما كانت لصرف دعاويهم مع أن المعارضة كانت مقدورة لهم
قلت: قد ذهب بعض العلماء إلى ذلك ولكن لا أراه حقا ويندفع السؤال المذكور وإن كان الإعجاز في القرآن بأسلوبه الخاص به إلا أن الذين قالوا بأن المعجز فيه هو الصرفة مذهبهم أن جميع أساليبه جميعا ليس على نهج أساليبهم ولكن شاركت أساليبهم في أشياء:
منها: أنه بلغتهم
ومنها: أن آحاد الكلمات قد كانوا يستعملونه في خطهم وأشعارهم ولكن تمتاز بأمور أخر منها غرابة نظمه الخاص الذي ليس مشابها لأجزاء الشعر وأوزانه وهزجه ورجزه وغير ذلك من ضروبه فأما توالي نظمه من أوله إلى آخره بأن يأتي بالأفصح والأملح فهذا مما وقعت فيه المشاركة لكلامهم فبذلك امتاز هذا المذهب عن مذهب من يقول إنه كان جميعه مقدورا لهم وإنما صرفت دواعيهم عن المعارضة انتهى وقد سبق اختيار القاضي أنه ليس على أساليبهم البتة فيبقى السؤال بحاله
تنبيه في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق
ذكر ابن أبي الحديد: اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والرشق والجلي والأجلى والعلي والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة ودقيقة الشفتين نقية الشعر كحلاء العين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها وأليق وأملح ولا يدرى لأي سبب كان ذلك لكنه بالذوق والمشاهدة يعرف ولا يمكن تعليله وهكذا الكلام نعم يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض
النوع التاسع والثلاثون: معرفة وجوب تواترهلا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من علماء أهل السنة كذلك أي يجب أن يكون متواترا فإن العلم اليقيني حاصل أن العادة قاضية بأن مثل هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه الهادي للخلق إلى الحق المعجز الباقي على صفحات الدهر الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم فمستحيل ألا يكون متواترا في ذلك كله إذ الدواعي تتوافر على نقله على وجه التواتر وكيف لا وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والحفظ إنما يتحقق بالتواتر وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والبلاغ العام إنما هو بالتواتر فما لم يتواتر مما نقل آحادا نقطع بأنه ليس من القرآن
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه بل يكثر فيها نقل الآحاد وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة ورد بأن الدليل السابق يقتضى التواتر في الجميع ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط
كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن
أما الأول : فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات الواقعة في القرآن مثل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} و{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه
وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية وإن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وملم قرأها بخلاف موجب رأي القياسيين واجتهاد المجتهدين وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطأوا من قال بذلك وصار إليه
قال القاضي: وقد رد الله عنه طعن الطاعنين واختلاف الضالين وليس المعتبر في العلم بصحة النقل والقطع على فنونه بألا يخالف فيه مخالف وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم بهم ثبت التواتر وتقوم الحجة سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه ولهذا لا يبطل النقل إذا ظهر واستفاض واتفق عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن من قبل وبذلك يسقط اعتراض الملحدين في القرآن وذلك دليل على صحة نقل القرآن
وحفظه وصيانته من التغيير ونقض مطاعن الرافضة فيه من دعوى الزيادة والنقص كيف وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وأجمعت الأمة أن المراد بذلك حفظه على المكلفين للعمل به وحراسته من وجوه الغلط والتخليط وذلك وجب القطع على صحة نقل مصحف الجماعة وسلامته
فصل
والمعوذتان من القرآن واستفاضتهما كاستفاضة جميع القرآن وأما ما روي عن ابن مسعود قال القاضي أبو بكر فلم يصح عنه أنهما ليسا بقرآن ولا حفظ عنه أنه حكهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلات
قال القاضي: ولا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد وأن ذلك لا يحل ولا يسمع بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا فضلا عن أضافته إلى رجل من الصحابة وإن كلام القنوت المروي عن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم حجة بأنه
قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل العلم بصحته وأنه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بكلام ليس بقرآن ولم يصح ذلك عنه وإنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه وقد ثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء وتأويل
وقال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئا كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل وليس بصحيح
وقال ابن حزم في أول كتابه المحلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه وفيها المعوذتان والفاتحة
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب التقريب: لم ينكر عبد الله بن مسعود كون المعوذتين والفاتحة من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد لأنه كانت السنة عنده ألا يثبت إلا ما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإثباته وكتبه ولم نجده كتب ذلك ولا سمع أمره به وهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا
وفي صحيح ابن حبان عن زر قلنا لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله صلى عليه وسلم: قال لي جبريل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها وقال لي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقلتها فنحن نقول ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النوع الأربعون: في بيان معاضدة السنة للقرآناعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ويبين إجماله
ثم منه ما هو ظاهر ومعه ما يغمض وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن برجان في كتابه المسمى بالإرشاد وقال: ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شيء فهو في القرآن وفيه أصله قرب أو بعد فهمه من فهمه وعمه عنه من عمه قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ألا تسمع إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الرجم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" وليس في نص كتاب الله الرجم وقد أقسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحكم بينهما بكتاب الله ولكن الرجم فيه تعريض مجمل في قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
وأما تعيين الرجم من عموم ذكر العذاب وتفسير هذا المجمل فهو مبين بحكم الرسول وبأمره به وموجود في عموم قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}
وهكذا حكم جميع قضائه وحكمه على طرقه التي أتت عليه وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ويبلغ منه الراغب فيه حيث بلغه ربه تبارك وتعالى لأنه واهب النعم ومقدر القسم
وهذا البيان من العلم جليل وحظه من اليقين جزيل وقد نبهنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا المطلب في مواضع كثيرة من خطابه
منها حين ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه في الجنة فقال: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم عليه" ثم قال: "اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
ومنها قالوا يا رسول الله: ألا نتكل وندع العمل؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
ووصف الجنة فقال: "فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها" ثم قال: "اقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
فأعلمهم مواضع حديثه من القرآن ونبههم على مصداق خطابه من الكتاب ليستخرج علماء أمته معاني حديثه طلبا لليقين ولتستبين لهم السبيل حرصا منه عليه السلام على أن يزيل عنهم الارتياب وأن يرتقوا في الأسباب ثم بدأ رضي الله عنه بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وقال: موضعه نصا في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}
ونظيرها في هود والشورى
وموضع التصريح به قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} و{مَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ}
وأما التعريض فكثير مثل قوله: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} {من مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} قد علم الله عز وجل أنهم كانوا يريدون الاعتزاز لأن الإنسان مجبول على طلب العزة فمخطئ أو مصيب فمعنى الآية والله أعلم بلغ هؤلاء المتخذين الكافرين أولياء من دون الله من ابتغاء العزة بهم أنهم قد أخطأوا مواضعها وطلبوها في غير مطلبها فإن كانوا يصدقون أنفسهم في طلبها فليوالوا الله جل جلاله وليوالوا من والاه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فكان ظاهر آية النساء تعريضا لظاهر آية المنافقين وظاهر أية المنافقين تعريضا بنص الحديث المروي
ومن ذلك حديث جبريل في الإيمان والإسلام بين فيه أن الشهادة بالحق والأعمال الظاهرة هي الإسلام وأن عقد القلب على التصديق بالحق هو الإيمان وهو
نص الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة في مسنده: الإسلام ظاهر والإيمان في القلب موضعه من القرآن: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} ونظائرها {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قال: بنيت هاتين الصفتين على الصفات العليا صفات الله- تعالى ظهورها- من الأسماء الحسنى: اسم السلام واسم المؤمن
ومن ذلك حديث ضمام بن ثعلبة: "أفلح إن صدق" في قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار" في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} وهو مفهوم من قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فأخبر أنهم دخلوا النار من أجل استكبارهم وإبائهم من قول لا إله إلا الله مفهوم هذا أنهم إذا قالوها مخلصين بها حرموا على النار
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" في قوله تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} وقوله: {والْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذه الأربع كلمات جمعن حسن الصحبة للخلق لأن من كف سره وأذاه وقال خيرا أو صمت عن الشر وأفضل على جاره وأكرم ضيفه فقد نجا من النار ودخل الجنة إذا كان مؤمنا وسبقت له الحسنى فإن
العاقبة مستورة والأمور بخواتيمها ولهذا قيل لا يغرنكم صفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات
وقوله: "رأس الكفر نحو المشرق" في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى} الآية فأخبر أن الناظر في ملكوت الله لا بد له من ضروب الامتحان وأن الهداية يمنحها الله للناظر بعد التبري منها والمعصوم من عصمه الله قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وطلوع الكواكب نحو المشرق ومن هناك إقبالها وذلك أشرف لها وأكبر لشأنها عند المفتونين وغروبها إدبارها وطلوعها بين قرني الشيطان من أجل ذلك ليزينها لهم قال تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} ولما كان في مطلع النيرات من العبر بطلوعها من هناك وظهورها عظمت المحنة بهن ولما في الغروب من عدم تلك العلة التي تتبين هناك قرن بتزيين العدو لها وإليه أشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "وتغرب بين قرني الشيطان" ولأجل ما بين معنى الإقبال والإدبار كان باب التوبة مفتوحا من جهته إلى يوم تطلع الشمس منه ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} أي وقعت عقولهم عليها وحجبت بها عن حالتها مع قوله: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}
وفي قوله عند طلوعها: {هَذَا رَبِّي} وعند غروبها: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ما يبين تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "رأس الفتنة والكفر نحو المشرق وإن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب"
ومن ذلك بدء الوحي في قوله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} إلى قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
وقول خديجة: "والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم" وقوله تعالى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} وقوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} وفي هذا بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الغار الثلاثة إذ قال بعضهم لبعض: ليدع كل واحد منكم بأفضل أعماله لعل الله تعالى أن يفرج عنا
وقول ورقة: " يا ليتني حي إذ يخرجك قومك" إلخ وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}
وكذلك قوله: "لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي" من قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}
ومن ذلك حديث المعراج مصداقه في سورة الإسراء وفي صدر سورة النجم
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به" من مفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}
وبتصديق كلمة الله اتبعه كونا وملة وهكذا حاله حيث جاءت صدقا وعدلا فتطلب صدق كلماته بترداد تلاوتك لكتابه ونظرك في مصنوعاته فهذا هو قصد سبيل المتقين وأرفع مراتب الإيمان قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} وقال لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً} ولما كان عيسى عليه السلام من أسماء كلماته لم يأت يوم القيامة بذنب لطهارته وزكاته
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله لا ينام" في قوله: {سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وقوله: "ولا ينبغي له أن ينام" من قوله: {الْقَيُّومُ} وفسره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل" ومصداقه أيضا قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ}
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصلوات الخمس كفارات لما بينهن" وقال: "الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام" و"رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما" في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فهذا رمضان بعشرة أشهر العام ويبقى شهران داخلان في كرم الله تعالى وحسن معاملته
قلت: قد جاء في حديث آخر: "وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر" مع قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} انتهى
وقال في الجمعة: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وكذلك قال في الصوم: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أشار إلى سر في الجمعة وفضل عظيم أراهما الزيارة والرؤية في الجنة فإنها تكون في يوم الجمعة وكذلك أشار في الصيام بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى سر في الصيام وهو حسن عاقبته وجزيل عائدته فنبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك"
وقوله وقد رأى أعقابهم تلوح لم يصبها الماء: "ويل للأعقاب من النار" في مفهوم {فَاغْسِلُوا} في معنى قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وغسل هو قدميه وعمهما غسلا
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}
وقوله: "إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه وخرج من كل خطيئة نظر إليها بعينيه" الحديث من قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي من ذنوبكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ترقون في درجة الشكر فيتقبل أعمالكم القبول الأعلى
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة فله الشكر والشكر درجات" وإنما يتبين بأن يبقى من العمل بعد الكفارة فضل وهو النافلة وهو المسمى بالباقيات الصالحات لمن قلت ذنوبه وكثرت صالحاته فذلك الشكر ومن كثرت ذنوبه وقلت صالحاته فأكلتها الكفارات فذلك المرجو له دخول الجنة ومن زادت ذنوبه فلم تقم صالحاته بكفارة ذنوبه فذلك المخوف عليه {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة" في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}
وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وجاءت لام كي ها هنا إشعارا ووعدا وبشارة لهم بنعم أخرى واردة عليهم من الشرائع لم تأت بعد ولذلك قال يوم الإكمال في حجة الوداع {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}
ومن ذلك حديث الأذان وكيفيته بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" من قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وتكرارها في قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
وقوله: "أشهد أن محمدا رسول الله" في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} مع قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وتكرار الشهادة للرسول في معنى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} والتنبيه أول الكثرة ولأنها عبارة شرعت للإعلام فتكرارها آكد فيما شرعت له
وأما إسراره بهما يعنى بالشهادتين فمن مفهوم قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وأما إجهاره بهما ففي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} والنداء الإعلام ولا يكون إلا بنهاية الجهر
وقوله: "حي على الصلاة" في قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ}
وقوله: "حي على الفلاح" في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله: "الصلاة خير من النوم" في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}
وقوله: "الله أكبر الله أكبر" من قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} كررها وختم بها في قوله: {اذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} "وأفضل الذكر لا إله إلا الله" فختم بما بدأ به لقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا علي فإنه من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا" في قوله: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم سلوا الله لي الوسيلة" في قوله: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}
وقوله: "حلت له شفاعتي يوم القيامة" في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك وكل به كلما دعا لأخيه بشيء قال الملك: آمين " "ولك بمثله" في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى أخر السورة هذا دعاء من يأتي به لنفسه ولجماعة المسلمين بظهر الغيب تقول الملائكة في السماء آمين وقد قال تعالى: "ولعبدي ما سأل"
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة" وقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يريد مكة ثم قال: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا
الْبَلَدِ} يمكن أن يريد به المدينة ويكون في الآية تعريض بحرمة البلدين حيث أقسم بهما وتكراره البلد مرتين دليل على ذلك وجعل الاسمين لمعنيين أولى من أن يكونا لمعنى واحد وأن يستعمل الخطاب في البلدين أولى من استعماله في أحدهما بدليل وجود الحرمة فيهما
ومن ذلك حديث الدجال
قلت: وقع سؤال بين جماعة مت الفضلاء في أنه: ما الحكمة أنه لم يذكر الدجال في القرآن وتلمحوا في ذلك حكما ثم رأيت هذا الإمام قال: إن في القرآن تعريضا بقصته في قصة السامري وقوله سبحانه: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} وقوله في سورة الإسراء في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} فذكر الوعد الأول ثم ذكر الكرة التي لبني إسرائيل عليه ثم ذكر الآخرة فقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} وفيه إشارة إلى خروج عيسى
وكذلك هو في الآيات الأول من سورة الكهف في قوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} والدجال مما على الأرض ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ الآيات من أول سورة الكهف عصمه الله من فتنة الدجال" يريد والله أعلم: من
قرأها بعلم ومعرفة وهو أيضا في المفهوم من قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
ومن الأمر بمجاهدة المشركين والمنافقين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تخرج الأرض أفلاذ كبدها ويحسر الفرات عن جبل من ذهب" في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} فإن الأرض تلقي ما فيها من الذهب والفضة حتى يكون آخر ما تلقي الأموات أحياء
ومصداقه أيضا في عموم قوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فتوجه القرآن إلى الإخبار عن إخراجها الأموات أحياء وتوجه الحديث إلى الإخبار عن إخراجها كنوزها ومعادنها
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حتى تعود أرض العرب مروجا" في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} الآية وذلك يكون عند إتمام كلمة الحق: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وقد تولوا وقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يومئذ تظهر العقبة ويلقي الأمر بجرانه وتضع الحرب أوزارها ويكن ذلك علما على الساعة وآية على قرب الانقراض
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل الدنيا: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من
زهرة الدنيا وزينتها" في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ}
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" في مفهوم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى أن الصوم ينتهي نفعه إلى اكتساب التقوى ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصيام جنة" ولا يكون ذلك إلا بضعف حزب الشيطان فتغلق عنه أبواب المعاصي وهي أبواب جهنم وتفتح له أبواب الطاعة والقربات وهي أبواب الجنات
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تسحروا فإن في السحور بركة" من آثار قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} ومن بركته حضوره الذي هو وصف نزوله جل وعلا إلى سماء الدنيا كل ليلة فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتغي البركة في موضع خطاب ربه وفي موضع حضوره أو ذكره أو اسم من أسمائه ومن هنا وقع التعبد باسم المبارك واسم القدوس
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم" في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} والبركة في اتباع مجارى خطابه وإن كان الخطاب حكمه حكم إباحة كما أن البركة في اتباع السنة والاقتداء ولهذا كان أكثر الصحابة لا يصلون المغرب إلا على فطر وكانوا يؤخرون السحور إلى
بزوغ الفجر ابتغاء البركة في ذلك والخير الموعود به
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين" في معنى قوله حكاية عن خليله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} والمعنى بما يفتح الله لخاصته من خلقه الذين لا يطعمون إنما غذاؤهم التسبيح والتهليل والتحميد
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الصعب بن جثامة: "إنا لم نرده عليك إلا أنّا حُرُم" في مفهوم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والآكل راض والراضي شريك
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث حنظلة: "لو أنكم تدومون على ما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة وساعة" في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فذكر تعالى اللجأ إليه عندما يلحق الإنسان الضر وهو ذكر صوري فلو كان الذكر بينهم على الدوام لم تفارقهم الملائكة السياحون الملازمون حلق الذكر كما قال تعالى عنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ولو قربوا من الملائكة هذا القرب لبدت لهم عيانا ولأكرمهم الله منه بحسن الصحبة وجميل الألفة
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" في قوله تعالى:
{سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان منهم ثم يبعثون على أعمالهم" في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" في قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} ومع قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} مع ما جاء من نبإ ابني آدم
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب من سأله أي الصدقة أعظم؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم" والحديث في قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً}
وقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} وقد جاء أن اليد السفلى الآخذة والعليا هو المعطية وشاهده قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية عن الله تعالى: "من يقرض غير عديم ولا
ظلوم" ووجه ذلك أن العطية من أيدينا مفتقرة إلى من يضع فيها حقا وجب عليها ويطهرها بذلك من ذنوبها وأنجاسها ولولا اليد الآخذة ما قدر صاحب المال على صدقة
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يرد الله به خيرا يفقهه" في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} وقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ووصف من لم يفهم عن المخلوقات بقوله: {لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ثم أعلم سبحانه سعة مغفرته لمن في الأرض الذين لا يسبحونه ولا يفقهون تسبيح المسبحين من خلقه ثم أعلم بالعلة التي لأجلها حرموا الفقه عن ربهم وأن ذلك هو ختم عقوبة الإعراض بقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} الآية
وبالجملة فالقرآن كله لم ينزله تعالى إلا ليفهمه ويعلم ويفهم ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون والذين يعلمون والذين يفقهون والذين يتفكرون ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب
وكذلك ما خلق الله الدنيا إلا مثالا للآخرة فمن فقه عن ربه عز وجل مراده منها فقد أراح نفسه وأجم فكره من هذه الجملة
وفي هذا النوع من الفقه أفنى أولو الألباب أعمارهم وفي تعريفه أتعبوا قلوبهم وواصلوا أفكارهم
رزقنا الله من فضله العظيم نورا نمشي به في الظلمات وفرقانا نفرق به بين المتشابهات
النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويلهمعاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء
وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه قال ابن فارس معاني العبارات التي يعتبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة المعنى والتفسير والتأويل وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة
فأما المعنى فهو القصد والمراد يقال: عنيت بهذا الكلام كذا أي قصدت وعمدت وهو مشتق من الإظهار يقال عنت القربة إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته ومنه عنوان الكتاب
وقيل: مشتق من قولهم عنت الأرض بنبات حسن إذا انبتت نباتا حسنا
قلت: وحيث قال المفسرون: قال أصحاب المعاني فمرادهم مصنفو الكتب في
معاني القرآن كالزجاج ومن قبله وغيرهم وفي بعض كلام الواحدي أكبر أهل المعاني الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني القرآن للزجاج لم يصنف مثله وحيث أطلق المتأخرون أهل المعاني فمرادهم بهم مصنفو العلم المشهور
وأما التفسير في اللغة: فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه وكأنه تسمية بالمصدر لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعلة نحو جرب تجربة وكرم تكرمة
وقال ابن الأنباري: قول العرب فسرت الدابة وفسرتها إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها وهو يؤول إلى الكشف أيضا
فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم به ويقال: فسرت الشيء أفسره تفسيرا وفسرته أفسره فسرا والمزيد من الفعلين أكثر في الاستعمال وبمصدر الثاني منها سمى أبو الفتح ابن جني كتبه الشارحة الفسر
وقال آخرون: هو مقلوب من سفر ومعناه أيضا الكشف يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها وهي سافرة وأسفر الصبح أضاء وسافر فلان وإنما بنوه على التفعيل لأنه للتكثير كقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ }فكأنه يتبع سورة بعد سورة وآية بعد أخرى
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا
وقال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة وسمي بها قارورة الماء وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح
وفي الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها
وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها وهذا الذي منع فيه القول بالرأي
وأما التأويل فأصله في اللغة من الأول ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي تكشف عاقبته ويقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه وقال تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
وأصله من المآل وهو العاقبة والمصير وقد أولته فآل أي صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني
وإنما بنوه على التفعيل لما تقدم ذكره في التفسير
وقيل: أصله من الإيالة وهى السياسة فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام ويضع المعنى فيه موضعه
الفرق بين التفسير والتأويل
ثم قيل: التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال والصحيح تغايرهما واختلفوا فقيل: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ورد أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظاهر
قال الراغب: التفسير أعم من التأول وأكثر استعماله في الألفاظ وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية والتفسير يستعمل في غيرها والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ
واعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره وبحسب المعنى الظاهر وغيره والتفسير أكثره في الجمل
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة أو في وجيز مبين بشرح كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإما في كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا نحو الكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود
البارئ خاصة والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة وفي تصديق الحق تارة وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة
وقيل: التأويل كشف ما انغلق من المعنى ولهذا قال البجلي: التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم القائم بذات الرب تعالى
قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين أو أكثر فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز كلفظه المس فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره وإن تنافيا فقد قال قوم يحمل على المعنيين والوجه عندنا التوقف
وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط
قالوا: وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير وقد رخص فيه أهل العلم وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قيل: هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله وقيل: الذي يمسك عن النفقة وقيل: الذي ينفق الخبيث من ماله وقيل: الذي يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس ولكل منه مخرج ومعنى
ومثل قوله تعالى للمندوبين إلى الغزو عند قيام النفير: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قيل: شيوخا وشبابا وقيل: أغنياء وفقراء وقيل: عزابا ومتأهلين وقيل: نشاطا وغير نشاط وقيل: مرضى وأصحاء وكلها سائغ جائز والآية محمولة عليها لأن الشباب والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف وضدهم ثقال
ومثل قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قيل: الزكاة المفروضة وقيل: العارية أو الماء أو النار أو الكلأ أو الرفد أو المغرفة وكلها صحيح لأن مانع الكل آثم
وكقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فسره أبو عبيد أي لا يدوم وقال ثعلب: أي على شك وكلاهما قريب لأن المراد انه غير ثابت على دينه ولا تستقيم البصيرة فيه
وقيل: في القرآن ثلاث آيات في كل منها مائة قول قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِِحْسَانُ}
فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه بل معرفة واجبة ولهذا قال تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه سبحانه والوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} قال القاضي أبو المعالي: إنه قول الجمهور وهو مذهب ابن مسعود
وأبي بن كعب وابن عباس وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط
فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض لقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما
وكذلك قالوا في قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} إنه معاوية وغير ذلك
قال الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري رحمه الله: وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه لا يحسنون القرآن تلاوة ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ما عندهم إلا التشنيع عند العوام والتكثر عند الطغام لنيل ما عندهم من الحطام أعفوا أنفسهم من الكد والطلب وقلوبهم من الفكر والتعب لاجتماع الجهال عليهم وازدحام ذوي الأغفال لديهم لا يكفون الناس من السؤال ولا يأنفون عن مجالسة الجهال مفتضحون عند السبر والذواق زائغون عن العلماء عند التلاق يصادرون الناس مصادرة السلطان ويختطفون ما عندهم اختطاف السرحان يدرسون بالليل صفحا ويحكونه بالنهار شرحا إذا سئلوا غضبوا وإذا نفروا هربوا القحة رأس مالهم والخرق والطيش خير خصالهم يتحلون بما ليس فيهم ويتنافسون فيما يرذلهم الصيانة عنهم بمعزل وهم من الخنى والجهل في جوف منزل وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وقد قيل:
من تحلى بغير ما هو فيه
فضحته شواهد الامتحان
وجرى في السباق جرية
سِكِّيت نفته الجياد عند الرهان
قال: حكي عن بعضهم أنه سئل عن الحاقة فقال: الحاقة جماعة من الناس إذا صاروا في المجلس قالوا: كنا في الحاقة وقال آخر في قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} قال: أمر الأرض بإخراج الماء والسماء بصب الماء وكأنه على القلب وعن بعضهم في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} قال: إن الله ليسألكم عن الموءودات فيما بينكم في الحياة الدنيا
وقال آخر في قوله: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} قال: إنهم تعبوا في الدنيا فإذا دخلوا الجنة تنعموا
قال أبو القاسم: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى ابن معاذ الرازي يقول: أفواه الرجال حوانيتها وأسنانها صنائعها فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين العطار من البيطار والتمار من الزمار والله المستعان على سوء الزمان وقلة الأعوان
فصل في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم
كتاب الله بحره عميق وفهمه دقيق لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم وعامل الله بتقواه في السر والعلانية وأجله عند مواقف الشبهات واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد فالعبارات للعموم وهي للسمع والإشارات
للخصوص وهي للعقل وللطائف للأولياء وهي المشاهد والحقائق للأنبياء وهي الاستسلام
وللكل وصف ظاهر وباطن وحد ومطلع فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد إحكام الحلال والحرام والمطلع أي الإشراق من الوعد والوعيد فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة وظهر له حال المعاينة وفي صحيح ابن حيان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منه ظهر وبطن"
ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه فمن سمعه من التالي ففائدته فيه علم أحكامه ومن سمعه كأنما يسمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته وانشراح صدره بلطائف خطابه ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام يقرؤه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب والنطق إلى ما فيه من الوعود ومن سمع الخطاب فيه من الحق فني عنده وامحت صفاته وصار موصوفا بصفات التحقيق عن مشاهدة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها
وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن
قال ابن سبع في شفاء الصدور: هذا الذي قاله أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر وقال آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم
إذ لكل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم وما لا بد فيها من استماع كثير لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن ظاهره على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له كما لانهاية للمتكلم به فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا
ومن أحاط بظاهر التفسير -وهو معنى الألفاظ في اللغة- لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني ومثاله قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فظاهر تفسيره واضح وحقيقة معناه غامضة فإنه إثبات للرمي ونفي له وهما متضادان
في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من جهة ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل
وكذلك قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله تعالى هو المعذب وإن كان تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال!
فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات فلا بد أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة وتفهم وجه ارتباط القدرة بقدره الله تعالى حتى تتكشف وتتضح فمن هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير
فصل في أمهات مآخذ التفسير للناظر في القرآن
لطالب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهذا هو الطراز الأول لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنه كثير وإن سواد الأوراق سواد في القلب قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير قال المحققون من أصحابه: ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة وإلا فقد صح من ذلك كثير
فمن ذلك تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
وتفسير الحساب اليسير بالعرض رواهما البخاري
وتفسير القوة في {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} بالرمي رواه مسلم
وبذلك يرد تفسير مجاهد بالخيل
وكتفسير العبادة بالدعاء في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}
الثاني: الأخذ بقول الصحابي
فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قاله الحاكم في تفسيره
وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل ألا يرجع إليه إذا قلنا إن قوله ليس بحجة والصواب الأول لأنه من باب الرواية لا الرأي
وقد أخرج ابن جرير عن مسروق وقال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد اعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته وقال أيضا: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن
وصدور المفسرين من الصحابة: علي ثم ابن عباس -وهو تجرد لهذا الشأن والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي إلا أن ابن عباس كان أخذ عن على- ويتلوه عبد الله بن عمرو بن العاص وكل ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدم
مسألة في الرجوع إلى أقوال التابعين ثم ذكر طبقات المفسرين
وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد واختار ابن عقيل المنع وحكوه عن شعبة لكن عمل المفسرين على خلافة وقد حكوا في كتبهم أقوالهم كالضحاك ابن مزاحم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية الرياحي والحسن البصري والربيع بن انس ومقاتل بن سليمان وعطاء بن أبي سلمة الخراساني ومرة الهمداني وعلى بن أبي طلحة الوالبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي وعكرمة مولى ابن عباس وعطية العوفي وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن زيد بن أسلم
فهذه تفاسير القدماء المشهورين وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة ولعل اختلاف الرواية عن أحمد إنما هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم
ومن المبرزين في التابعين الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير ثم يتلوهم عكرمة والضحاك وإن لم يلق ابن عباس وإنما اخذ عن ابن جبير
وأما عامر السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل: للكلبي أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح وهو معروف بالتفسير وليس لأحد تفسير أطول منه
ولا أشيع فيه وبعده مقاتل بن سليمان إلا أن الكلبي يفضل على مقاتل لما في مقاتل من المذاهب الرديئة ثم بعد هذه الطبقة ألفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون والمفضل وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة ويحيى ابن قريش ومالك بن سليمان الهروي وعبد بن حميد الكشي وعبد الله بن الجراح وهشيم بن بشير وصالح بن محمد اليزيدي وعلي بن حجر بن إياس السعدي ويحيى ابن محمد بن عبد الله الهروي وعلي بن أبي طلحة وابن مردويه وسنيد والنسائي وغيرهم
ووقع في مسند أحمد والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم كثير من ذلك
ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع على الناس أشتات التفاسير وقرب البعيد وكذلك عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي والمهدوي حسن التأليف وكذلك من تبعهم كابن عطية وكلهم متقن مأجور فجزاهم الله خيرا
تنبيه فيما يجب أن يلاحظ عند نقل أقوال المفسرين
يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ويحيكه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل أو لكونه أليق بحال السائل وقد يكون
بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بمقصوده وثمرته والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا والمراد الجميع فليتفطن لذلك ولا يفهم من اختلاف العبارات اختلاف المرادات كما قيل
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير
هذا كله حيث أمكن الجمع فأما إذا لم يمكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة وإلا فالصحيح المقدم وكثيرا ما يذكر المفسرون شيئا في الآية على جهة التمثيل لما دخل في الآية فيظن بعض الناس أنه قصر الآية على ذلك ولقد بلغني عن شخص أنه أنكر على الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله في قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ما ذهب الله بولي إلا أتى بخير منه أو مثله
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة
فإن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقد ذكره جماعة ونص عليه أحمد بن حنبل في مواضع لكن نقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له رجل ببيت من الشعر فقال: ما يعجبني فقيل: ظاهره المنع ولهذا قال بعضهم: في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد وقيل: الكراهة تحمل على من يصرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها
وروي البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا
الرابع: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع
وهذا هو الذي دعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"
وروي البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل
وعلى هذا قال بعض أهل الذوق: للقرآن نزول وتنزل فالنزول قد مضى والتنزل باق إلى قيام الساعة
ومن ها هنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل واجد برأيه على مقتضى نظره في المقتضى
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فأضاف البيان إليهم
وعليه حملوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: غريب من حديث ابن جندب
وقال البيهقي في شعب الإيمان: هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز وهذا معنى قول الصديق: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وقال في المدخل: في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد -والله أعلم- فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن ذكره من بعده وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد
قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه فتكون موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في نكته: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبتها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا من معرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق إذ الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القرآن ذلول ذو وجوه محتملة فاحملوه على أحسن وجوهه"
وقوله: ذلول يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مطيع لحامليه ينطق بألسنتهم الثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين
وقوله: " ذو وجوه" يحتمل معنيين: أحدهما : أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل والثاني: أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحليل والتحريم
وقوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه" يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: الحمل على أحسن معانيه والثاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفو دون الانتقام وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله
وقال أبو الليث: النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسره وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير فلا بأس به ولو أنه يعلم التفسير فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به
ولو قال المراد من الآية كذا من غير أن سمع منه شيئا فلا يحل وهو الذي نهي عنه انتهى
وقال الراغب في مقدمة تفسيره: اختلف الناس في تفسيرالقرآن هل يجوز لكل ذى علم الخوض فيه فمنهم من بالغ ومنع الكلام ولو تفنن الناظر في العلوم واتسع باعه في المعارف إلا بتوقيف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة أو من أخذ منهم من التابعين واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ" وفي رواية: "من قال في القرآن برأيه فقد كفر"
وقيل: إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض واحتجوا بقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}
أقسام التفسير
وقد روى عبد الرزاق في تفسيره: حدثنا الثوري عن ابن عباس أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام: قسم تعرفه العرب في كلامها وقسم لا يعذر أحد بجهالته يقول من الحلال والحرام وقسم يعلمه العلماء خاصة وقسم لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب
وهذا تقسيم صحيح
فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب
فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع
إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين
الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى
فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وأنه لا شريك له في إلهيته
وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة
الثالث: ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه إما نص من التنزيل أو بيان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة وهذا على ضربين:
أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ولو دار بين الشرعية والعرفية فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة بل كلا المعنيين استعمل فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء وهذا أيضا على ضربين:
أحدهما: أن يتنافيا اجتماعا ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء حقيقة في الحيض والطهر فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه لأنه نتيجة اجتهاده وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم فمنهم من قال يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين
الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعا فيجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما وهذا أيضا ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر فيتعين المدلول عليه للإرادة
الثاني: ألا يقتضى بطلانه وهذا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر بل يجوز أن يكون مرادا أيضا وأن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج اثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل والله أعلم
إذا تقرر ذلك فينزل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب
الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيهما ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والعموم والخصوص والظاهر والمضمر والمحكم والمتشابه والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله
فإن قيل: فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ولكن حرف حد ولكل حد مطلع" فما معنى ذلك؟
قلت: أما قوله: "ظهر وبطن" ففي تأويله أربعة أقوال:
أحدها- وهو قول الحسن-: إنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها
الثاني- قول أبي عبيدة-: إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين
الثالث - قول ابن مسعود رضي الله عنه-: إنه ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها
الرابع - قاله بعض المتأخرين-: إن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها
وقول أبي عبيدة أقربها
وأما قوله: "ولكل حرف حد" ففيه تأويلان: أحدهما : لكل حرف منتهى فيما أراد الله من معناه الثاني: معناه أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب
وأما قوله: "ولكل حد مطلع" ففيه قولان:
أحدهما : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته ويوقف على المراد به
والثاني: لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة وقال بعضهم منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار وذلك آجال حادثة في أوقات آتية كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم وما أشبه ذلك
لقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن وذلك إبانة غرائبه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها فإن ذلك لا يجهله أحد منهم وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} لم يجهل أن معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة وأن الصلاح مما ينبغي فعله مما هو منفعة وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم كتعليم الأحكام من الحلال والحرام
تنبيه في كلام الصوفية في تفسير القرآن
فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن فقيل: ليس تفسيرا وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إن المراد: النفس فأمرنا بقتال من يلينا لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه
قال ابن الصلاح في فتاويه: وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي انه
صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر
قال: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس انتهى
فصل
حكى الشيخ أبو حيان عن بعض من عاصره أن طالب علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك ثم بالغ الشيخ في رده لأثر علي السابق
والحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالا يتوقف ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر
وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحمل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط تجويزا له وازديادا وهذا من الفروع في الدين
تنخيل لما سبق
واعلم أن القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره وقسم لم يرد
والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عيه وسلم أو عن الصحابة أو عن رؤوس التابعين فالأول يبحث في عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشره بذلك حيث قال: "اللهم علمه التأويل" وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفرضكم زيد" فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء وأما الثالث وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد
الثاني: ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وهو قليل وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتنصه من السياق
فصل فيما يجب على المفسر البداءة به
الذي يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه
قالوا: وليس ذلك في علم القرآن فقط بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع وغيره وهو كما قالوا: إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهني والخارجي فنقول النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها
وأما بحسب الأفراد فمن وجوه ثلاثة:
من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بإزائها وهو يتعلق بعلم اللغة
ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالة على المعاني المختلفة وهو من علم التصريف
ومن جهة رد الفروع المأخوذة من الأصول إليها وهو من علم الاشتقاق
وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:
الأول : باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدية أصل المعنى وهو ما دل عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلق بعلم النحو
الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء وهو الذي يتكلف بإبراز محاسنه علم المعاني
الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها وباعتبار الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وهو ما يتعلق بعلم البيان
والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله وهو يتعلق بعلم البديع
مسألة في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة
وقد سبق لنا في باب الإعجاز أن إعجاز القرآن لاشتماله على تفرد الألفاظ التي يتركب منها الكلام مع ما تضمنه من المعاني مع ملاءمته التي هي نظوم تأليفه
فأما الأول : وهو معرفة الألفاظ فهو أمر نقلي يؤخذ عن أرباب التفسير ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى: {فَاكِهَةً وَأَبّاً}فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأب ويقول: إن هذا منك تكلف وكان ابن عباس-
وهو ترجمان القرآن- يقول: لا أعرف {حَنَاناً} ولا {غِسْلِينٍ} ولا {الرَّقِيمِ}
وأما المعاني التي تحتملها الألفاظ فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه يتصل أجزاء الكلام ويتسم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان فليس المفرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا لهذا الشأن ولا كل من أوتي خطاب بديهة ناهضة بحمله ما لم يجمع إليها سائر الشروط
مسألة في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن
قيل: أحسن طريق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فقد فصل في موضع آخر وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له قال تعالى: {وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة فإن لم يوجد في السنة يرجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب فإن لم يوجد ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط بالشرط السابق
مسألة فيما يجب على المفسر من التحوط في التفسير
ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد
ومن شواهد الإعراب قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ولولا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول به
ومن شواهد النظم قوله تعالى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} فإنها منتظمة مع ما قبلها منقطعة عما بعدها
وقد يظهر الارتباط وقد يشكل أمره فمن الظاهر قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ووجه ظهوره أنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون قوله: {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم لما سألوا سمعوا ما قبله من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أجابهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال
ونظيره: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
مسألة في النهي عن ذكر لفظ الحكاية عن الله تعالى ووجوب تجنب
إطلاق الزائد على بعض الحروف الواردة في القرآن
وكثيرا ما يقع في كتب التفسير حكى الله تعالى وينبغي تجنبه
قال الإمام أبو نصر القشيري في كتابه المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال كلام الله يحكى ولا يقال حكى الله لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق
الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} والكاف في نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحوه
والذي عليه المحققون تجنب هذا اللفظ في القرآن إذ الزائد ما لا معنى له وكلام الله منزه عن ذلك
وممن نص على منع ذلك في المتقدمين الإمام داود الظاهري فذكر أبو عبد الله أحمد بن يحيى بن سعيد الداودي في الكتاب المرشد له في أصول الفقه على مذهب داود الظاهري وروى بعض أصحابنا عن أبي سليمان أنه كان يقول: ليس في القرآن صلة بوجه وذكر أبو محمد بن داود وغيره من أصحابنا مثل ذلك والذي عليه أكثر النحويين خلاف هذا ثم حكى عن أبي داود مثله يزعم الصلة فيها كقوله تعالى: {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا للتعليل مثل: أحبب حبيبك هَوْنًا ما
فصل في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره
التأويل ينقسم إلى منقاد ومستكره:
فالأول: ما لا تعرض فيه بشاعة أو استقباح وقد يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} هل هو من بصر العين أو القلب
وإما لأمر راجع إلى النظم كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف وحده أو عائد إلى الجميع؟
وأما لغموض المعنى ووجازة النظم كقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وإما لغير ذلك
وأما المستكره فما يستبشع إذا عرض على الحجة وذلك على أربعة أوجه:
الأول : أن يكون لفظا عاما فيختص ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} فحمله بعضهم على علي رضي الله عنه فقط
والثاني: أن يلفق بين اثنين كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إنهم مكلفون كما نحن
الثالث: ما استعير فيه كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} في حمله على حقيقته
الرابع: ما أشعر باشتقاق بعيد كما قال بعض الباطنية في البقرة: إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث والتنقيب
والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لم يتبحروا في معرفة الأصول والثاني على المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار والرابع على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات
فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات
روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} فقال: الموت
قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج لتفسير
ورأيت لبعض المتأخرين أن مراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شيء كما جاء أنه يذبح على الصراط فكأن المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لبادر إليكم الموت ولو كنتم الموت الذي يكبر في صدوركم فلا بد لكم من الموت والله أعلم بتأويل ذلك
قال: وبقي في نفسي من تأويل هذه الآية شيء حتى يكمل الله نعمته في فهمها
فصل
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب أو في قلبه كبر أو هوى أو حب الدنيا أو يكون غير متحقق الإيمان
أو ضعيف التحقيق أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر أو يكون راجعا إلى معقوله وهذه كلها حجب وموانع وبعضها آكد من بعض إذا كان العبد مصغيا إلى كلام ربه ملقي السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه ناظرا إلى قدرته تاركا للمعهود من علمه ومعقوله متبرئا من حوله وقوته معظما للمتكلم مفتقرا إلى التفهم بحال مستقيم وقلب سليم وقوة علم وتمكن سمع لفهم الخطاب وشهادة غيب الجواب بدعاء وتضرع وابتئاس وتمسكن وانتظار للفتح عليه من عند الفتاح العليم وليستعن على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكلم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالتشديد فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن وفي مثل هذا قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
وهذا هو الراسخ في العلم جعلنا الله من هذا الصنف والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
فصل في القرآن علم الأولين والآخرين
وفي القرآن علم الأولين والآخرين وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا وستين من قوله تعالى في سورة المنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث
وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده
وقوله تعالى مخبرا عن عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ } إلى قوله: {أُبْعَثُ حَيّاً} ثلاث وثلاثون كلمة وعمره ثلاث وثلاثون سنة
وقد استنبط الناس زلزلة عام اثنين وسبعمائة من قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} فإن الألف باثنين والذال بسبعمائة
وكذلك استنبط بعض أئمة العرب فتح بيت المقدس وتخليصه من أيدي العدو في أول سورة الروم بحساب الجمل وغير ذلك
فصل
قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء
وقد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء كقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية ولم يذكر الأعمام والأخوال وهم من المحارم وحكمهم حكم
من سمي في الآية وقد سئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يضعه العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة والمعنى فيه أن كل من استثني مشترك بابنه في المحرمية إلا العم والخال وهذا من الدلائل البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن
ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في أبناء بعولتهن لاحتمال أن يذرها أبو البعل عند ابنه الآخر وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل ينقض قولهم إن من استثنى اشترك هو وابنه في المحرمية
ومنه قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية ولم يذكر الأولاد فقيل لدخولهم في قوله: {بُيُوتِكُمْ}
فصل في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان
ينقسم القرآن العظيم إلى:
ما هو بين بنفسه بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره وهو كثير ومنه قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} وإلى ما ليس ببين بنفسه فيحتاج إلى بيان وبيانه إما فيه في آية أخرى أو في السنة لأنها موضوعة للبيان قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
والثاني: ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ولم يذكر كيفية الزكاة ولا نصابها ولا أوقاصها ولا شروطها ولا أحوالها ولا من تجب عليه ممن لا تجب عليه وكذا لم يبين عدد الصلاة ولا أوقاتها
وكقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ولم يبين أركانه ولا شروطه ولا ما يحل في الإحرام وما لا يحل ولا ما يوجب الدم ولا ما لا يوجبه وغير ذلك والأول قد أرشدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود: لما نزل : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه!
قال: "ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه" {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فحمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظلم ها هنا على الشرك لمقابلته بالإيمان واستأنس عليه بقول لقمان
وقد يكون بيانه مضمرا فيه كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حَتَّى} لا بد لها من تمام وتأويله حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوابها
ومثله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لكان هذا القرآن على رأي النحويين
قال ابن فارس: ويسمى هذا عند العرب الكف
وقد يومئ إلى المحذوف إما متأخر كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فإنه لم يجئ له جواب في اللفظ لكن أومأ إليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وتقديره: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} كمن قسا قلبه
وإما متقدم كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} فإنه أومأ إلى ما قبله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً} كأنه قال: أهذا الذي هو هكذا خير أم من هو قانت؟ فأضمر المبتدأ
ونظيره: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ومن هذه صفته: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} !
وقد يكون بيانه واضحا وهو أقسام :
أحدها: أن يكون عقبه كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال محمد بن كعب القرظي: تفسيره: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
وكقوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} قال أبو العالية: تفسيره: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} وقال ثعلب: سألني محمد بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى
وكقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} فسره بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}
وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ومعلوم أنه لم يرد به المسيح وعزيرا فنزلت الآية مطلقة اكتفاء بالدلالة الظاهرة على أنه لا يعذبهما الله وكان ذلك بمنزلة الاستثناء باللفظ فلما قال المشركون هذا المسيح وعزير قد عبدا من دون الله أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
وقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} ففسر رؤية البرق بأنه ليس في رؤيته إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار وفيها لطيفة وهى تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر البرقات فإن تواترها لا يكاد يكذب فقدم الخوف على الطمع ناسخا للخوف كمجيء الفرج بعد الشدة
وكقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي على بطنه فإنها سيقت لبيان القدرة وهو أعجب من الذي بعده وكذا ما يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع
وكقوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذا عام في المسلم والكافر ثم بين أن المراد المؤمنات بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فخرج تزوج الأمة الكافرة
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} فإن الأول اسم منه والثاني أفعل تفضيل بدليل قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ولهذا قرأ أبو عمرو الأول بالإمالة لأنه اسم والثاني بالتصحيح ليفرق بين ما هو اسم وما هو أفعل منه بالإمالة وتركها
فإن قلت: فقد قال النحويون أفعل التفضيل لا يأتي من الخلق فلا يقال: زيد أعمى من عمرو لأنه لا يتفاوت!
قلت: إنما جاز في الآية لأنه من عمى القلب أي من كان في هذه الدنيا
أعمى القلب عما يرى من القدرة الإلهية ولا يؤمن به فهو عما يغيب عنه من أمر الآخرة أعمى أن يؤمن به أي أشد عمى ولا شك أن عمى البصيرة متفاوت
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال البيهقي في شعب الإيمان: الأشبه أن المراد بالصبر ها هنا الصبر على الشدائد لأنه أتبع مدح الصابرين بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}
الثاني: أن يكون بيانه منفصلا عنه في السورة معه أو في غيره كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وبيانه في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ولم يبين في ليل ولا نهار وبينه في سورة الدخان بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ثم بينها في ليلة القدر بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فالمباركة في الزمان هي ليلة القدر في هذه السورة لأن الإنزال واحد وبذلك يرد على من زعم أن المباركة ليلة النصف من شعبان وعجب كيف غفل عن ذلك
وقد استنبط بعضهم هنا بيانا آخر وهو أنها ليلة سبعة عشر من قوله تعالى: {وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان وفي ذلك كلام
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فسره في آية الفتح: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} وقد فسره في سورة فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}
وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} بين ذلك بقوله في النحل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى}
وذكر الله الطلاق مجملا وفسره في سورة الطلاق
وقال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فاستثنى الأزواج وملك اليمين ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والرابة بالآية الأخرى
ومنه قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فإن ظاهره مشكل لأن الله سبحانه قد هدى كفارا كثيرا وماتوا مسلمين وإنما المراد لا يهدي من كان في علمه أنه قد حقت عليه كلمة العذاب وبيانه بقوله تعالى في السورة: {أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وقوله في سورة أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}
ومنه قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وكثير من الناس يدعون فلا يستجاب لهم وبيانه بقوله تعالى بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فبين أن الإجابة متعلقة بالمشيئة على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فسر الإجابة بقوله: "ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها"
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} وكثير من الناس يريد ذلك فلا يحصل له وبيانه في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فهو كالذي قبله متعلق بالمشيئة
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فإنه قد يستشكل اجتماعهما لأن الوجل خلاف الطمأنينة وهذا غفلة عن المراد لأن الاطمئنان إنما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل والوجل إنما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى
وما يستحق به الوعيد بتوجيل القلوب كذلك وقد اجتمعا في قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفى عنهم الشك والارتياب الذي يعرض إن كان كلامهم فيمن أظهر الإسلام تعوذا فجعل لهم حكمة دون العلم الموجب لثلج الصدور وانتفاء الشك ونظائره كثيرة
ومنه قوله تعالى في قصة لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} فلم يستثن امرأته في هذا الموضع وهي مستثناة في المعنى بقوله في الآية الأخرى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ} فأظهر الاستثناء في هذه الآية
وكقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية فإنها نزلت تفسيرا وبيانا لمجمل قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لأن هذه لما نزلت لم يفهم مرادها
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} هي تفسير لقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية
وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} الآية فإن هذه الآية مجملة لا يعلم منها من يرث من الرجال والنساء بالفرض والتعصيب ومن يرث ومن لا يرث ثم بينه في آية أخرى بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآيات
وكقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فهذا الاستثناء مجمل بينه في آية أخرى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}
وكقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية فهذا الابتلاء مجمل لا يعلم أحد في الحل أم في الحرم بينه قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية
وكقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وهذا المجمل بينه في آية أخرى بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية
وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال العلماء: بيان هذا العهد قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} الآية فهذا عهده عز وجل وعهدهم تمام الآية في قوله: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فإذا وفوا العهد الأول أعطوا ما وعدوا
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} يرد عليهم بقوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
وقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فقيل لهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقيل: بل نزل بعده: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} والتقدير: إن كشفنا العذاب تعودوا
وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد عليهم بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} بيانه: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}
وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} فقيل لهم: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}
وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} فقيل لهم في الجواب: { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} الآية
ومنه: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}
ومنه: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} فرد عليهم بقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} رد عليهم بقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
وقوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} فقيل لهم: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فقيل في سورة أخرى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}
وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تفسير هذا الاختصام ما قال في سورة أخرى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} الآية
وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وفسرها في موضع آخر بقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
ومنه حكاية عن فرعون -لعنه الله-: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فرد عليه في قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}
وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقوله في قصة نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} بَيَّن في مواضع أخر: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}
وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: أوعية للعلم فقيل لهم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
وجعل بعضهم من هذا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}
قال: فإن آية البقرة وهى قوله: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} تدل على أن قوله: {رَبِّ أَرِنِي} لم يكن عن نفسه وإنما أراد به مطالبة قومه ولم يثبت في التوراة أنه سأل الرؤية إلا وقت حضور قومه معه وسؤالهم ذلك
ومن ذلك قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بينه في آية النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
فإن قيل: فهلا فسرها آية مريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؟ الآية قيل: لا نسلم أولا أن هذه الآية في النبيين فقط لقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وقوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} وهذا تصريح بالأنبياء وغيرهم كيف وقد ذكرت مريم وهي صديقة على أحد القولين ولو سلم أنها في الأنبياء خاصة فهم بعض من أنعم الله عليهم وجعلهم في آية النساء صنفا من المنعم عليهم فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولأن آية مريم ليس فيها إلا الإخبار بأن الله أنعم عليهم وذلك هو معنى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
والرغبة إلى الله تعالى في الثبات عليها هي نفس الطاعة لله ولرسوله فإن العبد إذا هدي إلى الصراط المستقيم فقد هدى إلى الطاعة المقتضية أن يكون مع المنعم عليهم وظهر بهذا أن آية النساء أمس بتفسير سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم
فصل
قد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره وقد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره لأنه أولى بذلك الاسم منه وله أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بالفاتحة مع أن الله تعالى أخبر أن القرآن كله مثاني
ومنها قوله عن أهل الكساء: "هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج وفيهن نزلت ولا يمكن خروجهن عن الآية لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فعلم أن هذه الإرادة شاملة لجميع أهل البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ودل أن عليا وفاطمة أحق بهذا الوصف من الأزواج
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الذي أسس على التقوى: "هو مسجدي هذا" وهو يقتضي أن ما ذكره أحق بهذا الاسم من غيره والحصر المذكور حصر الكمال كما يقال: هذا هو العالم العدل وإلا فلا شك أن مسجد قباء هو مؤسس على التقوى وسياق القرآن يدل على أنه مراد بالآية
فصل
قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وفي موضع آخر ما يعينه لأحدهما كقوله تعالى في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فيحتمل أن يكون السمع معطوفا على ختم ويحتمل الوقف على قلوبهم لأن الختم إنما يكون على القلب وهذا أولى لقوله في الجاثية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}
وقوله تعالى في سورة الحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فالاستثناء منقطع لقوله في الإسراء: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ولو كان متصلا لاستثناهم فلما لم يستثنهم دل على أنهم لم يدخلوا
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فقد قيل: إن حياة كل شيء إنما هو بالماء قال ابن درستويه: وهذا غير جائز في العربية لأنه لو كان المعنى كذلك لم يكن {حَيٍّ} مجرورا ولكان منصوبا وإنما { حَيٍّ} صفة لشيء ومعنى الآية: خلق الخلق من الماء ويدل له قوله في موضع آخر: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}
ومما يحتمل قوله تعالى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} فإن فليلقه يحتمل الأمر والخبر كأنه قال فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أن يكون أمرا بإلقائه
ومنه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فإنه يحتمل أن يكون خلقته وحيدا فريدا من ماله وولده وفي الآية بحث آخر وهو أن أبا البقاء أجاز فيها وفي قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أن تكون الواو عاطفة وهو فاسد لأنه يلزم منه أن يكون الله قد أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتركه وكأنه قال: اتركني واترك من خلقت وحيدا وكذلك اتركني واترك المكذبين فيتعين أن يكون
المراد: خل بيني وبينهم وهي واو مع كقوله: "لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها"
وقد يكون للفظ ظاهر وباطن كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ظاهره الكعبة وباطنه القلب قال العلماء ونحن نقطع أن المراد بخطاب إبراهيم الكعبة لكن العالم يتجاوز إلى القلب بطريق الاعتبار عند قوم والأولى عند آخرين ومن باطنه إلحاق سائر المساجد به ومن ظاهره عند قوم العبور فيه
فصل في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال
ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور
أحدها: رد الكلمة لضدها كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي: ولا كفورا والطريقة أن يرد النهي منه إلى الأمر فنقول معنى: أطع هذا أو هذا أطع أحدهما وعلى هذا معناه في النهي ولا تطع واحدا منهما
الثاني: ردها إلى نظيرها كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} قول حُدّ أحد طرفيه وأرخى الطرف الآخر إلى غير نهاية لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث وآخره لا نهاية له وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ
وَاحِدَةً} محدودة الطرفين فالثنتان خارجتان من هذا الفصل وأمسك الله عن ذكر الثنتين وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها وأما قوله في الأخوات: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} الآية فذكر الواحدة والاثنتين وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقهن فضمن كل واحد من الفصلين ما كف عن ذكره في الآخر فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره
الثالث: ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعز أو تكون العزة له لكن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعلم لمن العزة فإنها لله
وكذلك قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإنه لا دلالة فيها على الحال التي هي شرط في عقوبته المعينة وأنواع المحاربة والفساد كثيرة وإنما استفيدت الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال والصلب على من جمعهما والقطع على من أخذ المال ولم يقتل والنفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى السعي في الأرض بالفساد
الرابع: دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته وانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير
الخامس: ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهة ثم يستعار من المشابه لمشابه المشابه ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر وطريق معرفة ذلك بالتدريج كقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك أن أصل دون للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره ومنه الشيء الدون للحقير ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في العلم والشرف ثم اتسع فيه فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد وتخطى حكما إلى حكم آخر كما في الآية المذكورة والتقدير لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين
وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي تجاوزوا الله في دعائكم إلى دعاء آلهتكم الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أي لا تستشهدوا بالله فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس بل ائتوا ببينة تكون حجة عند الحكام وهذا يؤذن بأنه لم يبق تشبث سوى قولهم: "الله يشهد لنا عليكم" هذا إذا جعلت من دون الله متعلقا بادعوا فإن جعلته متعلقا بـ {شُهَدَاءَكُمْ} احتمل معنيين: أحدهما : أن يكون المعنى ادعوا الذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله أي شهادتهم لكم يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلهتكم أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله إلى ألوهيتهم
ويحتمل أن يكون التقدير: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غير المؤمنين يشهدون لكم أنكم آمنتم بمثله وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا على هذا جائز
ومنه قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } فإنه عطفه على قوله: {أَلَمْ تَرَ} لأنها بمعنى: هل رأيت
السادس: معرفة النزول وهو من أعظم المعين على فهم المعنى وسبق منه في أول الكتاب جملة وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه وكان عروة بن الزبير قد فهم من قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن السعي ليس بركن فردت عليه عائشة ذلك وقالت: "لو كان كما قلت لقال فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام فلما جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم وأمرهم بالطواف رواه البخاري في صحيحه فثبت أنها نزلت ردا على من كان يمتنع من السعي
ومن ذلك قصة مروان بن الحكم سؤاله ابن عباس: "لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عباس: هذه الآيات
نزلت في أهل الكتاب ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وتلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قال ابن عباس: سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه
وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره
ومن هذا ما قاله الشافعي في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أنه لا متمسك فيها لمالك على العموم لأنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء وحكاه غير سعيد بن جبير
السابع: السلامة من التدافع كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فإنه يحتمل أن الطوائف لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة بل بعضهم لتحصيل التفقه بوفودهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم والفائدة في كونهم لا ينفرون جميعا عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ من يتخلف من بعضهم ممن لا يمكن نفيره
ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه وسراياه والمعنى حينئذ أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه لتحصيل المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في المدينة والفئة النافرة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه فإذا رجعوا إلى من بقي بالمدينة أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم والاحتمالان قولان للمفسرين
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: والأقرب عندي هو الاحتمال الأول لأنا لو حملناه على الاحتمال الثاني لخالفه ظاهر قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} وقوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} فإن ذلك يقتضي إما طلب الجميع بالنفير أو إباحته وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع وإذا تعارض محملان يلزم من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر فالثاني أولى ولا نعني بلزوم التعارض لزوما لا يجاب عنه ولا يتخرج على وجه مقبول بل ما هو أعم من ذلك فإن ما أشرنا إليه من الآيتين يجاب عنه بحمل "أو" في قوله: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} على التفصيل دون التخيير كما رضيه بعض المتأخرين من النحاة فيكون نفيرهم ثبات مما لا يدعون الحاجة إلى نفيرهم فيه جميعا ونفيرهم جميعا فيما تدعو الحاجة إليه ويحمل قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد ولم تحصل الكفاية إلا بنفير الجميع ممن يصلح للجهاد فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ
أو أن تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا
ومن المفسرين من يقول: إن منع النفير جميعا حيث يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوه وحده
والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا لأن اللفظ يقتضي أن نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار ونفيرهم مع بقاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدهم لا يناسبه التعليل بالتفقه في الدين إذ التفقه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلم الشرائع من جهته فكيف يكون خروجهم عليه معللا للتفقه في الدين
ومنه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف ويحتمل أن يكون من باب التشديد بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة فاتقوا أي لا تبقى من الاستطاعة شيء
وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم أو ما أمكنكم من غير عسر
قال الشيخ تقي الدين الفشيري: ويصلح معنى التخصيص قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
فصل في الظاهر والمؤول
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وهو في أحدهما أظهر فيسمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا
مثال المؤول قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية أو على القدرة والعلم والرؤية كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق
وكقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يستحيل أن يشد في القيامة في عنق كل طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور فوجب حمله على التزام الكتاب في الحساب لكل واحد منهم بعينه
ومثال الظاهر قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب كقوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فيقال: للانقطاع طهر وللوضوء والغسل غير أن الثاني أظهر
وكقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فيقال: للابتداء التمام والفراغ غير أن الفراغ أظهر
وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فيحتمل أن يكون
الخيار في الأجل أو بعده والظاهر الأول لكنه يحمل على أنه مفارقة الأجل
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } والظاهر يقتضي حمله على الاستحباب لأن قوله: { فَلا جُنَاحَ} بمنزلة قوله: "لا بأس" وذلك لا يقتضي الوجوب ولكن هذا الظاهر متروك بل هو واجب لأن طواف الإفاضة واجب ولأنه ذكره بعد التطوع فقال: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} فدل على أن النهي السابق نهي عن ترك واجب لا نهي عن ترك مندوب أو مستحب
وقد يكون الكلام ظاهرا في شيء فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والشهر اسم لثلاثة لأنه أقل الجمع
وكقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَِلأُمِّهِ السُّدُسُ} فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان لأنهما يحجبانها عن الثلث إلى السدس
فصل في اشتراك اللفظ بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز
قد يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعا كقوله تعالى: {لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قيل: المراد يُضَارِر وقيل: يُضَارِر أي الكاتب والشهيد لا يضارر فيكتم الشهادة والخط وهذا أظهر
ويحتمل أن من دعا الكاتب والشهيد لا يضارره فيطلبه في وقت فيه ضرر
وكذلك قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فعلى هذا يجوز أن يقال أراد الله بهذا اللفظ كلا المعنيين على القولين أما إذا قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه فظاهر وأما إذا قلنا بالمنع فبأن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين مرة أريد هذا ومرة هذا وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة" رواه أحمد أي اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة ولا يقتصر به على ذلك المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا
وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع الأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا كلفظ العين والقرء واللمس فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل فيطلب البيان من غيره وإن لم يتناف فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين والوجه التوقف فيه لأنه ما وضع للجميع بل وضع لآحاد مسميات على البدل وادعاء إشعاره بالجميع بعيد نعم يجوز أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك عقلا وفي مثل هذا يقال: يحتمل أن يكون المراد كذا ويحتمل أن يكون كذا
فصل
قد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين
وقد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين كما سبق في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى} ثم أثبته لسر غامض وهو أن الرمي الثاني غير الأول فإن الأول عني به الرمي بالرعب والثاني عني به بالتراب حين رمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجوه أعدائه بالتراب والحصى وقال: "شاهت الوجوه" فانهزموا فأنزل الله يخبره أن انهزامهم لم يكن لأجل التراب وإنما هو بما أوقع في قلوبهم من الرعب
فصل في الإجمال ظاهرا وأسبابه
وأما ما فيه من الإجمال في الظاهر فكثير وله أسباب
أحدها: أن يعرض من ألفاظ مختلفة مشتركة وقعت في التركيب كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قيل: معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها وقيل: كالليل مظلمة لاشيء فيها
وكقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قيل: أقبل وأدبر
وكالأمة في قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} بمعنى الجماعة وفي قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} بمعنى الرجل الجامع للخير المقتدى به وبمعنى الدين في قوله
تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وبمعنى الزمان في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}
وكالذرية فإنها في الاستعمال العرفي الأدنى ومنه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} وقد يطلق على الأعلى بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} الآية ثم قال: {ذُرِّيَّةً} وبها يجاب عن الإشكال المشهور في قوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} على بحث فيه
وقال مكي في قوله تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: أول من يعبد الله ومن قال: "الأنِفين" فقوله مردود لأنه يلزم أن يكون العبدين لأنه إنما يقال: عبد من كذا أي أنف
الثاني: من حذف في الكلام كقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قيل معناه ترغبون في نكاحهن لما لهن وقيل معناه: عن نكاحهن لزمانتهن وقلة مالهن والكلام يحتمل الوجهين لأن العرب تقول رغبت عن الشيء إذا زهدت فيه ورغبت في الشيء إذا حرصت عليه فلما ركب الكلام تركيبا حذف معه حرف الجر احتمل التأويلين جميعا وجعل منه بعضهم قوله تعالى في سورة النساء: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ
لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي يقولون: {مَا أَصَابَكَ} قال: ولولا هذا التقدير لكان مناقضا لقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي: آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها وليس المراد أن الناقة كانت مبصرة لا عمياء
الثالث: من تعيين الضمير كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فالضمير في {يَدِهِ} يحتمل عوده على الولي وعلى الزوج ورجح الثاني لموافقته للقواعد فإن الولي لا يجوز أن يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه وحمل الكلام المحتمل على القواعد الشرعية أولى
فإن قيل: لو كان خطابا للأزواج لقال: "إلا أن تعفو" بالخطاب لأن صدر الآية خطاب لهم بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
قلنا: هو التفات من الخطاب إلى الغيبة وهو من أنواع البديع
ومنه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيحتمل أن يكون الضمير الفاعلي الذي في {يَرْفَعُهُ} عائدا على العمل والمعنى أن الكلم الطيب -وهو التوحيد- يرفع العمل الصالح لأنه لا تصلح الأعمال إلا مع الإيمان ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الكلم ويكون معناه أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب وكلاهما صحيح لأن الإيمان فعل وعمل ونية لا يصح بعضها إلا ببعض
وقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} فالهاء الأولى كناية عن الحوافر وهي موريات أي أثرن بالحوافر نقعا والثانية كناية عن الإغارة أي المغيرات صبحا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} جمع المشركين فأغاروا بجمعهم
وقد صنف ابن الأنباري كتابا في تعيين الضمائر الواقعة في القرآن في مجلدين
الرابع: من مواقع الوقف والابتداء كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقوله: {الرَّاسِخُونَ} يحتمل أن يكون معطوفا على اسم الله تعالى ويحتمل أن يكون ابتداء كلام وهذا الثاني هو الظاهر ويكون حذف "أما" المقابلة كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ويؤيده آية البقرة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}
الخامس : من جهة غرابة اللفظ كقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} وغير ذلك مما صنف فيه العلماء من كتب غريب القرآن
السادس: من جهة كثرة استعماله الآن كقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
و{ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} بمعنى: يسمعون ولا يقول أحد الآن: ألقيت سمعي
وكذا قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: متكبرا
وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي: يسرون ما في ضمائرهم
وكذا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي: نادما
وكذا: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي: لم يتلقوا النعم بشكر
السابع: من جهة التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} تقديره: ولو كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ولولا هذا التقدير لكان منصوبا كالإلزام
وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: يسألونك عنها كأنك وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فهذا غير متصل وإنما هو عائد على قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} فصارت أنفال الغنائم لك إذا أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره
وقوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ} معناه: {قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ}
الثامن: من جهة المنقول المنقلب كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} أي طورسينا
وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي: الناس وقيل: إدريس وفي حرف ابن مسعود: إدراس
التاسع: المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} معناه: يدعون من دون الله شركاء إلا الظن
وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} معناه: الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا
فصل فيما ورد فيه مبينا للإجمال
اعلم أن الكتاب هو القرآن المتلو وهو إما نص وهو ما لا يحتمل إلا معنى كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وإما ظاهر وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره
والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة أما المتصلة فنوعان: نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة لحمل عليه ويسمى تخصيصا وتأويلا ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا
فالأول: كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فإنه دل على أن المراد من قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع وبين أنه ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام وللشافعي رحمه الله قول بإجمال البيع لأن الربا مجمل وهو في حكم المستثنى من البيع واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام والصحيح الأول فإن الربا عام في الزيادات كلها وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع
ومثال النوع الثاني : قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} فإنه فسر مجمل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} إذ لولا {مِنَ الْفَجْرِ} لبقي الكلام الأول على تردده وإجماله
وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه أراد الليل والنهار
وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا: تأويل وبيان
فمثال الأول قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فإنه دل على أن المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الطلاق
الرجعي إذا لولا هذا القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى فلهذا جعلت من قسم المنفصلة
ومثال الثاني قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فإنه دل على جواز الرؤية ويفسر به قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية
وأيضا قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار وارتفع به الإجمال في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإن صيغته صيغة الخبر ولكن لا يمكن حمله على حقيقته فإنهن قد لا يتربصن فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر والمراد بها الأمر
النوع الثاني والأربعون في وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن
يأتي على نحو من أربعين وجها:
الأول: خطاب العام المراد به العموم
كقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً}
وقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً} وهو كثير في القرآن
{يَا أَيُّهَا الإِِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}
الثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص
من ذلك قوله تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}
{هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ}
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا} وغير ذلك
الثالث: خطاب الخاص والمراد به العموم
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فافتتح الخطاب بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد سائر من يملك الطلاق
ومنه قوله تعالى: {يأيها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
وقال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له فلما قال في الموهوبة: {خَالِصَةً لَكَ} علم أن ما قبلها له ولغيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وجرى أبو يوسف على الظاهر فقال: إن صلاة الخوف من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأجاب الجمهور بأنه لم يذكر {فِيهِمْ} على أنه شرط بل على أنه صفة حال والأصل في الخطاب أن يكون لمعين
وقد يخرج على غير معين ليفيد العموم كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} وفائدته الإيذان بأنه خليق بأن يؤمر به كل أحد ليحصل مقصوده الجميل
وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تقطيع حالهم وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا تخص بها رؤية راء بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} لم يرد به مخاطب معين بل عبر بالخطاب ليحصل لكل واحد فيه مدخل مبالغة فيما قصد الله من وصف ما في ذلك المكان من النعيم والملك ولبناء الكلام في الموضعين على العموم لم يجعل لـ: "ترى" ولا لـ: "رأيت" مفعولا ظاهرا ولا مقدرا ليشيع ويعم
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فقيل: إنه من هذا الباب ومنعه قوم وقال: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو للتمني لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالترجي في {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لأنه تجرع من
عداوتهم الغصص فجعله الله كأنه تمنى أن يراهم على تلك الحالة الفظيعة من نكس الرؤوس صما عميا ليشمت بهم
ويجوز أن تكون: "لو" امتناعية وجوابها محذوف أي لرأيت أسوأ حال يرى
الرابع: خطاب العام والمراد الخصوص
وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن فأنكره بعضهم لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة كقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} والصحيح أنه واقع كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعا والمراد بعضهم لأن القائلين غير المقول لهم والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي والثاني أبو سفيان وأصحابه قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله: {نَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} واحد قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ} إلى واحد بعينه ولو كان المعنى به جمعا لكان "إنما الشياطين الشياطين" فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ وقيل بل وضع فيه "الذين" موضع "الذي"
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يعني: عبد الله بن سلام
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال الضحاك: وهو الأقرع بن حابس
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لم يدخل فيه الأطفال والمجانين
ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية كقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقله أو مجنونة ثم خص في آخرها بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية فخصها بالعاقلة البالغة لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو
ونظيره قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} لأن البائنة لا تراجع
وتارة في أولها كقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج ثم قال بعد: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها
وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ} الآية فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ثم قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية
ونظيره قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهذا عام في جميع الميتات ثم خصه بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فأباح الصيد الذي يموت في فم الجارح المعلم
وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} تقديره: وإن كانت ميتة فخص بهذه الآية عموم تلك
ومثله قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ}
ونظيره قوله : {وَالدَّمَ} وقال في آية أخرى: {إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} يعني إلا الكبد والطحال فهو حلال
ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام وهي مكية والآية العامة في سورة المائدة وهي مدنية وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع كما تقدم في النزول آية الوضوء على أنه التيمم وهذا ماش على مذهب الشافعي في أن العبرة بالخاص سواء تقدم أم تأخر
ومثله قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} والآية وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ثم خصها بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وخصها بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
ومثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية فهذا عام في المدخول بها وغيرها ثم خصها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية فخص الآيسة والصغيرة والحامل فالآيسة والصغيرة بالأشهر والحامل بالوضع
ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية وهذا عام في الحامل والحائل ثم خص بقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
ونظيره قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ثم خص بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} عام في الحرائر والإماء ثم خصه بقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} فإن الخلة عامة ثم خصها بقوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}
وكذلك قوله: {وَلا شَفَاعَةٌ} بشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فائدة في العموم والخصوص
قد يكون الكلامان متصلين وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما: أعط عمرا فإن لم تفعل فما أعطيت يريد إن لم تعط عمرا فأنت لم تعط زيدا أيضا وذاك غير محسوب لك
ذكره ابن فارس وخرج عليه قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: فهذا خاص به يريد هذا الأمر المحدد بلغه {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} ولم تبلغ هذا {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يريد جميع ما أرسلت به
قلت: وهو وجه حسن وفي الآية وجوه أخر
أحدها: أن المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلغ شيئا منها فيكون ترك البعض محبطا للباقي قال الراغب: وكذلك أن حكم الأنبياء عليهم السلام في تكليفاتهم أشد وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما
والثاني: قال الإمام فخر الدين: إنه من باب قوله:
*أنا أبو النجم وشعري شعري*
معناه: أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شيء قيل في نظم إنه شعري فقد
انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه وكذا جواب الشرط ها هنا يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد وضعف الوجه الذي قبله بأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل كان كذبا ولو قيل إن الخلل في ترك البعض كالخلل في ترك الكل فإنه أيضا محال
وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر لأنه إذا كان متى أتي به غير معتد به فوجده كالعدم كقول الشاعر:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا
فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي: ولم تعط ما يعد نائلا وإلا يتكاذب البيت
الثالث: أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل كما في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}
الرابع: أنه وضع السبب موضع المسبب ومعناه: إن لم تفعل ذلك فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العذاب
ذكر هذا والذي قبله صاحب الكشاف
تنبيه: قال الإمام أبو بكر الرازي: وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغه الكافة وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة ومما مست النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل انتهى
وهذه الدلالة ممنوعة لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل ومن المعلوم أن الله سبحانه لم يكلف رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن لأنه المعجز الأكبر وطريق معرفته القطع فأما باقي الأحكام فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل بها إلى الآحاد والقبائل وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا
الخامس: خطاب الجنس
نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فإن المراد جنس الناس لا كل فرد وإلا فمعلوم أن غير المكلف لم يدخل تحت هذا الخطاب وهذا يغلب في خطاب أهل مكة كما سبق ورجح الأصوليون دخول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطاب بـ يأيها الناس وفي القرآن سورتان أولهما {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إحداهما: في النصف الأول وهي السورة الرابعة منه
وهي سورة النساء والثانية في النصف الثاني: منه وهي سورة الحج والأولى تشتمل على شرح المبدأ والثانية تشتمل على شرح المعاد فتأمل هذا الترتيب ما أوقعه في البلاغة
قال الراغب: والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه كاليد فإنها إذا عدمت فعلها الخاص بها فإطلاق اليد عليها كإطلاقه على يد السرير ومثله بقوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي: كما يفعل من يوجد فيه معنى الإنسانية ولم يقصد بالإنسان عينا واحدا بل قصد المعنى وكذلك قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أي: من وجد فيهم معنى الإنسانية أي إنسان كان
قال: وربما قصد به النوع من حيث هو كقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}
السادس: خطاب النوع
نحو: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} والمراد: بنو يعقوب وإنما صرح به للطيفة سبقت في النوع السادس وهو علم المبهمات
السابع: خطاب العين
نحو: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
{يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ}
{يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}
{يَا مُوسَى}
{يَا عِيسَى}
ولم يقع في القرآن النداء بـ "يا محمد" بل بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} و{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} تعظيما له وتبجيلا وتخصيصا بذلك عن سواه
الثامن: خطاب المدح
نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا وقع خطابا لأهل المدينة الذين آمنوا وهاجروا تمييزا لهم عن أهل مكة وقد سبق أن كل آية فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}
لأهل مكة وحكمه ذلك أنه يأتي بعد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الأمر بأصل الإيمان ويأتي بعد { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الأمر بتفاصيل الشريعة وإن جاء بعدها الأمر بالإيمان كان من قبيل الأمر بالاستصحاب
وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} قيل: يرد الخطاب بذلك باعتبار الظاهر عند المخاطب وهم المنافقون فإنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان كما قال سبحانه: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}
وقد جوز الزمخشري في تفسير سورة المجادلة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أن يكون خطابا للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وأن يكون للمؤمنين
ومن هذا النوع الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ولهذا تجد الخطاب بالنبي في محل لا يليق به الرسول وكذا عكسه كقوله في مقام الأمر بالتشريع العام: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وفي مقام الخاص: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومثله: {إن إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
وتأمل قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في مقام الاقتداء بالكتاب والسنة ثم قال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فكأنه جمع له المقامين معنى النبوة والرسالة تعديدا للنعم في الحالين
وقريب منه في المضاف إلى الخاص: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} ولم يقل: "يا نساء الرسول" لما قصد اختصاصهن عن بقية الأمة
وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام لكن مع قرينة إرادة التعميم كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ولم يقل طلقت
التاسع: خطاب الذم
نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين
وكثر الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} على المواجهة وفي جانب الكفار على الغيبة إعراضا عنهم كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} ثم قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فواجه بالخطاب المؤمنين وأعرض بالخطاب عن الكافرين ولهذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عتب على قوم قال: "ما بال رجال يفعلون كذا" فكنى عنه تكرما وعبر عنهم بلفظ الغيبة إعراضا
العاشر: خطاب الكرامة
نحو: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}
الحادي عشر: خطاب الإهانة
نحو قوله لإبليس: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ}
وقوله: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
وقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}
قالوا: ليس هذا إباحة لإبليس وإنما معناه أن ما يكون منك لا يضر عباده كقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
الثاني عشر: خطاب التهكم
وهو الاستهزاء بالمخاطب مأخوذ من تهكم البئر إذا تهدمت كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وهو خطاب لأبي جهل لأنه قال: "ما بين
جبليها -يعني مكة- أعز ولا أكرم مني"
وقال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} جعل العذاب مبشرا به
وقوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}
وقوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} والنزل لغة: هو الذي يقدم للنازل تكرمة له قبل حضور الضيافة
وقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} على تفسير المعقبات بالحرس حول السلطان يحفظونه -على زعمه- من أمر الله وهو تهكم فإنه لا يحفظه من أمر الله إذا جاءه
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو تعالى يعلم حقيقتهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفي عليه خافية
وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وذلك لأن الظل
من شأنه الاسترواح واللطافة فنفي هنا وذلك أنهم لا يستأهلون الظل الكريم
الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد
كقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} والمراد: الجميع بدليل قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}
وكان الحجاج يقول في خطبته: "يا أيها الإنسان وكلكم ذلك الإنسان"
وكثيرا ما يجيء ذلك في الخبر كقوله تعالى" {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} ولم يقل ضيوفي لأنه مصدر
وقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} ولم يقل الأعداء
وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أي : رفقاء
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
وفي الوصف كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
وقوله: {الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وقوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} وجمعه أنجية من المناجاة
وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فأوقع الطفل جنسا
قال ابن جني: وهذا باب يغلب عليه الاسم لا الصفة نحو الشاة والبعير والإنسان والملك قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ومن مجيئه في الصفة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}
وقال: وكل واحد من هذه الصفات لا تقع هذا الموقع إلا بعد أن تجري مجرى الاسم الصريح
الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} إلى قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فهذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إذ لا نبي معه قبله ولا بعده
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} خاطب به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} الآية
وقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية خاطب بذلك أبا بكر الصديق لما حرم مسطحا رفده حين تكلم في حديث الإفك
وقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} والمخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا لقوله: {قُلْ فَأْتُوا}
وقوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي: ارجعني وإنما خاطب الواحد المعظم بذلك لأنه يقول نحن فعلنا فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب وقيل {رَبِّ} استغاثة و{ارْجِعُونِ} خطاب الملائكة فيكون التفاتا أو جمعا لتكرار القول كما قال: "قفا نبك"
وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب فاختلط ولا يدري ما يقول من الشطط وقد اعتاد أمرا يقوله في الحياة من رد الأمر إلى المخلوقين
ومنه قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية وهذا مما لا تشريك فيه
وقال المبرد في الكامل: "لا ينبغي أن يستعمل ضمير الجمع في واحد من المخلوقين على حكم الاستلزام لأن ذلك كبر وهو مختص به سبحانه
ومن هذا ما حكاه الحريري في شرح الملحة عن بعضهم أنه منع من إطلاق لفظة نحن على غير الله تعالى من المخلوقين لما فيها من التعظيم وهو غريب وحكى بعضهم خلافا في نون الجمع الواردة في كلامه سبحانه وتعالى فقيل: جاءت للعظمة يوصف بها سبحانه وليس لمخلوق أن ينازعه فيها فعلى هذا القول يكره للملوك استعمالها في قولهم: نحن نفعل كذا وقيل في علتها: إنها كانت تصاريف أقضيته تجري على أيدي خلقه تنزلت أفعالهم منزلة فعله فلذلك ورد الكلام مورد الجمع فعلى هذا القول يجوز مباشرة النون لكل من لايباشر بنفسه
فأما قول العالم: "نحن نبين" "ونحن نشرح" فمفسوح له فيه لأنه يخبر بنون الجمع عن نفسه وأهل مقالته
وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} والمراد: الإنس لأن الرسل لا تكون إلا من بني آدم وحكى بعضهم فيه الإجماع لكن عن الضحاك أن من الجن رسولا اسمه يوسف لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} واحتج الجمهور بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} ليحصل الاستئناس وذلك مفقود في الجن وبقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} الآية وأجمعوا أن المراد بالاصطفاء النبوة
وأجيب عن تمسك الضحاك بالآية بأن البعضية صادقة بكون الرسل من بني آدم ولا يلزم إثبات رسل من الجن بطريق إثبات نفر من الجن يستمعون القرآن من رسل الإنس ويبلغونه إلى قومهم وينذرونهم ويصدق على أولئك النفر من حيث إنهم رسل الرسل وقد سمى الله رسل عيسى بذلك حيث قال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}
وفي تفسير القرآن لقوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الحوري قال: قوم من الجن رسل للآية
وقال الأكثرون: الرسل من الإنس ويجيء من الجن كقوله في قصة بلقيس: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والمراد به واحد بدليل قوله: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} وفيه نظر من جهة أنه يحتمل أن يكون الخطاب لرئيسهم فإن العادة جارية
لاسيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا وقرأ ابن مسعود ارجعوا إليهم أراد الرسول ومن معه
وقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني: عائشة وصفوان
وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} والمراد بالمرسلين نوح كقولك: فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله إلا دابة وبرد قاله الزمخشري
وقوله تعالى: {نْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} قال قتادة: هذا رجل كان لا يمالئهم على ما كانوا يقولون في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسماه الله سبحانه طائفة وقال البخاري ويسمى الرجل طائفة
وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} والمراد خلة بدليل الآية الأخرى والموجب للجمع مناسبة رؤوس الآي
فائدة
وأما قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} فجوز الفارسي فيه تقديرين:
أحدهما: أن إمام هنا جمع لأنه المفعول الثاني لجعل والمفعول الأول جمع والثاني هو الأول فوجب أن يكون جمعا وواحده آم لأنه قد سمع هذا في واحدة
قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فهذا جمع "آم" مسلما وقياسه على حد قيام وقائم فأما أئمة فجمع إمام الذي هو مقدر على حد عنان وأعنه وسنان وأسنة والأصل أيمة فقلبت الفاء
والثاني: أنه جمع الإمام لأن المعنى: "أئمة" فيكون إمام على هذا واحدا وجمعه أئمة وإمام
وقال ابن الضائع: قيدت عن شيخنا الشلوبين فيه احتمالين غير هذين: أن يكون مصدرا كالإمام وأن يكون من الصفات المجراة مجرى المصادر في ترك التثنية والجمع كحسب ويحتمل أن يكون محمولا على المعنى كقولهم دخلنا على الأمير وكسانا حلة والمراد كل واحد منا حلة وكذلك هو واجعل كل واحد منا إماما
الخامس عشر: خطاب الواحد والجمع بلفظ الاثنين
كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} والمراد: مالك خازن النار
وقال الفراء: الخطاب لخزنة النار والزبانية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما تكون من ثلاثة نفر فجرى كلام الواحد على صاحبيه ويجوز أن يكون الخطاب للملكين الموكلين من قوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}
وقال أبو عثمان: لما ثنى الضمير استغنى عن أن يقول ألق ألق يشير إلى إرادة التأكيد اللفظي
وجعل المهدوي منه قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} قال: الخطاب لموسى وحده لأنه الداعي وقيل: لهما وكان هارون قد أمن على دعائه والمؤمن أحد الداعيين
السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد
كقوله تعالى: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي: ويا هارون وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفرد موسى عليه السلام بالنداء بمعنى التخصيص والتوقف إذا كان هو صاحب عظيم الرسالة وكريم الآيات وذكره ابن عطية
والثاني: لما كان هارون أفصح لسانا منه على ما نطق به القرآن ثبت عن جواب الخصم الألد ذكره صاحب الكشاف وانظر إلى الفرق بين الجوابين
ومثله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} قال ابن عطية: إنما أفرده بالشقاء من حيث كان المخاطب أولا والمقصود في الكلام وقيل: بل ذلك لأن الله جعل
الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال ويحتمل الإغضاء عن ذكر المرأة ولهذا قيل من الكرم ستر الحرم
وقوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ونحوه في وصف الاثنين بالجمع قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
وقال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ولم يقل: اختصما
وقال: {فَتَابَ عَلَيْهِ} ولم يقل: عليهما اكتفاء بالخبر عن أحدهما بالدلالة عليه
السابع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد
كقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ} الآية فجمع ثالثها والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ابن الأنباري: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}
وكذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فثنى في الأول ثم جمع ثم أفرد لأنه خوطب أولا موسى وهارون لأنهما المتبوعان ثم سيق الخطاب عاما
لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأنه واجب عليهم ثم خص موسى بالبشارة تعظيما له
الثامن عشر: خطاب عين والمراد غيره
كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الخطاب له والمراد المؤمنون لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تقيا وحاشاه من طاعة الكافرين والمنافقين والدليل على ذلك قوله في سياق الآية: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} بدليل قوله في صدر الآية بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}
ومنهم من أجراه على حقيقته وأوله قال أبو عمر الزاهد في الياقوتة: سمعت الإمامين ثعلب والمبرد يقولان: معنى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أي قل يا محمد: إن كنت في شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود إنهم أعلم به من أجل أنهم أصحاب كتاب
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قال ابن فورك: معناه وسع الله عنك على وجه الدعاء و{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} تغليظ على المنافقين وهو في الحقيقة عتاب راجع إليهم وإن كان في الظاهر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} قيل: إنه أمية وهو الذي تولى دون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ترى أنه لم يقل: "عبست"
وقوله: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
وبهذا يزول الإشكال المشهور في أنه كيف يصح خطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ثبوت عصمته عن ذلك كله؟ ويجاب أيضا بأن ذلك على سبيل الفرض والمحال يصح فرضه لغرض
والتحقيق أن هذا ونحوه من باب خطاب العام من غير قصد شخص معين والمعنى
اتفاق جميع الشرائع على ذلك ويستراح حينئذ من إيراد هذا السؤال من أصله
وعكس هذا أن يكون المراد عاما والمراد الرسول قوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} بدليل قوله في سياقها: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
وأما قوله في سورة الأنعام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فليس من هذا الباب
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التقدير: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في ألا تعلم أن الله لو شاء لجمعهم ويحتمل أن يهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده
ثم قال: ويظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وبين قوله عز وجل لنوح عليه السلام: {نِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وقد تقرر أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء
وقال مكي والمهدوي: الخطاب بقوله: { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته وهذا ضعيف ولا يقتضيه اللفظ
وقال قوم: وُقِّر نوح عليه السلام لسنه وشيبه
وقال قوم: جاء الحمل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقربه من الله ومكانته كما يحمل العاتب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب
قال: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمر من الله ووقع النبي عنهما والعقاب فيهما
التاسع عشر: خطاب الاعتبار
كقوله تعالى حاكيا عن صالح لما هلك قومه: { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} خاطبهم بعد هلاكهم إما لأنهم يسمعون ذلك كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل بدر وقال: "والله ما أنتم بأسمع منهم" وإما للاعتبار كقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا} وقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}
العشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره
كقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال للكفار: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} بدليل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}
قال ابن خالويه: في كتاب المبتدأ
الحادي والعشرون: خطاب التلوين
وسماه الثعلبي المتلون كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وتسميه أهل المعاني الالتفات وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى بأقسامه
الثاني والعشرون: خطاب الجمادات خطاب من يعقل
كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} تقديره: طائعة
وقيل: لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في {طَائِعِينَ} عليه كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
وقد اختلف -أن هذه المقالة حقيقة بأن جعل لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها أو مجازا بمعنى ظهر فيها من اختيار الطاعة والخضوع بمنزلة هذا القول- على قولين:
قال ابن عطية: والأول أحسن لأنه لاشيء يدفعه والعبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر
ومنه قوله تعالى: { ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} فأمرها كما تؤمر الواحدة المخاطبة المؤنثة لأن جميع مالا يعقل كذلك يؤمر
الثالث والعشرون: خطاب التهييج
كقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ولا يدل على أن من لم يتوكل ينتفي عنهم الإيمان بل حث لهم على التوكل
وقوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإنه سبحانه وصفهم بالإيمان عند الخطاب ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقصد حثهم على ترك الربا وأن المؤمنين حقهم أن يفعلوا ذلك
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
وهذا أحسن من قول من قال: "إِنْ" هاهنا بمعنى: "إذ"
الرابع والعشرون: خطاب الإغضاب
كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}
وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الخامس والعشرون: خطاب التشجيع والتحريض
وهو الحث على الاتصاف بالصفات الجميلة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وكفى بحث الله سبحانه تشجيعا على منازلة الأقران ومباشرة الطعان
وقوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ}
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وكيف لا يكون للقوم صبر والملك
الحق جل جلاله قد وعدهم بالمدد الكريم فقال: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}
وقد جاء في مقابلة هذا القسم ما يراد منه الآخذ بالحزم والتأني بالحرب والاستظهار عليها بالعدة كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
ونحو ذلك في الترغيب والترهيب ما جاء في قصص الأشقياء تحذيرا لما نزل من العذاب وإخبارا للسعداء فيما صاروا إليه من الثواب
السادس والعشرون: خطاب التنفير
كقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فقد جمعت هذه الآية أوصافا وتصويرا لما يناله المغتاب من عرض من يغتابه على أفظع وجه وفي ذلك محاسن كالاستفهام الذي معناه التقريع والتوبيخ وجعل ما هو الغاية في الكراهة موصولا بالمحبة وإسناد الفعل إلى {أَحَدُكُمْ} وفيه إشعار بأن أحدا لا يحب ذلك ولم يقتصر على تمثيل الاعتبار بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا ولم يقتصر على لحم الأخ حتى
جعله ميتا وهذه مبالغات عظيمة ومنها أن المغتاب غائب وهو لا يقدر على الدفع لما قيل فيه فهو كالميت
السابع والعشرون: خطاب التحنن والاستعطاف
كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
الثامن والعشرون: خطاب التحبيب
نحو: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ}
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ}
{يا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}
ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عباس يا عم رسول الله"
التاسع والعشرون: خطاب التعجيز
نحو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}
{فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}
وجعل منه بعضهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} ورد ابن عطية بان التعجيز يكون حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب وإنما معنى الآية: كونوا بالتوهم والتقدير كذا
الثلاثون: التحسير والتلهف
كقوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}
الحادي والثلاثون: التكذيب
نحو قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ}
الثاني والثلاثون: خطاب التشريف
وهو كل ما في القرآن العزيز مخاطبة بـ"قل" كالقلاقل
وكقوله: {قُلْ آمَنَّا} وهو تشريف منه سبحانه لهذه الأمة بأن يخاطبها
بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة إذ ليس من الفصيح أن يقول الرسول للمرسل إليه قال لي المرسل قل كذا وكذا ولأنه لا يمكن إسقاطها فدل على أن المراد بقاؤها ولا بدلها من فائدة فتكون أمرا من المتكلم للمتكلم بما يتكلم به أمره شفاها بلا واسطة كقولك لمن تخاطبه افعل كذا
الثالث والثلاثون: خطاب المعدوم
ويصح ذلك تبعا لموجود كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل من بعدهم وهو على نحو ما يجري من الوصايا في خطاب الإنسان لولده وولد ولده ما تناسلوا بتقوى الله وإتيان طاعته
قال الرماني في تفسيره: وإنما جاز خطاب المعدوم لأن الخطاب يكون بالإرادة للمخاطب دون غيره وأما قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} فعند الأشاعرة أن وجود العالم حصل بخطاب "كن"
وقالت الحنفية: التكوين أزلي قائم بذات البارئ سبحانه وهو تكوين لكل جزء من أجزاء العالم عند وجوده لا أنه يوجد عند كاف ونون
وذهب فخر الإسلام شمس الأئمة منهم إلى أن خطاب كن موجود عند إيجاد كل شيء فالحاصل عندهم في إيجاد الشيء شيئان: الإيجاد وخطاب كن
واحتج الأشاعرة بظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولو حصل وجود العلم بالتكوين لم يكن في خطاب كن فائدة عند الإيجاد وأجاب الحنفية بأنا نقول لموجها ولا تستقل بالفائدة كالمتشابه فيقول بوجود خطاب كن عند الإيجاد في غير تشبيه ولا تعطيل
النوع الثالث والأربعون: في بيان حقيقته ومجازه
لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق وهي كل كلام بقي على موضوعه كالآيات التي لم يتجوز فهيا والآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله تعالى وتوحيده وتنزيهه والداعية إلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الآية وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
وقوله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}
قيل: ومنه الآيات التي لم تنسخ وهي كالآيات المحكمات والآيات المشتملة
ولا تقديم فيه ولا تأخير كقول القائل: أحمد الله على نعمائه وإحسانه وهذا أكثر الكلام قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وأكثر ما يأتي من الآي على هذا
وأما المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن والجمهور على الوقوع وأنكره جماعه منهم ابن القاص من الشافعية وابن خويز منداذ من المالكية وحكي عن داود الظاهري وابنه وأبي مسلم الأصبهاني
وشبهتهم أن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير وهو مستحيل على الله سبحانه
وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن
وقد أفرده بالتصنيف الإمام أبو محمد بن عبد السلام وجمع فأوعى
وأما معناه فقال الحاتمي: معناه طريق القول ومأخذه مصدر جزت مجازا كما يقال: "قمت مقاما"
قال الأصمعي: كلام العرب إنما هو مثال شبه الوحي
نوعا المجاز
وله سببان: أحدهما: الشبه ويسمى المجاز اللغوي وهو الذي يتكلم فيه الأصولي والثاني: الملابسة وهذا هو الذي يتكلم فيه أهل اللسان ويسمى المجاز العقلي وهو أن تسند الكلمة إلى غير ما هي له أصالة بضرب من التأويل كسب زيد أباه إذا كان سببا فيه
المجاز في المركب وأقسامه
والأول مجاز في المفرد وهذا مجاز في المركب
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ونسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها
وكذا قوله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} والفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الأمر به
وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} نسب النزع الذي هو فعل الله إلى إبليس
-لعنه الله- لأن سببه أكل الشجرة وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين
وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} جعل التجارة الرابحة
وقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} لأن الأمر هو المعزوم عليه بدليل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} فنسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر
وقوله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه
وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}
وقوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}
وقد يقال إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما فالمجاز إفرادي لا إسنادي
وقوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} يحتمل معناه: يجعل هوله فهو من مجاز الحذف
وأما قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فقيل: على النسب أي: ذات رضا وقيل: بمعنى مرضية وكلاهما مجاز إفراد لا مجاز إسناد لأن المجاز في لفظ راضية لا في إسنادها ولكنهم كأنهم قدروا أنهم قالوا: رضيت عيشته فقالوا: عيشة راضية
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما طرفاه حقيقتان نحو: أنبت المطر البقل وقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}
والثاني: مجازيان نحو: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}
والثالث : ما كان أحد طرفيه مجازا دون الآخر كقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ}
قال بعضهم: ومن شرط هذا المجاز أن يكون للمسند إليه شبه بالمتروك في تعلقه بالعامل
المجاز الإفرادي وأقسامه
وأنواع الإفرادي في القرآن كثير يعجز العد عن إحصائها
كقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. تَدْعُو} قال: الدعاء من النار مجاز
وكقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} الآية والسلطان هنا هو البرهان أي برهان يستدلون به فيكون صامتا ناطقا كالدلائل المخبرة والعبرة والموعظة
وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فاسم الأم الهاوية مجاز أي كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له كذلك أيضا النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع
وقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} {قُتِلَ الإِِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} والفعل في هذه المواضع مجاز أيضا لأنه بمعنى أبعده الله وأذله وقيل قهره وغلبه وهو كثير فلنذكر أنواعه لتكون ضوابط لبقية الآيات الشريفة
الأول: إيقاع المسبب موقع السبب
كقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} وإنما نزل سببه وهو الماء وكقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ولم يقل: "كما فتن أبويكم" لأن الخروج من الجنة هو المسبب الناشئ عن الفتنة فأوقع المسبب موقع السبب أي لا تفتتنوا بفتنة الشيطان فأقيم فيه السبب مقام المسبب وهو سبب خاص فإذا عدم فيعدم المسبب فالنهي في الحقيقة لبني آدم والمقصود عدم وقوع هذا الفعل منهم فلما أخرج السبب من أن يوجد بإيراد النهي عليه كان أدل على امتناع النهي بطريق الأولى
وقوله تعالى: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} وهم لم يدعوه إلى النار إنما دعوه إلى الكفر بدليل قوله: {تَدْعُونَنِي ِلأَكْفُرَ بِاللَّهِ} لكن لما كانت النار مسببة عنه أطلقها عليه
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي : العناد المستلزم للنار
وقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} لاستلزام أموال اليتامى إياها
وقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} إنما أراد -والله أعلم- الشيء الذي ينكح به من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه
وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي: لا تأكلوها بالسبب الباطل الذي هو القمار وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: عبادة الأصنام لأن العذاب مسبب عنها
وقوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي: وأغلظوا عليهم ليجدوا ذلك وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على انه المقصود لذاته وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته بل لتجدوه
الثاني: عكسه وهو إيقاع السبب موقع المسبب
كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
سمى الجزاء الذي هو السبب سيئة واعتداء فسمى الشيء باسم سببه وإن عبرت السيئة عما ساء أي أحزن لم يكن من هذا الباب لأن الإساءة تحزن في الحقيقة كالجناية
ومنه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سبب لها
ومنه قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} إنما جعلت المرأتان للتذكير إذا وقع الضلال لا ليقع الضلال فلما كان الضلال سببا للتذكير أقيم مقامه
ومنه إطلاق اسم الكتاب على الحفظ أي المكتوب فإن الكتابة سبب له كقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي: سنحفظه حتى نجازيهم عليه
ومنه إطلاق اسم السمع على القبول كقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي: ما كانوا يستطيعون قبول ذلك والعمل به لأن قبول الشيء مرتب على سماعه ومسبب عنه ويجوز أن يكون نفى السمع لابتغاء فائدته ومنه قول الشاعر:
وإن حلفت لا ينقض النَّأْيُ عَهْدَهَا
فليس لمخضوب البَنَاِن يَمِيْنُ
أي: وفاء يمين
ومنه إطلاق الإيمان على ما نشأ عنه من الطاعة كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي: أفتعلمون ببعض التوراة وهو فداء الأسارى وتتركون العمل ببعض وهو قتل إخوانهم وإخراجهم من ديارهم
وجعل الشيخ عز الدين من الأنواع نسبة الفعل إلى سبب سببه كقوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي: كما أخرج أبويكم فلا يخرجنكما من الجنة: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} المخرج والنازع في الحقيقة هو الله عز وجل وسبب ذلك أكل الشجرة وسبب أكل الشجرة وسوسة الشيطان ومقاسمته على أنه من الناصحين وقد مثل البيانيون بهذه الآية للسبب وإنما هي لسبب السبب
وقوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار نسب ذلك إليهم لأنهم أمروهم به فالله هو المحل لدار البوار وسبب إحلالها كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر الموجب لحلول النار
الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء
قال تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} أي: أناملهم وحكمة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى أنهم يدخلون أناملهم في آذانهم بغير المعتاد فرارا من الشدة فكأنهم جعلوا الأصابع
وقال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} واليد حقيقة إلى المنكب هذا إن جعلنا "إلى" بمعنى "مع" ولا يجب غسل جميع الوجه إذا ستره بعض الشعور الكثيفة
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} والمراد هو البعض الذي هو الرسغ
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} أي: من لم يذق
وقوله: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} والمراد: وجوههم لأنه لم ير جملتهم
ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} استشكله الإمام في تفسيره من جهة أن الجزاء إنما يكون بعد تمام الشرط والشرط أن يشهد الشهر وهو اسم لثلاثين يوما وحاصل جوابه أنه أوقع الشهر وأراد جزءا منه وإرادة الكل باسم الجزء مجاز شهير
ونقل عن علي رضي الله عنه أن المعنى: من شهد أول الشهر فليصم جميعه وأن الشخص متى كان مقيما أو في البر ثم سافر يجب عليه صوم الجميع والجمهور على أن هذا عام مخصص بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية ويتفرع على هذا أن من أدرك الجزء الأخير من رمضان هل يلزمه صوم ما سبق إن كان مجنونا في أوله؟ فيه قولان
الرابع: إطلاق اسم الجزء على الكل
كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} أي: ذاته ويبقى وجه ربك
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يريد الأجساد لأن العمل والنصب من صفاتها وأما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} فيجوز أن يكون من هذا عبر بالوجوه عن الرجال ويجوز أن يكون من وصف البعض بصفة الكل لأن التنعم منسوب إلى جميع الجسد
ومنه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} فالوجه المراد به جميع ما تقع به المواجهة لا الوجه وحده
وقد اختلف في تأويل "الوجه" الذي جاء مضافا إلى الله في مواضع من القرآن فنقل ابن عطية عن الحذاق أنه راجع إلى الوجود والعبارة عنه بالوجه مجاز إذ هو أظهر الأعضاء في المشاهدة وأجلها قدرا وقيل -وهو الصواب-: هي صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات الله تعالى وضعفه إمام الحرمين وأما قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فالمراد الجهة التي وجهنا إليها في القبلة وقيل: المراد به الجاه أي فثم جلال الله وعظمته
وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} تجوز بذلك عن الجملة
وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} البنان الإصبع تجوز بها عن الأيدي
والأرجل عكس قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ}
وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
وقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} عبر بالأنف عن الوجه {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
وكقوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أضاف الإثم إلى القلب وإن كانت الجملة كلها آثمة من حيث كان محلا لاعتقاد الإثم والبر كما نسبت الكتابة إلى اليد من حيث إنها تفعل بها في قوله تعالى: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} وإن كانت الجملة كلها كاتبة ولهذا قال: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
وكذا قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقيل: المعنى على حذف المضاف لأن المدرك هو الجملة دون الحاسة فأسند الإدراك إلى الأبصار لأنه بها يكون
وكقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي: إياه
{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وحكى ابن فارس عن جماعة أن "من" هنا للتبعيض لأنهم أمروا بالغض عما يحرم النظر إليه
وقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} أي: صل في الليل لأن القيام بعض الصلاة
وكقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} أي: صلاة الفجر
ومنه: "المسجد الحرام" والمراد: جميع الحرم
وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: المصلين
{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} أي: الوجوه
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فعبر بالأرض والسماء عن العالم لأن المقام مقام الوعيد والوعيد إنما لو بين أن الله لا يخفى عليه أحوال العباد حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض بل من العالم فيكون المراد بالسماء والأرض العالم إطلاقا للجزء على الكل
وقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} قال الفارسي: جعله على المجاز أذنا لأجل إصغائه قال: ولو صغرت أذنا في هذه الآية كان في لحاق تاء فيها وتركها نظر
وجعل الإمام فخر الدين قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} المراد به: جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط بدليل قوله: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة قال: وكذلك المسجد الحرام في قوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} والمراد: منعهم من الحج وحضور مواضع النسك
وقيل في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي: نجعلها صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوها من الأعمال التي يستعان فيها بالأصابع قالوا وذكرت البنان لأنه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها
وجوز أبو عبيدة ورود البعض وإرادة الكل وخرج عليه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي: كله وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وأنشد بيت لبيد:
تَرَّاُكُ أَمْكِنَةٍ إذا لم أَرْضَها
أو يَعْتَلِقْ بعضَ النفوس حِمَامُها
قال: والموت لا يعتلق بعض النفوس دون البعض ويقال للمنية: عَلُوق وعُلاقة انتهى
وهذا الذي قال فيه أمران:
أحدها: أنه ظن أن النبي يجب عليه أن يبين في شريعته جميع ما اختلفوا فيه وليس كذلك بدليل سؤالهم عن الساعة وعن الروح وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله وأما الآية
الأخرى فقال ثعلب: إنه كان وعدهم بشيء من العذاب عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فقال: يصبكم هذا العذاب في الدنيا -وهو بعض الوعيد- من غير نفي عذاب الآخرة
الثاني: أنه أخطأ في فهم البيت وإنما مراد الشاعر ببعض النفوس نفسه هو لأنها بعض النفوس حقيقة ومعنى البيت: أنا إذا لم أرض الأمكنة أتركها إلى أن أموت أي إذا تركت شيئا لا أعود إليه إلى أن أموت كقول الآخر:
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَدْ
إليه بوجهٍ آخر الدهر تَرْجِعُ
وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة فيدخل فيه قول المازني في مسألة العَلْقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له وأشار الزمخشري بذلك إلى أن أبا عبيدة قال للمازني: ما أكذب النحويين! فقلت له: لم قلت ذلك؟ قال: يقولون: هاء التأنيث تدخل على ألف التأنيث وإن الألف التي في علقى ملحقة ليست للتأنيث قال: فقلت له: وما أنكرت من ذلك؟ قال: سمعت رؤبة ينشد:
فَحَطَّ في عَلْقى وفي مُكُور
فلم ينونها فقلت: ما واحد العلقى فقال: علقاة قال المازني: فأسفت ولم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا!
قلت: ويحتمل قوله يصبكم بعض الذي يعدكم أن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه فكيف بعضه! ويدل قوله في آخر هذه السورة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} وفيها تأييد لكلام ثعلب أيضا
وقد يوصف البعض كقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} وقوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} الخطأ صفة الكل فوصف به الناصية وأما الكاذبة فصفة اللسان
وقد يوصف الكل بصفة البعض كقوله: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} والوجل صفة القلب
وقوله: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} والرعب إنما يكون في القلب
الخامس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم
كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: أنزلنا برهانا يستدلون به وهو يدلهم سمي الدلالة كلاما لأنها من لوازم الكلام
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} فإن الأصل "عمى" لقوله في موضع آخر: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لكن أتى بالظلمات لأنها من لوازم العمى
فإن قيل: ما الحكمة في دخول الواو هنا وفي التعبير بالظلمات عن العمى بخلافه في الآية الأخرى
السادس: إطلاق اسم اللازم على الملزوم
كقوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: المصلين
السابع: إطلاق اسم المطلق على المقيد
كقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} والعاقر لها من قوم صالح قُدَار لكنه لما رضوا بالفعل نزلوا منزلة الفاعل
الثامن: عكسه
كقوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والمراد: كلمة الشهادة وهي عدة كلمات
التاسع: إطلاق اسم الخاص وإرادة العام
كقوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: رسله
وقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أي: الأعداء
{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: الذين
وقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي: كل نفس
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي: كل سيئة
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
العاشر: إطلاق اسم العام وإرادة الخاص
كقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي: للمؤمنين بدليل قوله في موضع آخر: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ولما خفي هذا على بعضهم زعم أن الأولى منسوخة بالثانية
وكقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: أهل طاعته لا الناس أجمعون حكاه الواحدي عن ابن عباس وغيره واختاره الفراء
وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قيل: المراد بالناس هنا نوح ومن معه في السفينة وقيل: آدم وحواء
وقوله: {وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانه ولا يصح العموم
لأنه إذا فضل أحدهم على العالمين فقد فضل على سائرهم لأنه من العالمين فإذا فضل الآخرين على العالمين فقد فضلهم أيضا على الأول لأنه من العالمين فيصير الفاضل مفضولا ولا يصح
وقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي: شيء يحكم عليه بالذهاب بدليل قوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}
وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مع أنها لم تؤت لحية ولا ذكرا
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كل شيء أحبوه
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي: مما ظنه وقدره
وقوله حكاية عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وعن موسى {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يرد الكل لأن الأنبياء قبله ما كانوا مسلمين ولا مؤمنين
وقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ولم يعن كل الشعراء
وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي: أخوان فصاعدا وقوله: {وََادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} أي: بابا من أبوابها قاله المفسرون
وقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} وإنما قاله فريق منهم {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} وأراد الآيات التي إذا كذب بها نزل العذاب على المكذب
وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي: من المؤمنين
وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} والمراد: بعضهم فإن منهم أفاضل المسلمين والصديق وعليا رضي الله عنهما
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فإن {النَّاسَ} الأولى لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ النَّاسَ} ولأن {الَّذِينَ} من {النَّاسَ} فلا يكون الثاني مستغرقا ضرورة خروج {الَّذِينَ} منهم لأنهم لم يقولوا لأنفسهم
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والمراد: شهران وبعض الثالث
الحادي عشر: إطلاق الجمع وإرادة المثنى
كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أطلق اسم القلوب على القلبين
الثاني عشر: النقصان
ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها
وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي: على لسان رسلك
وقال: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي: أنصار دين الله
وقال: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حبه
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه قالوا: وإنما يحسن الحذف إذا كان فيه زيادة مبالغة والمحذوفات في القرآن على هذا النمط وسيأتي الإشباع فيه وفي شروطه إن شاء الله تعالى وذهب المحققون إلى أن حذف المضاف ليس من المجاز لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له ولأن الكلمة المحذوفة ليست كذلك وإنما التجوز في أن ينسب إلى المضاف إليه ما كان منسوبا إلى المضاف كالأمثلة السابقة
الثاني عشر: الزيادة
كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ذكره الأصوليون
وللنحويين فيها قولان:
أحدهما: أن مثل زائدة والتقدير: ليس كهو شيء
والثاني -وهو المشهور-: أن الكاف هي الزائدة وأن مثل خبر ليس ولا خفاء أن القول بزيادة الحرف أسهل من القول بزيادة الاسم
وممن قال به ابن جني والسيرافي وغيرهما فقالوا: المعنى ليس مثله شيء والكاف زائدة وإلا لاستحال الكلام لأنها لو لم تكن زائدة كانت بمعنى مثل وإن كانت حرفا فيكون التقدير: ليس مثل مثله شيء وإذا قدر هذا التقدير ثبت له مثل ونفي الشبه عن مثله وهذا محال من وجهين:
أحدهما: أن الله عز وجل لا مثل له
والثاني: أن نفس اللفظ به محال في حق كل أحد وذلك أنا لو قلنا: ليس مثل مثل زيد لاستحال ذلك لأن فيه إثبات أن لزيد مثلا وذلك يستلزم جعل زيد مثلا له لأن ما ماثل الشيء فقد ماثله ذلك الشيء وغير جائز أن يكون زيد مثلا لعمرو وعمرو ليس مثلا لزيد فإذا نفينا المثل عن مثل زيد وزيد هو مثل مثله فقد اختلفنا ولأنه يلزم منه التناقص على تقدير إثبات المثل لأن مثل المثل لا يصح نفيه ضرورة كونه مثلا لشيء وهو مثل له
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم لزوم إثبات المثل غاية ما فيه نفي مثل مثل الله وذلك يستلزم ألا يكون له مثل أصلا ضرورة أن مثل كل شيء فذلك الشيء مثله فإذا انتفى عن شيء أن يكون مثل عمرو انتفى عن عمرو أن يكون مثله
وأما الثاني: فهو مبني على أن هذه العبارات يلزم منها إثبات المثل ونحن قد منعناه بل أحلناه من العبارة وقيل: ليست زائدة إما لاعتبار جواز سلب الشيء عن المعدوم كما تسلب الكتابة عن زيد وهو معدوم أو يحمل المثل على المثل أي الصفة كقوله تعال: ى{مَثَلُ الْجَنَّةِ} أي: صفتها فالتقدير: ليست كصفته شيء
وبهذين التقديرين يحصل التخلص عن لزوم إثبات مثل وإن لم تكن زائدة
وأما القائلون بأن الزائد مثل وإلا لزم إثبات المثل ففيه نظر لاستلزام تقدير دخول الكاف على الضمير وهو ضعيف لا يجيء إلا في الشعر وقد ذكرنا ما يخلص من لزوم إثبات المثل
وقيل: المراد الذات والعين كقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} وقول امرئ القيس:
*على مثل ليلى يقتل المرء نفسه*
فالكاف على بابها وليس كذاك بل المراد حقيقة المثل ليكون نفيا عن الذات بطريق برهاني كسائر الكنايات ثم لا يشترط على هذا أن يكون لتلك الذات الممدوحة مثل في الخارج حصل النفي عنه بل هو من باب التخييل في الاستعارة التي يتكلم فيها البياني
فإن قيل: إنما يكون هذا نفيا عن الذات بطريق برهاني أن لو كانت المماثلة تستدعي المساواة في الصفات الذاتية وغيرها من الأفعال فان اتفاق الشخصيتين بالذاتيات لا يستلزم اتحاد أفعالهما
قيل: ليس المراد بالمثل هنا المصطلح عليه في العلوم العقلية بل المراد من هو مثل حاله في الصفات المناسبة لما سيق الكلام له وليس المراد من هو مثل في كل شيء لأن لفظة مثل لا تستدعي المشابهة من كل وجه وقال الكواشي: يجوز أن يقال: إن الكاف ومثل ليسا زائدتين بل يكون التمثيل هنا على سبيل الفرض كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وتقدير الكلام: لو فرضنا له مثلا لامتنع أن يشبه ذلك المثل المفروض شيء وهذا أبلغ في نفي المماثلة
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} فقيل: إن ما فيه مصدرية وهذا فيه نظر لأن ما لو كانت مصدرية لم يعد إليها من الصلة ضمير وهو الهاء في به لأن الضمير لا يعود على الحروف ولا يعتبر اسما إلا بالصلة والاسم لا يعود عليه ما هو صفته إذ لا يحتاج في ذلك إلى ربط وجوابه أن تكون ما موصولة صلتها {آمَنْتُمْ بِهِ} وقيل: مزيدة والتقدير: فان آمنوا بالذي آمنتم به أي بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما جاء به الأنبياء
وقيل: إن مثلا صفة لمحذوف تقديره: فإن آمنوا بشيء مثل ما آمنتم به وفيه نظر لأن ما آمنوا به ليس له مثل حتى يؤمنوا بذلك المثل
وحكى الواحدي عن أكثر المفسرين في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أن الوجه صلة والمعنى: فثم الله يعلم ويرى قال: والوجه قد ورد صلة مع اسم الله كثيرا كقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}
قلت: والأشبه حمله على أن المراد به الذات كما في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وهو أولى من دعوى الزيادة
ومن الزيادة دعوى أبي عبيدة {يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أن "إذ" زائدة
وقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
وقوله: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وقد سبق
الرابع عشر: تسمية الشيء بما يؤول إليه
كقوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي صائرا إلى الفجور والكفر
وقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} أي: لأن الذي تأكل الطير منه إنما هو البر لا الخبز ولم يذكر العلماء هذا من جملة الأمثلة إنما اقتصروا في التمثيل
على قوله: {أَعْصِرُ خَمْراً} أي: عنبا فعبر عنه لأنه آيل إلى الخمرية وقيل: لا مجاز فيه فان الخمر العنب بعينه لغة لأزد عمان نقله الفارسي في التذكرة عن غريب القرآن لابن دريد
وقيل: اكتفي بالمسبب الذي هو الخمر عن السبب الذي هو العنب قاله ابن جني في الخصائص
وقيل: ولا مجاز في الاسم بل في الفعل وهو {أَعْصِرُ} فإنه أطلق وأريد به استخرج وإليه ذهب ابن عزيز في غريبه
وقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} سماه زوجا لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال كونه زوجا
وقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم
تنبيه: ليس هذا من الحال المقدرة كما يتبادر إلى الذهن لأن الذي يقترن بالفاعل أو المفعول إنما هو تقدير ذلك وإرادته فيكون المعنى في قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} مقدار ضحكه
وكذا قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} على قول أبي علي وهذا حمل منه للخرور على ابتدائه وان حمله على انتهائه كانت الحال الملفوظ بها ناجزة غير مقدرة
وكذلك قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ادخلوها مقدرين الخلود فيها فإن من دخل مدخلا كريما مقدرا ألا يخرج منه أبدا كان ذلك أتم لسروره ونعيمه ولو توهم انقطاعه لتنغص عليه النعيم الناجز مما يتوهمه من الانقطاع اللاحق
الخامس عشر: تسمية الشيء بما كان عليه
كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي: الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ وقيل: بل هم يتامى حقيقة وأما حديث: "لا يتم بعد احتلام" فهو من تعليم الشرع لا اللغة وهو غريب
وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وإذا متن لم يكن أزواجا فسماهن بذلك لأنهن كن أزواجا وقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي: الذين كانوا أزواجهن
وكذلك: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} لانقطاع الزوجية بالموت
وقوله: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام
وقوله: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ولكن ما رد عليهم مالهم وإنما كانوا قد اشتروا بها الميرة فجعلها يوسف في متاعهم وهي له دونهم فنسبها الله إليهم بمعنى أنها كانت لهم
السادس عشر: إطلاق اسم المحل على الحال
كقوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}
وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: نساؤه بدليل قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}
وكالتعبير باليد عن القدرة كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ونحوه
والتعبير بالقلب عن الفعل كقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} أي: عقول
وبالأفواه عن الألسن كقوله: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ}
وإطلاق الألسن على اللغات كقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
والتعبير بالقرية عن ساكنها نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
السابع عشر: إطلاق اسم الحال على المحل
كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: في الجنة لأنها محل الرحمة
وقوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: في الليل
وقال الحسن في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} أي: في عينك واستبعده الزمخشري وقدر: يعني في رؤياك
وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وصف البلد بالأمن وهو صفة لأهله ومثله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}
وقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} وصفها بالطيب وهو صفة لهوائها
وقد اجتمع هذا والذي قبله في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وذلك لأن أخذ الزينة غير ممكن لأنها مصدر فيكون المراد محل الزينة ولا يجب أخذ الزينة للمسجد نفسه فيكون المراد بالمسجد الصلاة فأطلق اسم المحل على الحال وفي الزينة بالعكس
الثامن عشر: إطلاق اسم آلة الشيء عليه
كقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أي: ذكرا حسنا
أطلق اللسان وعبر به عن الذكر لأن اللسان آية للذكر
وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا لما كانت العين آلة الرؤية وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: بلغة قومه
التاسع عشر: إطلاق اسم الضدين على الآخر
كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وهي من المبتدئ سيئة ومن الله حسنة فحمل اللفظ على اللفظ
وعكسه: {هَلْ جَزَاءُ الإِِحْسَانِ إِلاَّ الإِِحْسَانُ} سمي الأول إحسانا لأنه مقابل لجزائه وهو الإحسان والأول طاعة كأنه قال: هل جزاء الطاعة إلا الثواب!
وكذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} حمل اللفظ على اللفظ فخرج الانتقام بلفظ الذنب لأن الله لا يمكر
وأما قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فهو وإن لم يتقدم ذكر مكرهم في اللفظ لكن تقدم في سياق الآية قبله ما يصير إلى مكر والمقابلة لا يشترط فيها ذكر المقابل لفظا بل هو أو ما في معناه
وكذلك قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لما قال: بشر هؤلاء بالجنة قال: بشر هؤلاء بالعذاب والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر
وقوله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} والفعل الثاني ليس بسخرية
العشرون: تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه
لما بينهما من التعلق ذكره السكاكي وخرج عليه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} يعني: ما دعاك ألا تسجد؟ واعتصم بذلك في عدم زيادة "لا"
وقيل: معناه ما حماك في ألا تسجد أي من العقوبة أي ما جعلك في منعه من عقوبة ترك السجود
وهذا لا يصح أما الأول: فلم يثبت في اللغة وأما الثاني: فكأن تركيبه ما يمنعك سؤالا عما يمنعه لا بلفظ الماضي لأنه لا تخويف بماض
ويجاب بأن المخالفة تقتضي الأمنة كأنه قيل: ما أمنك حتى خالفت! بيانا لاغتراره وعدم رشده وأنه إنما خالف وحاله حال من امتنع بقوته من عذاب ربه فكني عنه بما منعك تهكما لا أنه امتنع حقيقة وإنما جسر جسارة من هو في منعه
ورد أيضا بأنه أجاب {أَنَا خَيْرٌ} وهو لا يصلح جوابا إلا لترك السجود
وأجيب بأنه لم يجب ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه
الحادي والعشرون: إقامة صيغة مقام أخرى
وله صور:
فمنه: فاعل بمعنى مفعول كقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: لا معصوم
وقوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق
و{فِي عِيشَةٍ} أي: مرضية بها وقيل على النسب أي: ذات رضا وهو مجاز إفراد لا تركيب
وقوله: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} أي: مأمونا
وعكسه: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي: آتيا
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {حِجَاباً مَسْتُوراً} أي: ساترا وحكى الهروي في الغريب عن أصل اللغة وتأويل الحجاب الطبع
وقال السهيلي: الصحيح أنه على بابه أي مستورا عن العيون ولا يحس به أحد
والمعنى: مستور عنك وعنهم كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}
وقال الجوهري: أي حجابا على حجاب والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا
قال أبو الفتح في كتابه هذا الفد: وسألته -يعني الفارسي- إذا جعلت فاعلا بمعنى مفعول فعلام ترفع الضمير الذي فيه؟ أعلى حد ارتفاع الضمير في اسم الفاعل أم اسم المفعول؟ فقال: إن كان بمعنى مفعول ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم الفاعل وإن جاء على لفظ اسم الفاعل
ومنه "فعيل" بمعنى "مفعول" كقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي: مظهورا فيه ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه
أما نحو: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فقال بعض النحويين: إنه بمعنى مؤلم ورده النحاس بأن مؤلما يجوز أن يكون قد آلم ثم زال وأليم أبلغ لأنه يدل على الملازمة قال: ولهذا منع النحويون إلا سيبويه أن يعدى فعيل
ومنه مجيء المصدر على فعول كقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وقوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} فإنه ليس المراد
الجمع هنا بل المراد: لا نريد منكم شكرا أصلا وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في نفي الأنواع
وزعم السهيلي أنه جمع شكر وليس كذلك لفوات هذا المعنى
ومنها: إقامة الفاعل مقام المصدر نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: تكذيب وإقامة المفعول مقام المصدر نحو: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي: الفتنة
ومنه وصف الشيء بالمصدر كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} قالوا: إنما وحده لأنه في معنى المصدر كأنه قال: فإنهم عداوة
ومجيء المصدر بمعنى المفعول كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلومه
وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من العلوم
وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} أي: مصنوعه
وقوله: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: مترحم قاله الفارسي
وكذا قوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: مقوى به ألا ترى أنه أراد منهم زبر الحديد والنفخ عليها
وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي: مظلوما فيه
وقوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: مكذوب فيه وإلا لو كان على ظاهره لأشكل لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام وقال الفراء: يجوز في النحو بدم كذبا بالنصب على المصدر لأن {جَاءُوا} فيه معنى: "كذبوا كذبا" كما قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} لأن العاديات بمعنى الضابحات
وعكسه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}
ومنه: فعيل بمعنى الجمع كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وقوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً}
وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}
وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا وأنه لا يجيء ذلك في المثنى ويرده قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فإنه نقل الواحدي عن المبرد وابن عطية عن الفراء أن {قَعِيدٌ} أسند لهما
وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع وإن أريد معناه لنكتة كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فإن سبب النزول وهو قول أبي جهل: نحن ننتصر اليوم يقضي بإعراب منتصر خبرا
ومنه: إطلاق الخبر وإرادة الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي: ليرضع الوالدات أولادهن
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي: تتربص المتوفى عنها
وقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} والمعنى: ازرعوا سبع سنين بدليل قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}
وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} معناه: آمنوا وجاهدوا ولذلك أجيب بالجزم في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ} ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان على مجرد الدلالة قاله أبو البقاء والشيخ عز الدين
والتحقيق ما قاله النبلي: أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها والتجارة هي الإيمان ولذلك فسرها بقوله: {تُؤْمِنُونَ} فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان فالدلالة سبب الإيمان والإيمان سبب الغفران وسبب السبب سبب وهذا النوع فيه تأكيد وهو من مجاز التشبيه شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لابد
من وقوعه وإذا شبهة بالخبر الماضي كان آكد
ومنه: عكسه كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} والتقدير: مده الرحمن مدا
وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي: نحمل
قال الكواشي: والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم كذا قال الشيخ عز الدين مقصوده تأكيد الخبر لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبر في إيجابه
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قال: {كُنْ} لفظه أمر والمراد الخبر والتقدير: يكون فيكون أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فهو يكون قال: ولهذا أجمع القراء على رفع {فَيَكُونُ} ورفضوا فيه النصب إلا ما روي عن ابن عامر وسوغ النصب لكونه بصيغة الأمر قال: ولا يجوز أن يكون معطوفا على {نَقُولَ} فيجيء النصب على الفعل المنصوب لأن ذلك لا يطرد بدليل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور لأن {قَالَ} ماض
و{يكُونُ} مضارعا فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما
قلت: وهذا الذي قاله الفارسي ضعيف مخالف لقواعد أهل السنة
ومنه: إطلاق الخبر وإرادة النهي كقوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ومعناه: لا تعبدوا
وقوله: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تسفكوا ولا تخرجوا
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} أي: ولا تنفقوا
الثاني والعشرون: إطلاق الأمر وإرادة التهديد والتلوين وغير ذلك من المعاني الستة عشر وما زيد عليها من أنواع المجاز ولم يذكروه هنا في أقسامه
الثالث والعشرون: إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل له في الحقيقة
إما على التشبيه كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فإنه شبه ميله للوقوع بشبه المريد له
وإما لأنه وقع فيه ذلك الفعل كقوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} فالغلبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فأضاف الغلب إليهم وإنما كان كذلك لأن الغلب وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم
ومثله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال وهو في الحقيقة لصاحبهما
ومثله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي: مقامه بين يدي
وإما لوقوعه فيه كقوله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}
وإما لأنه سببه كقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} كما تقدم في أمثلة المجاز العقلي
وقد يقال: إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما فالمجاز إفرادي لا إسنادي
وقوله تعالى: {وْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} أي: يجعل هو له فهو من مجاز الحذف
الرابع والعشرون إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته
كقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي: قاربن بلوغ الأجل أي انقضاء العدة لأن الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة فيكون بلوغ الأجل تمامه
كقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي: أتمن العدة وأردن مراجعة الأزواج ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة لأنها بيد الزوج ولو كان الطلاق غير رجعي لم يكن للولي أيضا عليها حكم قبل تمام العدة ولا تسمى عاضلا حتى يمنعها تمام العدة من المراجعة
ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ} المعنى: قارب وبه يندفع السؤال المشهور فيها إن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: قارب حضور الموت
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ. فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها
ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها وذلك على أن يكون: يرونه فلا يظنونه عذابا {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} ولا يظنونه واقعا بهم وحينئذ فيكون أخذه لهم بغتة بعد رؤيته
ومن دقيق هذا النوع قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} المراد: قارب النداء لا أوقع النداء لدخول الفاء في فقال فإنه لو وقع النداء لسقطت وكان ما ذكر
تفسيرا للنداء كقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ} وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً. قَالَ رَبِّ} لما فسر النداء سقطت الفاء
وذكر النجاة أن هذه الفاء تفسيريه لأنها عطفت مفسرا على مجمل كقوله: توضأ فغسل وجهه وفائدته ذلك أن نوحا عليه السلام أراد ذلك فرد القصد إليه ولم يقع لا عن قصد
ومنه قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} أي: وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا وإنما أول الترك بمشارفة الترك لأن الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك لأنهم بعد أموات
وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} أي: إذا أردت
وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} أي: إذا أردتم لأن الإرادة سبب القيام
{إِذَا قَضَى أَمْراً} أي: أراد
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} أي: أردت الحكم
ومثله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ}
{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي أردتم مناجاته
{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}
وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قال ابن عباس: من يرد الله هدايته ولقد أحسن رضي الله عنه لئلا يتحد الشرط والجزاء
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} أي: أردتم القول
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} أي: أرادوا الإنفاق
وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} لأن الإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس وإنما خص هذين الوقتين -أعني البيات والقيلولة- لأنها وقت الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع
وقوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: أردنا إهلاكها
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ} أي: فأردنا الانتقام منهم وحكمته أنا إذا أردنا أمرا نقدر فيه إرادتنا وإن كان خارقا للعادة
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} أي: أردت جدالنا وشرعت فيه وكان الموجب لهذا التقدير خوف التكرار لأن جادلت فاعلت وهو يعطي التكرار أو أن المعنى لم ترد منا غير الجدال له لا النصيحة
قلت: وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته وقصده إليه كما عبر بالفعل من القدرة على الفعل في قولهم الإنسان لا يطير والأعمى
لا يبصر أي لا يقدر على الطيران والإبصار وإنما حمل على ذلك دون الحمل على ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء واحد والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس يتوضأ ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصلاة وفساده بين
الخامس والعشرون: إطلاق الأمر بالشيء للتلبس به والمراد دوامه
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} هكذا أجاب به الزمخشري وغيره وأصل السؤال غير وارد لأن الأمر لا يتعلق بالماضي ولا بالحال وإنما يتعلق بالمستقبل المعدوم حالة توجه الخطاب فليس ذلك تحصيلا للحاصل بل تحصيلا للمعدوم فلا فرق بين أن يكون المخاطب حالة الخطاب على ذلك الفعل أم لا لأن الذي هو عليه عند الخطاب مثل المأمور به لا نفس المأمور به والحاصل أن الكل مأمور بالإنشاء فالمؤمن ينشئ ما سبق له أمثاله والكافر ينشئ ما لم يسبق منه أمثاله
السادس والعشرون: إطلاق اسم البشرى على المبشر به
كقوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} قال أبو علي الفارسي: التقدير: بشراكم دخول جنات أو خلود جنات لأن البشرى مصدر والجنات ذات فلا يخبر بالذات عن المعنى
ونحوه إطلاق اسم المقول على القول كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ}
ومنه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: عن مدلول قولهم
ومنه: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي: من مقولهم وهو الأَدْرة
وإطلاق الاسم على المسمى كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} أي: مسميات {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي ربك
وإطلاق اسم الكلمة على المتكلم كقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي: لمقتضى عذاب الله و{ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} تجوز بالكلمة عن المسيح لكونه تكون بها من غير أب بدليل قوله: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ولا تتصف الكلمة بذلك
وأما قوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى} فإن الضمير فيه عائد إلى مدلول الكلمة والمراد بالاسم المسمى فالمعنى المسمى المبشر به المسيح بن مريم
وإطلاق اسم اليمين على المحلوف به كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي: لا تجعلوا يمين الله أو قسم الله مانعا لما تحلفون عليه من البر والتقوى بين الناس
إطلاق الهوى عن المهوي ومنه: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي: عما تهواه من المعاصي ولا يصح نهيها عن هواها وهو ميلها لأنه تكليف لما لا يطاق إلا على حذف مضاف أي نهى النفس عن اتباع الهوى
التجوز عن المجاز بالمجاز
وهو أن تجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر فتتجوز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما
مثاله قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فانه مجاز عن مجاز فان الوطء تجوز عنه بالسر لأنه لا يقع غالبا إلا في السر وتجوز بالسر عن العقد لأنه مسبب عنه فالصحيح للمجاز الأول الملازمة والثاني السببية والمعنى: لا تواعدوهن عقد نكاح
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} إن حمل على ظهره كان من مجاز المجاز لأن قوله لا اله إلا الله مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ والتعبير بلا اله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالمقول عن المقول فيه
والأول من مجاز السببية لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان
قلت: وهذا يسميه ابن السيد مجاز المراتب وجعل منه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس
النوع الرابع والأربعون: في الكنايات والتعريض في القرآناعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة وهي عندهم أبلغ من التصريح
قال الطرطوسي: وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات وقد ألف أبو عبيد وغيره كتبا في الأمثال ومنها قولهم: فلان عفيف الإزار طاهر الذيل ولم يحصن فرجه وفي الحديث: "كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وشد المئزر" فكنوا عن ترك الوطء بشد المئزر وكنى عن الجماع بالعُسَيْلة وعن النساء بالقوارير لضعف قلوب النساء ويكنون عن الزوجة بربة البيت وعن الأعمى بالمحجوب
والمكفوف وعن الأبرص بالوضاح وبالأبرش وغير ذلك وهو كثير في القرآن قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ}
والكناية عن الشيء الدلالة عليه من غير تصريح باسمه
وهي عند أهل البيان: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا بذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه فيدل على المراد من طريق أولى مثاله قولهم: "طويل النجاد" و"كثير الرماد" يعنون طويل القامة وكثير الضيافة فلم يذكروا المراد بلفظ الخاص به ولكن توصلوا إليه بذكر معنى آخر هو رديفه في الوجود لأن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر الرماد
وقد اختلف في أنها حقيقة أو مجاز فقال الطرطوسي في العمدة: قد اختلف في وجود الكناية في القرآن وهو كالخلاف في المجاز فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية وهو قول الجمهور ومن أنكر ذلك أنكر هذا
وقال الشيخ عز الدين: الظاهر أنها ليست بمجاز لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له وأردت به الدلالة على غيره ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له وهذا شبيه بدليل الخطاب في مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
أسباب الكناية
ولها أسباب: أحدها: التنبيه على عظم القدرة كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} كناية عن آدم
ثانيها: فطنة المخاطب كقوله تعالى في قصة داود: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فكنى داود يخصم على لسان ملكين تعريضا
وقوله في قصة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزيد: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: زيد {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإنه كناية عن ألا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة
وكذا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} الآيات فان هذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى: لا تظن أنك مقصر في إنذارهم فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان فقد جعلناهم حطبا للنار ليقوى التذاذ المؤمن بالنعيم كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض
ثالثها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة
وقوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} كنى بالتحيز عن الهزيمة
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر لأنه يرادفه
رابعها: أن يفحش ذكره في السمع فيكنى عنه بما لا ينبو عنه الطبع قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته
ومنه قوله تعالى في جواب قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكنى عن تكذيبهم بأحسن
ومنه قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فكنى عن الجماع بالسر
وفيه لطيفة أخرى لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ولا يسره -ما عدا الآدميين- إلا الغراب فانه يسره ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى أبي علي الحاتمي كلاما فقال: ليكن عندك أخفى من سِفاد الغراب ومن الراء في كلام الألثغ فقال: نعم يا سيدنا ومن ليلة القدر وعلم الغيب
ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين
وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة
وقوله في الكناية عنهن: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} واللباس من الملابسة وهي الاختلاط والجماع
وكنى عنهن في موضع آخر بقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
وقوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} كناية عما تطلب المرأة من الرجل
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}
ومنه قوله تعالى في مريم وابنها: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط لأنهما منه مسببان إذ لابد للآكل منهما لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط فكنى به عنه
فإن قيل: فقد صرح به في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
قلنا: لأنه جاء على خطاب العرب وما يألفون والمراد تعريفهم الأحكام فكان لا بد من التصريح به على أن الغائط أيضا كناية عن النجو وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض فسمي منه لذلك ولكنه كثر استعماله في كلامهم فصار بمنزلة التصريح
وما ذكرناه في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} هو المشهور وأنكره الجاحظ وقال: بل الكلام على ظاهره ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل
الطعام لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا كذلك لا يجوز أن يكون طاعما قال الخفاجي وهذا صحيح
ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلهة فأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} فهو على حقيقته
قال الوزير ابن هبيرة: وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع فإن النبي كالطبيب والطبيب يكون عند المرضى فلو انقطع عنهم هلكوا
ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كنى به عن مصيرهم إلى العذرة فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي: لفروجهم فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فصرح بالفرج؟
قلنا: أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها وهي كناية عن فرج القميص أي لم يعلق ثوبها ريبة فهي طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكُمَّان والأعلى والأسفل وليس المراد غير هذا فان القرآن أنزه معنى
وألطف إشارة وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس فأضيف القدس إلى القدوس ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس ذكره صاحب التعريف والإعلام
ومنه وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يريد الزناة
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} فإنه كناية عن الزنا وقيل: أراد طرح الولد على زوجها من غيره لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل
وقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وإنما يوضع في الأذن السبابة فذكر الأصبع وهو الاسم العام أدبا لاشتقاقها من السب ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة والدعاءة وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة قاله الزمخشري
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام: يمكن أن يقال إن ذكر الإصبع هنا جامع لأمرين أحدهما التنزه عن اللفظ المكروه والثاني حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود والأعم يفيد المقصودين معا فأتى به وهو لفظ الإصبع وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما في حديث: "من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج" أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث وهو الرعاف وهو أدب حسن من شرع في ستر العورة وإخفاء القبيح وقد صح نهيه عليه السلام
أن يقال لشجر العنب: الكرم وقال: "إنما الكرم الرجل المسلم" كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث
وحديث: "كان يصيب من الرأس وهو صائم" قيل: هو إشارة إلى القبلة وليس لفظ القبلة مستهجنا وقوله: "إياكم وخضراء الدمن"
خامسها: تحسين اللفظ كقوله تعالى: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} فإن العرب كانت عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض قال امرؤ القيس:
وبَيْضَةُ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غير مُعْجَلِ
وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ومثله قول عنترة:
فَشَككتُ بالرمحِ الطويلِ ثيابَه
ليس الكريم على القنا بمحرَّمِ
سادسها: قصد البلاغة كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل
عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد نفي ذلك -أعني الأنوثة- عن الملائكة وكونهم بنات الله تعالى الله عن ذلك
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه بهذا التعجب
سابعها: قصد المبالغة في التشنيع كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فإن الغل كناية عن البخل كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} لأن جماعة كانوا متمولين فكذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكف الله عنهم ما أعطاهم وهو سبب نزولها
وأما قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ ولهذا قيل: إنهم أبخل خلق الله والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن كرمه وثنى اليد وإن أفردت في أول الآية ليكون أبلغ في السخاء والجود
ثامنها: التنبيه على مصيره كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي: جهنمي مصيره إلى اللهب وكقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: نمامة ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم
أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق