المؤلف : أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي النحاس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله شكرا لأنعمه
أخبرنا الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن ابراهيم بن سعيد الحوفي النحوي رحمة
الله عليه قال أخبرنا الشيخ أبو بكر محمد بن علي بن أحمد الإدوفي في شوال
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل
النحاس النحوي أبتدئ في هذا الكتاب وهو كتاب الناسخ والمنسوخ بحمد الله
الواحد الجبار العزيز القهار المتعبد خلقه بما يكون لهم فيه الصلاح وما
يؤديهم إن عملوا به إلى الفلاح وصلى الله على محمد رسوله الأمين وعلى أله
الطيبين وعلى جميع أنبيائه المرسلين بالحكم والنصح للأمم فمن مرسل بنسخ
شريعة قد كانت وإثبات أخرى قد كتبت ومن مرسل بتثبيت شريعة من كان قبله ومن
مرسل بأمر قد علم الله عز و جل أنه الى وقت بعينه ثم ينسخه بما هو
خير للعباد في العاجل وأنفع لهم في الأجل أو بما هو مثله
ليمتحنوا ويثابوا كما قال الله عز و جل ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير
منها أو مثلها
وقال عز و جل وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما
أنت مفتر بل أكثرهم لايعلمون
فتكلم العلماء من الصحابة والتابعين في الناسخ والمنسوخ ثم اختلف
المتأخرون فيه فمنهم من جرى على سنن المتقدمين فوافق ومنهم من خالف ذلك
فاجتنب
فمن المتأخرين من قال ليس في كتاب الله عز و جل ناسخ ولا منسوخ وكابر
العيان واتبع غير سبيل المؤمنين
ومنهم من قال النسخ يكون في الأخبار والأمر والنهي
قال أبو جعفر وهذا القول عظيم جدا يؤول في الكفر لأن قائلا لو
قال قام فلان ثم قال لم يقم فقال نسخته لكان كاذبا وقد غلط بعض المتأخرين
فقال إنما الكذب فيما مضى فأما في المستقبل فهو خلف وفي كتاب الله عز و جل
غير ما قال قال الله عز و جل فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بآيت ربنا ونكون
من المؤمنين
ثم قال جل ثناؤه بل بدا لهم ما كانوا يحفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما
نهوا عنه وإنهم لكذبون
وقال أخرون بل الناسخ والمنسوخ إلى الإمام ينسخ ما شاء وهذا القول أعظم من
ذلك لأن النسخ لم يكن الى النبي إلا بالوحي من الله
عز و جل إما بقرآن مثله على قول قوم وإما بوحي من غير القرآن فلما ارتفع هذان بموت النبي ارتفع النسخ
وقال قوم لا يكون النسخ في الأخبار إلا فيما كان فيه حكم فإذا
كان فيه حكم جاز فيه النسخ وفي الأمر والنهي
وقال قوم النسخ في الأمر والنهي خاصة
وقول سادس عليه أئمة العلماء وهو أن النسخ إنما يكون في المتعبدات لأن
الله جل وعز له أن يتعبد خلقه بما شاء وإلى أى وقت شاء ثم يتعبدهم بغيرذلك
فيكون النسخ في الأمر والنهي وما كان في معناهما وهذا يمر بك مشروحا في
مواضعه إذا ذكرناه
ونذكر إختلاف الناس في نسخ القرآن بالقرآن وفي نسخ القرآن بالقرآن والسنة
وفي نسخ السنة بالقرآن ونذكر أصل النسخ في كلام العرب لنبني الفروع على
الأصل ونذكر اشتقاقه ونذكر على كم يأتي من ضرب ونذكر الفرق بين النسخ
والبداء فإنا لا نعلم أحدا ذكره في كتاب ناسخ ولا منسوخ وإنما يقع الغلط
علم من لم يفرق بين النسخ والبداء والتفريق بينهما مما يحتاج المسلمون الى
الوقوف عليه لمعارضة اليهود والجهال
فيه ونذكر الناسخ والمنسوخ على ما في السور ليقرب حفظه على من
أراد تعلمه فإذا كانت السورة فيها ناسخ أومنسوخ ذكرناها وإلا أضربنا عن
ذكرها إلا أنا نذكر إنزالها أكان بمكة أم بالمدينة وإن كانت فيها إطالة
نضطر إلى ذكرها أخرناها وبدأنا بما يقرب ليسهل حفظه
ونبدأ بباب الترغيب في تعلم الناسخ والمنسوخ عن العلماء الراسخين والأئمة
المتقدمين وبالله التوفيق
باب الترغيب في تعلم الناسخ والمنسوخ
قال أبو جعفر أحمد بن محمد حدثنا محمد بن جعفر بن أبي داود الأنباري
بالأنبار قال حدثنا يحيى بن جعفر قال حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق
عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال
دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس
فقال ما هذا فقالوا رجل يذكر الناس فقال ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول
أنا فلان ابن فلان فاعرفوني فأرسل إليه أتعرف الناسخ من المنسوخ فقال لا
قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه
وحدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا عبد الله بن يحيى قال حدثنا أبو نعيم قال
حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي
عبدالرحمن السلمي قال انتهى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى
رجل يقص فقال أعلمت الناسخ من المنسوخ فقال لا فقال هلكت وأهلكت
وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن ديسم قال أخبرنا سليمان قال حدثنا
شعبة عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال مر علي بن أبي طالب رضي
الله عنه برجل يقص فقال أعرفت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت
وحدثنا بكر بن سهل قال أخبرنا أبو صالح عبد الله بن صالح قال
حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز و جل
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
قال المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحرامه
وحلاله وأمثاله
قال أبو جعفر حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا عبدالله بن يحيى قال أخبرنا
أبو نعيم عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم
قال مر ابن عباس بقاص يقص فركله برجله وقال أتدري ما الناسخ من
المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت
قال أبوجعفر وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن ديسم عن موسى عن أبي هلال
الراسبي قال سمعت محمدا وحدثت عنه قال قال حذيفة إنما يفتي الناس أحد
ثلاثة رجل يعلم منسوخ القرآن وذاك عمر ورجل قاض لايجد من القضاء بدا ورجل
متكلف فلست بالرجلين الماضيين وأكره أن أكون الثالث
قال أبو جعفر وحدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا ابن ديسم عن موسى عن حماد بن
سلمة عن عطاء عن أبي البحتري أن عليا رضي الله
عنه دخل مسجد الكوفة فرأى قاصا يقص فقال ماهذا فقالوا رجل محدث فقال إن هذا يقول اعرفوني سلوه هل يعرف الناسخ من المنسوخ فسألوه فقال لا فقال لاتحدث
باب اختلاف العلماء في الذي ينسخ القرآن والسنة
قال أبو جعفر للعلماء في هذا خمسة أقوال فمنهم من يقول ينسخ القرآن القرآن
والسنة وهذا قول الكوفيين
ومنهم من يقول ينسخ القرآن القرآن ولا يجوز أن تنسخه السنة وهذا قول
الشافعي رحمه الله في جماعة معه
وقال قوم ينسخ السنة القرآن والسنة
وقال قوم ينسخ السنة السنة ولاينسخها القرآن
والقول الخامس قال محمد بن شجاع قال الأقوال قد تقابلت فلا أحكم على أحدها
بالأخر
قال أبو جعفر وحجة أصحاب القول الأول في أن القرآن ينسخ القرآن والسنة قول
الله عز و جل وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
وقال جل ثناؤه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
وقال جل وعز فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
وقد أجمع الجميع على أن القرآن إذا نزل بلفظ مجمل ففسره رسول الله وبينه
كان بمنزلة القرآن المتلو وكذا سبيل النسخ واحتجوا بآيات من القرآن
تأولوها على نسخ القرآن بالسنة ستمر في السور إن شاء الله
واحتج من قال لا ينسخ القرآن إلا قرآن بقوله عز و جل نأت بخير منها أو
مثلها
وبقوله تعالى قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائى نفسى
وأصحاب القول الأول يقولون لم ينسخه من قبل نفسه ولكنه بوحي غير القرآن
وهكذا سبيل الأحكام إنما يكون من قبل الله عز و جل
وقد روى الضحاك عن ابن عباس نأت بخير منها نجعل مكانها أنفع لكم منها وأخف
عليكم أو مثلها في المنفعة أو ننساها يقول أو نتركها كما هى فلا ننسخها
واحتج أصحاب القول الثالث في أن السنة لا ينسخها إلا سنة بأن السنة هى
المبينة للقرآن فلا ينسخها
والحجة عليهم أن القرآن هو المبين بنبوة رسول الله والآمر بطاعته فكيف لا
ينسخ قوله
قال أبو جعفر وفي هذا أشياء قاطعة قال الله عز و جل فإن
علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار فننسخ بهذا ما فارق النبي عليه
المشركين
ومن هذا أن بكر بن سهل حدثنا قال أخبرنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالك
عن نافع عن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول
الله فقالوا إن رجلا منا وإمرأة زنيا فقال لهم النبي ما تجدون
في التوراة في شأن الرجم فقال نجلدهم ويفضحون فقال لهم عبدالله بن سلام
كذبتم إن فيها للرجم فذهبوا فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل رجل منهم يده على
آية الرجم ثم قرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك
فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق
يا محمد إن فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما قال عبد الله بن عمر
فرأيته يحنأ على المرأة يقيها الحجارة
قال أبو جعفر وهذا من النبي لا يكون إلا من قبل أن ينزل عليه في الزناة
شيء ثم نسخ الله عز و جل فعله هذا بقوله جل ثناؤه واللاتى يأتين الفاحشة
من نسائكم
وما بعده
حكى أهل اللغة يقال حنأ فلان على فلان إذا أكب عليه وفي الحديث أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه حنأ على رسول الله بعد موته فقبل بين عينيه وقال طبت
حيا وميتا
باب أصل النسخ واشتقاقه
اشتقاق النسخ من شيئين أحدهما أنه يقال نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت
محله ونظير هذا قوله تعالى فينسخ الله ما يلقى الشيطان والأخر من نسخت
الكتاب إذا نقلته من نسخة وعلى هذا الناسخ والمنسوخ وأصله أن يكون الشيء
حلالا إلى مدة ثم ينسخ فيجعل حراما أو يكون حراما فيجعل حلالا أو يكون
محظورا فيجعل مباحا أو مباحا فيجعل محظورا يكون هذا في الأمر والنهي
والحظر والإطلاق والإباحة والمنع
باب النسخ على كم يكون من ضرب
قال أبو جعفر أكثر النسخ في كتاب الله عز و جل على ما تقدم في الباب الذي
قبل هذا أن يزال الحكم بنقل العباد عنه مشتق من نسخت الكتاب ويبقى المنسوخ
متلوا
كما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال
حدثنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ما ننسخ من ءاية قال نزيل
حكمها ونثبت خطها
ونسخ ثان كما حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن ديسم قال حدثنا
أبو عمر الدوري عن الكسائي في قوله عز و جل وما أرسلنا من قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته قال في تلاوته فينسخ الله ما
يلقي الشيطان قال يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف
قال أبوجعفر هذا مشتق من نسخت الشمس والظل وقد زعم أبو عبيد أن هذا النسخ
الثاني قد كان ينزل على النبي السورة فترفع ولا تتلى ولا تكتب واحتج أبو
عبيد بأحاديث صحيحة السند
وخولف أبو عبيد فيما قال والذين خالفوه على قولين
منهم من قال لا يجوز ما قال ولا يسلب النبي شيئا من القرآن
بعدما نزل عليه واحتجوا بقوله عز و جل ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك
والقول الأخر أن أبا عبيد قد جاء بأحاديث إلا أنه غلط في تأويلها لأن
تأويلها على النسيان لا على النسخ وقد تأول مجاهد وقتاة أو ننسها على هذا
من النسيان
قال أبو جعفر وهو معنى قول سعد بن أبي وقاص وفيه قولان آخران أحدهما عن
ابن عباس رحمه الله قال ما ننسخ من ءاية نرفع حكمها أو ننسها نتركها فلا
ننسخها وقيل ننسها نبيح لكم تركها وعلى قراءة البصريين ننسها
قال أبو جعفر أحسن ما قيل في معناه أو نتركها ونؤخرها فلا ننسخها
ونسخ ثالث وهو من نسخت الكتاب لم يذكر أبو عبيد إلا هذه الثلاثة
وذكر غيره رابعا فقال تنزل الآيه وتتلى في القرآن ثم تنسخ فلا
تتلى في القرآن ولا تثبت في الخط ويكون حكمها ثابتا
كما روى الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال خطبنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فقال كنا نقرأ الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة بما قضيا
من اللذة
قال أبو جعفر وإسناد الحديث صحيح إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله
الجماعة عن الجماعة ولكنه سنة ثابتة وقد يقول الإنسان كنت أقرأ كذا لغير
القرآن والدليل على هذا أنه قال ولولا أني أكره أن يقال زاد عمر في القرآن
لزدتها
باب الفرق بين النسخ والبداء
قال أبو جعفر الفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العباد من شيء قد
كان حلالا فيحرم أو كان حراما فيحلل أو كان مطلقا فيحظر أو كان محظورا
فيطلق أو كان مباحا فيمنع أو ممنوعا فيباح إرادة الصلاح للعباد
وقد علم الله عز و جل العاقبة في ذلك وعلم وقت الأمر به أنه سينسخه إلى
ذلك الوقت فكان المطلق على الحقيقة غير المحظور فالصلاة كانت إلى بيت
المقدس إلى وقت بعينه ثم حظرت وصيرت إلى الكعبة وكذا قوله عز و جل إذا
ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة وقد علم الله عز و جل أنه إلى
وقت بعينه ثم نسخه في ذلك الوقت وكذا تحريم السبت كان في وقت بعينه على
قوم ثم نسخ وأمر قوم أخرون بإباحة العمل فيه
كان الأول المنسوخ حكمة وصوابا ثم نسخ وأزيل بحكمة وصواب كما تزال الحياة
بالموت وكما تنقل الأشياء فلذلك لم يقع النسخ في الأخبار لما فيها من
الصدق والكذب
وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه كقولك امض الى فلان اليوم ثم تقول لاتمض
إليه فيبدو لك عن القول الأول وهذا يلحق البشر لنقصانهم وكذا إذا قلت ازرع
كذا في هذه السنة ثم قلت لاتفعل فهذا البداء وإن قلت يا فلان ازرع فقد علم
أنك تريد مرة واحدة وكذا النسخ إذا أمر الله عز و جل بشيء في وقت نبي أو
في وقت يتوقع فيه
نبي فقد علم أنه حكمة وصواب إلى أن ينسخ وقد نقل من الجماعة من
لايجوز عليهم الغلط نسخ شرائع الأنبياء من لدن ادم الى وقت نبينا وهم
الذين نقلوا علامات الأنبياء
وقد غلط جماعة في الفرق بين النسخ والبداء كما غلطوا في تأويل أحاديث
حملوها على النسخ أو على غير معناها
باب ذكر بعض هذه الأحاديث
فمن ذلك ما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا مالك
عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما نزل
من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخت بخمس معلومات يحرمن فتوفى رسول
الله وهن مما يقرأ من القرآن
قال أبو جعفر فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الإشكال
فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس رحمه الله وهو راوي الحديث ولم يروه عن عبد
الله سواه وقال رضعة واحدة تحرم وأخذ بظاهر القرآن قال الله عز و جل
وأخواتكم من الرضاعة
وممن تركه أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله وأبو ثور وقالا يحرم
ثلاث رضعات لقول النبي لا تحرم المصة أو المصتان
قال أبو جعفر وفي الحديث لفظة شديدة الإشكال وهى قولها فتوفى رسول الله
وهن مما يقرأ من القرآن فقال بعض جلة أصحاب الحديث قد روى هذا الحديث
رجلان جليلان أثبت من عبد الله بن أبي بكر فلم يذكرا هذا فيه وهما القاسم
بن محمد بن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه ويحيى بن سعيد الأنصاري
وممن قال بهذا الحديث وأنه لاتحرم إلا خمس رضعات الشافعي
فاما القول في تأويل وهن مما يقرأ من القرآن فقد ذكرنا رد من رده ومن صححه
قال الذي يقرأ من القرآن وأخواتكم من الرضاعة فأما قول من قال إن هذا كان
يقرأ بعد وفاة رسول الله فعظيم لأنه لو كان مما يقرأ لكانت عائشة رضي الله
عنها قد نبهت عليه ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة
الذين لا يجوز عليهم الغلط وقد قال الله عز و جل إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحفظون
وقال جل وعز إن علينا جمعه وقرءانه
ولو كان بقي منه شيء لم ينقل إلينا لجاز أن يكون ما لم ينقل ناسخا لما نقل
فيبطل العمل بما نقل ونعوذ بالله من هذا فإنه كفر
قال أبو جعفر ومما يشكل من هذا ما رواه الليث بن سعد عن يونس عن الزهري عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قرأ رسول الله بمكة والنجم
إذا هوى فلما بلغ أفرءيتم اللات والعزى قال فإن شفاعتهن ترتجى فسها
فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال
لهم إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله عز و جل وما أرسلنا من قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان
ثم يحكم الله ءاياته
وقال قتادة قرأ فإن شفاعتهن ترتجى وإنهن لهن الغرانيق العلا
قال أبو جعفر الحديثان منقطعان والكلام على التأويل فيهما قريب فقال قوم
هذا على التوبيخ أى تتوهمون هذا وعندكم أن
شفاعتهن ترتجى ومثله وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل
وقيل إن شفاعتهن ترتجى على قولكم ومثله فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي
ومثله أين شركاءى أي على قولكم
وقيل المعنى والغرانيق العلا يعني الملائكة ترتجي شفاعتهم فسها يدلك على
هذا الجواب
وقيل إنما قال الله عز و جل ألقى الشيطان فى أمنيته ولم يقل إنه قال كذا
فيجوز أن يكون شيطان ألقى هذا من الجن أو من الإنس
ومما يشكل من هذا الحديث في أن قوله جل وعز وإن تبدوا ما
في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله نسخه لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها
وهذا لا يجوز أن يقع فيه نسخ لأنه خبر ولكن التأويل في الحديث لأن فيه لما
أنزل الله عز و جل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد
عليهم ووقع بقلوبهم منه شيء عظيم فنسخ ذلك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أى
فنسخ ما وقع بقلوبهم أي أزاله ورفعه
ومن هذا المشكل قوله جل وعز والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر إلى ومن
يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب
يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب ثم نسخه ومن يقتل مؤمنا
متعمدا
وهذا لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر ولكن تأويله إن صح نزل بنسخته
والآيتان واحد يدلك على ذلك قوله عز و جل وإني لغفار لمن تاب
ومن هذا يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته قال عبد الله بن مسعود
نسخها فاتقوا الله ما استطعتم أي نزل بنسختها وهما واحد والدليل على ذلك
قول عبدالله بن مسعود حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن
يذكر فلا ينسى فهذا لايجوز أن ينسخ لأن الناسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع
جهاته الرافع له المزيل حكمه
وهذه الأشياء تشرح بأكثر من هذا في مواضعها من السور إن شاء الله
باب السور التي يذكر فيها الناسخ والمنسوخ
فأول ذلك السورة التي يذكر فيها البقرة
حدثنا أبو جعفر حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن
صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال فكان أول مانسخ الله عز و جل من
القرآن القبلة وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها
اليهود أمره الله عز و جل أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك
فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا فكان رسول الله يحب قبلة إبراهيم عليه
السلام فكان يدعو الله عز و جل وينظر إلى السماء فأنزل الله عز و جل قد
نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها إلى قوله تعالى فولوا
وجوهكم شطره يعني نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم
التي كانوا عليها فأنزل الله عز و جل قل لله المشرق والمغرب وقال تعالى
فأينما تولوا فثم وجه الله وقال عز و جل وما جعلنا القبلة التي كنت عليها
إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه قال ابن عباس ليميز أهل
اليقين من أهل الشك والريبة
قال أبو جعفر فهذا يسهل في حفظ نسخ هذه الآية ونذكر ما فيها من الإطالة
كما شرطناه فمن ذلك ما قريء على أحمد بن عمرو عن
محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة قال
حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال صلى رسول الله بمكة الى بيت المقدس
والكعبة بين يديه وبعدما هاجر ستة عشر شهرا
وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا ابن اسحاق قال حدثنا ابن نمير قال حدثنا
يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن
مجاهد عن ابن عباس قال صلى رسول الله بمكة نحو بيت المقدس
والكعبة بين يديه وبعدما هاجر الى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف الى الكعبة
قال أبو جعفر وفي حديث البراء صلى ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال صرف إلى الكعبة
في جمادي وقال ابن اسحاق في رجب وقال
الواقدي في النصف من شعبان
وقال أبو جعفر وأولاها بالصواب الأول لأن الذي قال به أجل ولأن رسول الله
قدم المدينة في شهر ربيع الأول فإذا صرف في آخر جمادى الآخره إلى الكعبة
صار ذلك ستة عشر شهرا كما قال ابن عباس وأيضا فإذا صلى الى الكعبة في
جمادى فقد صلى إليها فيما بعدها
فعلى قول ابن عباس إن الله عز و جل كان أمره بالصلاة إلى بيت المقدس ثم
نسخه
وقال غيره بل نسخه فعله ولم يكن أمره بالصلاة إلى بيت المقدس ولكن النبي
كان يتبع اثار الأنبياء قبلة حتى يؤمر بنسخ ذلك
وقال قوم بل نسخ الله عز و جل قوله فأينما تولوا فثم وجه الله بالأمر
بالصلاة إلى الكعبة
قال أبو جعفر وأولى الأقوال بالصواب الأول وهو صحيح عن ابن عباس
والذي يطعن في إسناده يقول ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس وإنما أخذ
التفسير عن مجاهد وعكرمة
قال أبو جعفر وهذا القول لا يوجب طعنا لأنه أخذه عن رجلين ثقتين وهو في
نفسه ثقة صدوق وقد حدثني أحمد بن محمد الأزدي قال سمعت علي بن الحسين يقول
سمعت الحسين بن عبد الرحمن بن فهم يقول سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول
بمصر كتاب التأويل عن معاوية بن صالح لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف
به ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلا
فأما أن تكون الآية ناسخة لقول الله عز و جل فأينما تولوا فثم وجه الله
فبعيد لأنها تحتمل أشياء سنبينها في ذكر الآية الثانية
باب ذكر الآية الثانية من هذه السورة
قال الله عز و جل ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله
واسع عليم
فللعلماء في هذه الآية ستة أقوال
قال قتادة هي منسوخة وذهب إلى أن المعنى صلوا كيف شئتم فإن المشرق والمغرب
لله جل وعز فحيث استقبلتم فثم وجه الله لا يخلو منه مكان كما قال الله عز
و جل ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم
وقال ابن زيد كانوا أبيحوا أن يصلوا إلى أي قبلة شاءوا لأن المشارق
والمغارب لله جل وعز فأنزل الله عز و جل فأينما تولوا فثم وجه الله فقال
النبي هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله عز و جل يعني بيت المقدس
فصلوا إليه فصلى رسول الله وأصحابه إليه رضي الله عنهم بضعة عشر شهرا
فقالت اليهود ما اهتدى لقبلته حتى
هديناه فكره النبي قولهم ورفع طرفه إلى السماء فأنزل الله عز و
جل قد نرى تقلب وجهك في السماء
قال أبو جعفر فهذا قول
وقال مجاهد والضحاك في قوله عز و جل فأينما تولوا فثم وجه الله معناه
أينما تولوا من مشرق أو مغرب فثم جهة الله عز و جل التي أمر بها وهي
استقبال الكعبة فجعلا الآية ناسخة وجعل قتادة وابن زيد الآية منسوخة
وقال إبراهيم النخعي من صلى في سفر في مطر وظلمة شديدة إلى غير القبلة ولم
يعلم فلا إعادة عليه فأينما تولوا فثم وجه الله
قال أبو جعفر والقول الرابع أن قوما قالوا لما صلى رسول الله على النجاشي
صلى عليه وكان يصلي إلى غير قبلتنا فأنزل الله عز و جل ولله المشرق
والمغرب
والقول الخامس أن المعنى ادعوا كيف شئتم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها
فأينما تولوا فثم وجه الله يستجب لكم
والقول السادس من أجلها قولا وهو أن المصلي في السفر على راحلته النوافل
جائز له أن يصلي إلى القبلة وإلى غير القبلة
قال أبو جعفر وهذا القول عليه فقهاء الأمصار ويدلك على صحته أنه قريء على أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى وعمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن عبد الملك قال حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عمر أن رسول الله كان يصلي وهو مقبل من مكة الى المدينة على دابته وفي ذلك أنزل الله جل وعز فأينما تولوا فثم وجه الله قال وأخبرنا قتيبة يعني ابن سعيد عن مالك عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله كان يصلي على راحلته
حيثما توجهت به
قال أبو جعفر والصواب أن يقال ليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأن العلماء قد
تنازعوا القول فيها وهي محتملة لغير النسخ وما كان محتملا لغير النسخ لم
نقل فيه ناسخ ولا منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها فأما ما كان يحتمل
المجمل والمفسر والعموم والخصوص فعن النسخ بمعزل ولا سيما مع هذا الاختلاف
وقد اختلفوا أيضا في الآية الثالثة
باب ذكر الآية الثالثة من هذه السورة
قال الله عز و جل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
قال أبو جعفر أما ما ذكر في الحديث والصلاة الوسطى وصلاة العصر فيقال إن
هذا نسخ أي دفع ويقال إن هذه قراءة على التفسير أي حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر فأما وقوموا لله قانتين فمن الناس من يقول
القنوت القيام ومنهم من يقول بحديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم
عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال كل قنوت في القرآن فهو
طاعة وقال قوم وقوموا لله قانتين ناسخ للكلام في الصلاة
قال أبو جعفر وهذا أحسن ما قيل فيه كما قريء على أحمد بن شعيب عن سويد بن
نصر عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن
أبي عمرو الشيباني عن زيد بن ارقم قال كنا نتكلم في الصلاة في عهد رسول
الله يتكلم أحدنا بحاجته حتى نزلت وقوموا لله قانتين فنهينا حينئذ عن
الكلام
قال أبو جعفر وهذا إسناد صحيح وهو موافق للقول الأول أن القنوت
الطاعة أي وقوموا لله مطيعين فيما أمركم به من ترك الكلام في الصلاة فصح
أن الآية ناسخة للكلام في الصلاة
قال أبو جعفر فهذا ما في هذه السورة من الناسخ والمنسوح من أمر الصلوات
وهى ثلاث آيات والآية الرابعة في القصاص
باب ذكر الأية الرابعة من هذه السورة
يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد
والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه
بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
قال أبو جعفر في هذه الآية موضعان أحدهما الحر بالحر والعبد بالعبد
والأنثى بالأنثى فيه خمسة أقوال منها ما حدثناه عليل بن أحمد قال حدثنا
محمد بن هشام السدوسي قال حدثنا عاصم بن سليمان قال حدثنا جويبر عن الضحاك
عن ابن عباس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى قال نسختها وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان الرجل لا يقتل بالمرأة ولكن يقتل
الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فنزلت أن النفس بالنفس
قال أبو جعفر فهذا قول وقال الشعبي نزلت في قوم تقاتلوا فقتل
بينهم خلق فنزل هذا لأنهم قالوا لايقتل بالعبد منا إلا الحر ولا بالأنثى
إلا الذكر
وقال السدي نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى فأمر النبي أن يقاص بينهم
ديات النساء بديات النساء وديات الرجال بديات الرجال
والقول الرابع قول الحسن البصري رواه عنه قتادة وعوف وزعم أنه قول علي بن
أبي طالب قال هذا على التراجع إذا قتل رجل امرأة كان أولياء المرأة
بالخيار إن شاءوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية وإن شاءوا أخذوا نصف الدية
فإذا قتلت إمرأة رجلا فإن شاء أولياء الرجل قتلوا
المرأة وأخذوا نصف الدية وإن شاؤا أخذوا الدية كاملة وإذا قتل
رجل عبدا فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد ثمن
العبد وإذا قتل عبد رجلا فإن شاء أولياء الرجل أن يقتلوا العبد ويأخذوا
بقية الدية وإن شاءوا أخذوا الدية
والقول الخامس أن الآية معمول بها يقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى
بالأنثى بهذه الآية ويقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والحر بالعبد
والعبد بالحر لقوله عز و جل ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ولقول
رسول الله الذي نقله الجماعة المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهو صحيح عن النبي
كما قريء على أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن سعيد قال
حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال انطلقت أنا والأشتر إلى
علي بن أبي طالب
رضي الله عنه فقلنا هل عهد إليك نبي الله شيئا لم يعهده الناس
قال لا إلا ما في كتابي هذا فأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه المؤمنون
تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن
بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا فعلى نفسه ومن آوى محدثا فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
قال أبو جعفر فسوى رسول الله بين المؤمنين في الدماء شريفهم ووضيعهم وحرهم
وعبدهم
وهذا قول الكوفيين في العبد خاصة فأما في الذكر والأنثى فلا اختلاف بينهم
إلا ما ذكرناه من التراجع
والموضع الآخر فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف الآية
وقيل هي ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية كما حدثنا
أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا
معمر بن أبي
نجيح عن مجاهد وابن عيينه عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن
عباس قال كان القصاص في بني إسرائيل ولم تكن الدية فقال الله جل وعز لهذه
الأمة فمن عفي له من أخيه شيء
قال فالعفو أن يقبل الدية في العمد
فاتباع بالمعروف من الطالب ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ذلك تخفيف من ربكم
ورحمة كما كتب على من كان قبلكم
قال أبو جعفر يكون التقدير فمن صفح له عن الواجب عليه من الدم فأخذت منه
الدية وقيل عفى بمعنى كثر من قوله جل وعز حتى عفوا
وقيل كتب بمعنى فرض على التمثيل وقيل كتب عليكم في اللوح المحفوظ وكذا كتب
في آية الوصية وهى الآية الخامسة
باب ذكر الآية الخامسة من هذه السورة
قال الله جل وعز كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية
للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
في هذه الآية خمسة أقوال
فمن قال إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة قال نسخها لا وصية لوارث ومن قال
من الفقهاء لايجوز أن ينسخ القرآن إلا قرآن قال نسختها الفرائض كما حدثنا
علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا حجاح عن ابن جريج وعثمان بن
عطاء عن عطاء
عن ابن عباس في قوله جل وعز الوصية للوالدين والأقربين قال كان
والد الرجل يرثونه وللوالدين والأقربين الوصية فنسخها للرجال نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
وقال مجاهد نسختها يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية
والقول الثالث قاله الحسن قال نسخت الوصية للوالدين وثبتت للأقربين الذين
لا يرثون وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس
وقال الشعبي والنخعي الوصية للوالدين والأقربين على الندب لا على الحتم
والقول الخامس أن الوصية للوالدين والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا
لا يرثون
قال أبو جعفر وهذا قول الضحاك وطاووس قال طاووس من
أوصى لأجنبيين وله أقرباء انتزعت الوصية فردت إلى الأقرباء
وقال الضحاك من مات وله شيء ولم يوص لأقربائه فقد مات عن معصية لله عز و
جل
وقال الحسن إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه وله أقرباء أعطى الغرباء ثلث
الثلث ورد الباقي على الأقرباء
قال أبوجعفر فتنازع العلماء معنى هذه الآية وهى متلوة فالواجب أن لا يقال
إنها منسوخة لأن حكمها ليس بناف حكم ما فرضه الله عز و جل من الفرائض فوجب
أن يكون كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية كقوله كتب عليكم الصيام
باب ذكر الآية السادسة من هذه السورة
قال الله عز و جل كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم
تتقون وهى الآية السادسة
قال أبو جعفر في هذه الآية خمسة أقوال
قال جابر بن سمرة هى ناسخة لصوم يوم عاشوراء تذهب إلى أن النبي أمر بصوم
يوم عاشوراء فلما فرض الله صيام شهر رمضان نسخ ذلك فمن شاء صام يوم
عاشوراء ومن شاء أفطره وإن كان قد صح عن النبي من حديث أبي قتادة صوم يوم
عاشوراء يكفر سنة مستقبلة
وقال عطاء كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم كتب عليهم صيام
ثلاثة أيام من كل شهر
قال أبو جعفر فهذان قولان على أن الآية ناسخة
وقال أبو العالية والسدي هى منسوخة لأن الله عز و جل كتب على من
قبلنا إذا نام بعد المغرب لم يأكل ولم يقرب النساء ثم كتب ذلك علينا فقال
الله جل وعز كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ثم نسخه بقوله
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية وما بعده
والقول الرابع إن الله عز و جل كتب علينا الصيام شهرا كما كتب على الذين
من قبلنا وأن نفعل كما كانوا يفعلون من ترك الوطء والأكل بعد النوم ثم
أباح الوطء والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر
والقول الخامس أنه كتب علينا الصيام وهو شهر رمضان كما كتب صوم شهر رمضان
على من قبلنا قال مجاهد كتب الله جل وعز صوم شهر رمضان على كل أمة وقال
قتادة كتب الله صوم شهر رمضان على من قبلنا وهم النصارى
قال أبو جعفر وهذا أشبه ما في الآية وفيه حديث يدل على صحته قد مر قبل هذا
غير مسند ثم كتبناه مسندا عن محمد بن محمد بن
عبدالله قال حدثنا الليث بن الفرج قال حدثنا معاذ بن هشام بن
أبي عبد الله الدستوائي
قال حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن دغفل بن حنظلة عن النبي قال كان على
النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن الله عز و جل شفاه لنزيدن عشرا
ثم كان آخر فأكل لحما فوجع فوه فقالوا لئن الله عز و جل شفاه لنزيدن عشرا
ثم كان آخر فأكل فوجع فوه فقالوا لئن الله عز و جل شفاه لنزيدن سبعا ثم
كان ملك أخر فقال لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار
خمسين
قال أبو جعفر أما قول عطاء إنها ناسخة لصوم ثلاثة أيام فغير معروف وقول من
قال إنه نسخ منها ترك الأكل والوطء بعد النوم لا يمتنع وقد تكون الآية
ينسخ منها الشيء كما قيل في الآية السابعة
باب ذكر الآية السابعة من هذه السورة
قال الله عز و جل وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو
خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون
قال أبو جعفر في هذه الآية أقوال أصحها أنها منسوخة سياق الآية يدل على
ذلك والنظر والتوقيف من رجلين من أصحاب رسول الله كما قريء على أحمد بن
شعيب عن قتيبة بن سعيد قال حدثنا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن بكير عن
يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية وعلى
الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من شاء منا صام ومن شاء أن يفتدي فعل
حتى نسختها الآية التي بعدها
قال أبو جعفر وحدثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا
حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قول الله عز و جل
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال كان الرجل يصبح صائما أو المرأة
في شهر رمضان ثم إن شاء أفطر وأطعم مسكينا فنسختها فمن شهد منكم الشهر
فليصمه
قال أبو جعفر فهذا قول وقال السدي وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان
الرجل يصوم من شهر رمضان ثم يعرض له العطاش فأطلق له الفطر وكذلك الشيخ
الكبير والمرضع يفطرون ويطعمون عن كل يوم مسكينا فمن تطوع خيرا فأطعم
مسكينين فهو خير له
وقال الزهري فمن تطوع خيرا صام وأطعم مسكينا فهو خير له
وقيل المعنى الذين يطيقونه على جهد
قال أبوجعفر الصواب أن يقال الآية منسوخة بقوله جل وعز فمن شهد منكم الشهر
فليصمه لأن من لم يجعلها منسوخة جعله مجازا وقال المعنى فيه يطيقونه على
جهد وقال كانوا يطيقونه فأضمر كان وهو مستغن عن هذا
وقد اعترض قوم بقراءة من قرأ يطوقونه ويطوقونه ولا يجوز لأحد أن
يعترض بالشذوذ على ما نقله جماعة المسلمين في قراءتهم وفي مصاحفهم ظاهرا
مكشوفا وما نقل على هذه الصورة فهو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله
جل وعز ومحظور على المسلمين أن يعارضوا ما ثبتت به الحجة أنه من عند الله
جل وعز بالظنون والأوهام والشذوذ وما لايوقف منه على حقيقة
غير أن العلماء قد احتجوا بهذه الآية وإن كانت منسوخة لأنها ثابتة في الخط
وهذا لا يمتنع وقد أجمع العلماء على أن قوله جل وعز واللاتى يأتين الفاحشة
من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم
أنه منسوخ وثبتوا منها شهادة أربعة في الزنا فكذا
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين وإن كانت منسوخة ففيها غير
حجة وذلك أنه قد أجمع العلماء على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون
الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة فلهم الإفطار
وقال ربيعة ومالك شيء عليهم إذا أفطروا غير أن مالكا رحمه الله قال لو
أطعموا عن كل يوم مسكينا مدا كان أحب إلي
وقال أنس بن مالك وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة عليهم الفدية وهو
قول الشافعي رحمه الله اتباعا منه لقول الصحابة وهذا أصل من أصوله وحجة
أخرى فيمن قال إن عليهم الفدية أن هذا ليس بمرض ولا هم مسافرون فوجبت
عليهم الفدية لقول الله عز و جل وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
والحجة لمن قال لا شيء عليهم أنه من أفطر ممن أبيح له الفطر فإنما عليه
القضاء إذا وصل إليه
وهؤلاء لا يصلون إلى القضاء وأموال الناس محظورة إلا بحجة يجب
التسليم لها ولم يأت ذلك
ومما وقع فيه الاختلاف أيضا الحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما فأفطرتا
فمن الناس من يقول عليهما القضاء بلا كفارة هذا قول الحسن وعطاء والضحاك
وإبراهيم وهو قول أهل المدينة
وقول ابن عمر ومجاهد عليهما القضاء والكفارة وهو قول الشافعي رحمه الله
وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة عليهما الفدية ولا قضاء عليهما والحجة
لمن قال عليهما القضاء بلا كفارة أن من أفطر وهو مأذون له في الفطر فإنما
عليه يوم يصومه كاليوم الذي افطره
وحجة من قال عليهما القضاء والكفارة أنهما أفطرتا من أجل غيرهما
فعليهما القضاء ليكملا العدة وعليهما الكفارة لقول الله جل وعز وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين
وحجة من قال عليهما الفدية بغير قضاء الآية أيضا وليس في الآية قضاء واحتج
العلماء بالآية وإن كانت منسوخة وكان بعضهم يقول ليست بمنسوخة والصحيح
أنها منسوخة والآية الثامنة ناسخة بإجماع
باب ذكر الآية الثامنة من هذه السورة
قال الله عز و جل أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم
قال أبو العالية وعطاء هى ناسخة لقوله كما كتب على الذين من قبلكم وقال
غيرهما هى ناسخة لفعلهم الذي كانوا عليه
حدثنا أبو جعفر وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال
حدثنا أحمد بن عبد الملك قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن
الرجل منهم كان إذا نام قبل أن يتعشى في رمضان لم يحل له أن يأكل ليلته
ومن الغد حتى نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر
نزلت في أبي قيس وهو ابن عمرو أتى أهله وهو صائم بعد المغرب
فقال هل عندكم من شيء فقالت له امرأته لا تنم حتى أخرج فألتمس لك شيئا
فلما رجعت وجدته نائما فقالت لك الخيبة فبات فأصبح صائما إلى ارتفاع
النهار فغشي عليه فنزلت وكلوا واشربوا
وقال كعب بن مالك كان الناس في شهر رمضان إذا نام أحدهم بعد المساء حرم
عليه الطعام والشراب والنساء فسمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند النبي
ليلة فأتى منزله فأراد امرأته فقالت إني قد نمت فقال ما نمت فوقع عليها
وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فأتى عمر رضي الله عنه النبي فأخبره فنزلت علم
الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالأن باشروهن
فاتفقت الأقوال أنها ناسخة إما بفعلهم وإما بالآية وذلك غير متناقض
وفي هذه الآية ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وقال الضحاك كانوا
يجامعون وهم معتكفون في المساجد فنزلت يعني هذه الآية
وقال مجاهد كانت الأنصار تجامع يعني في الاعتكاف قال الشافعي
رحمه الله فدل أن المباشرة قبل نزول الآية كانت مباحة في الاعتكاف حتى نسخ
بالنهي عنه والله أعلم
واختلاف العلماء في الآية التاسعة والصحيح أنها لا نسخ فيها
باب ذكر الآية التاسعة من هذه السورة
قال الله جل وعز وقولوا للناس حسنا قال سعيد عن قتادة نسختها آية السيف
وقال عطاء قولوا للناس كلهم حسنا وقال سفيان قولوا للناس حسنا مروهم
بالمعروف وانهوهم عن المنكر
قال أبو جعفر وهذا أحسن ما قيل فيها لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فرض من الله تعالى كما قال جل وعز ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر فجميع المنكر النهي عنه فرض والأمر بالمعروف من
الفرائض فرض
وعن النبي لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأطرن عليه أطرا أو
ليعمنكم الله منه بعذاب فصح أن الآية غير منسوخة وأن معنى وقولوا للناس
حسنا ادعوهم إلى الله عز و جل كما قال جل ثناؤه ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة والبين في الآية العاشرة أنها منسوخة
باب ذكر الآية العاشرة من هذه السورة
قال الله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا
واسمعوا
قريء على عبد الله بن الصقر بن نصر عن زياد بن أيوب عن هشيم قال حدثنا عبد
الملك عن عطاء يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا قال كانت لغة الأنصار
في الجاهلية فنزلت هذه الآية
قال أبوجعفر فنسخ هذا ما كان مباحا قوله وكان السبب في ذلك
أن اليهود كانت هذه الكلمة فيهم سبا فنسخها الله جل وعز من كلام
المسلمين لئلا تجد بذلك اليهود سببا الى سب النبي
قال مجاهد راعنا خلافا وهذا ما لا يعرف في اللغة
ومعنى راعنا عند العرب فرغ لنا سمعك وتفهم عنا ومنه أرعني سمعك
قال أبوجعفر ولراعنا موضع أخر يكون من الرعية وهى الرقبة وأما قراءة الحسن
راعنا بالتنوين فشاذة ومحظور على المسلمين أن يقرءوا بالشواذ أو أن يخرجوا
عما قامت به الحجة مما أدته الجماعة
والبين في الآية الحادية عشر أنه قد نسخ منها
باب ذكر الآية الحادية عشر من هذه السورة
قال الله عز و جل ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فأعفوا واصفحوا حتى يأتي الله
بأمره
حدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا حسين قال حدثنا
عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي فاعفوا وأصفحوا قال هى منسوخة نسختها
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر
قال أبو جعفر وإنما قلنا إن البين أن منها منسوخا وهو فاعفوا واصفحوا لأن
المؤمنين كانوا بمكة يؤذون ويضربون فيتفلتون على قتال المشركين فحظر عليهم
وأمروا بالعفو والصفح حتى يأتي الله بأمره فأتى الله عز و جل بأمره ونسخ
ذلك
والبين في الآية الثانية عشر أنها غير منسوخة
باب ذكر الآية الثانية عشر من هذه السورة
قال الله جل وعز وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله
لا يحب المعتدين
قال ابن زيد هى منسوخة نسخها وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة
وعن ابن عباس أنها محكمة روى عنه ابن أبي طلحة وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين قال لا تقتلوا النساء
والصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فمن فعل ذلك
فقد اعتدى
قال أبو جعفر وهذا أصح القولين من السنة والنظر
فأما السنة فحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله رأى في بعض مغازيه إمرأة مقتولة فكره ذلك
ونهى عن قتل النساء والصبيان وهكذا يروي أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله
كتب لا تقتلوا النساء والصبيان والرهبان في دار الحرب فتعتدوا إن الله لا
يحب المعتدين
قال أبو جعفر والدليل على هذا من اللغة أن فاعل يكون من اثنين فإنما هو من أنك تقاتله ويقاتلك فهذا لا يكون في النساء ولا الصبيان ولهذا قال من قال من الفقهاء لا يؤخذ من الرهبان جزية لقول الله عز و جل قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر إلى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وليس الرهبان ممن يقاتل فصار المعنى فقاتلوا في طريق الله وأمره الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا فتقتلوا النساء والصبيان والرهبان ومن أعطى الجزية فصح أن الآية غير منسوخة وقد تكلم العلماء في الآية الثالثة عشر
باب ذكر الآية الثالثة عشر من هذه السورة
قال الله عز و جل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن
قاتلوكم فاقتلةهم كذلك جزاء الكافرين هذه الآية من أصعب ما في الناسخ
والمنسوخ
فزعم جماعة من العلماء أنها غير منسوخة واحتجوا بها وبأشياء من السنن
وزعم جماعة أنها منسوخة واحتجوا بآيات غيرها وبأحاديث من السنن
فممن قال إنها غير منسوخة مجاهد روى عنه ابن ابي نجيح أنه قال فإن قاتلوكم
في الحرم فاقتلوهم لا يحل لأحد أن يقاتل أحدا في الحرم إلا أن يقاتله فإن
عدا عليك فقاتلك فقاتله
وهذا قول طاووس والاحتجاج لهما بظاهر الآية ومن الحديث بما حدثناه أحمد بن
شعيب قال أخبرنا محمد بن رافع قال حدثنا
يحيى بن آدم قال حدثنا مفضل عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن
عباس قال قال رسول الله يوم فتح مكة إن هذا البلد حرام حرمه الله عز و جل
لم يحل فيه القتال لأحد قبلي وأحل لي ساعة وهو حرام بحرمة الله عز و جل
قال أبو جعفر وأما من قال إنها منسوخة فمنهم قتادة كما قريء على عبد الله
بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا
روح عن سعيد عن قتادة ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلونكم فيه فكان هذا كذا حتى نسخ فأنزل الله عز و جل وقاتلوهم حتى لا
تكون فتنة أى شرك ويكون الدين لله أى أن لا إله الله عليها قاتل رسول الله
وإليها دعا فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين
من أبى أن يقول لا إله إلا الله أن يقاتل حتى يقول لا إله إلا الله
قال أبو جعفر وأكثر أهل النظر على هذا القول أن الآية منسوخة وأن المشركين
يقاتلون في الحرم وغيره بالقرآن والسنة قال الله عز و جل فأقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم
وبراءة نزلت بعد سورة البقرة بسنين وقال عز و جل وقاتلوا المشركين كافة
كما يقاتلونكم كافة
وأما السنة فحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة قال حدثنا مالك عن ابن
شهاب عن انس أن رسول الله دخل مكة وعليه المغفر فقيل إن ابن خطل متعلق
بأستار الكعبة فقال اقتلوه
وقريء علي محمد بن جعفر بن أعين عن الحسن بن بشر بن سالم
الكوفي قال حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس قال آمن
رسول الله أهل مكة يوم الفتح إلا أربعة من الناس عبد العزى بن خطل ومقيس
بن صبابة الكناني وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وأم سارة فأما ابن خطل فقتل
وهو متعلق بأستار الكعبة وذكر الحديث
وقرأ أكثر الكوفيين ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن
قاتلوكم فاقتلوهم
قال أبو جعفر وهذه قراءة بينة البعد وقد زعم قوم أنه لا تجوز القراءة بها
لأن الله عز و جل لم يفرض على أحد من المسلمين أن لا يقتل المشركين حتى
يقتلوا المسلمين
وقال الأعمش العرب تقول قتلناهم أى قتلنا منهم
قال أبو جعفر وهذا أيضا المطالبة فيه قائمة غير أنه قد قرأ به جماعة والله
أعلم بمخرج قرآئتهم
قد تنازع العلماء أيضا في الآية الرابعة عشر
باب ذكر الآية الرابعة عشر من هذه السورة
قال الله عز و جل الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
قال أبو جعفر حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا عبد الله بن أيوب
وعبد الله بن يحيى قالا حدثنا حجاج عن ابن جريح قال قلت لعطاء قول الله عز
و جل الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص قال هذا يوم الحديبية صدوا
رسول الله عن البيت الحرام وكان معتمرا فدخل في السنة التي بعدها معتمرا
مكة فعمرة في الشهر الحرام بعمرة في الشهر الحرام
وقال مجاهد فجرت قريش بردها رسول الله محرما في ذي القعدة فاعتمر في السنة
الثانية في ذي القعدة
قال أبو جعفر التقدير عمرة الشهر الحرام بعمرة الشهر الحرام والشهر الحرام
ههنا ذو القعدة بلا اختلاف وسمي ذو القعدة لأنهم كانوا يقعدون فيه عن
القتال
وكان النبي اعتمر في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة فمنعوه من
مكة قال ابن عباس فرجعه الله في السنة الأخرى فأقصه منهم والحرمات قصاص
وروى عن ابن عباس أنه قال والحرمات قصاص منسوخة كان الله عز و جل قد اطلق
للمسلمين إذا اعتدى عليهم أحد أن يقتصوا منه فنسخ الله عز و جل ذلك وصيره
إلى السلطان فلا يجوز لأحد أن يقتص من أحد إلا بأمر السلطان ولا أن يقطع
يد سارق ولا غير ذلك
وأما مجاهد فذهب إلى أن المعنى فمن إعتدى عليكم فيه أى في الحرم فأعتدوا
عليه بمثل ما إعتدى عليكم
قال أبو جعفر والذي قاله مجاهد أشبه بسياق الكلام لأن قبلة ذكر الحرم وهو
متصل به إلا أنه منسوخ عند أكثر العلماء
وقد أجمع المسلمون أن المشركين أو الخوارج لو غلبوا على الحرم لقوتلوا حتى
يخرجوا منه فإن قيل فما معنى الحديث أحلت لي ساعة وهي حرام بحرمة الله عز
و جل فالجواب أن النبي دخلها غير محرم يوم الفتح ولا يحل هذا لأحد بعده
إذا لم يكن من أهل الحرم
فأما والحرمات قصاص فإنما جمع والله أعلم لأنه أريد به حرمة
الإحرام وحرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام
وأما فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه فسمي الثاني اعتداء وإنما الاعتداء
الأول ففيه جوابان
أحدهما أنه مجاز على ازدواج الكلام سمي الثاني باسم الأول مثل وجزاؤا سيئة
سيئة مثلها
والجواب الآخر أنه حقيقة يكون من الشد والوثوب أي من شد عليكم ووثب بالظلم
فشدوا عليه وثبوا بالحق
وقد تكلم العلماء من الصحابة وغيرهم بأجوبة مختلفة في الآية الخامسة عشر
باب ذكر الآية الخامسة عشر من هذه السورة
قال الله جل وعز كتب عليكم القتال وهو كره لكم
فقال قوم هي ناسخة لحظر القتال عليهم ولما أمروا به من الصفح والعفو بمكة
وقال قوم هي منسوخة وكذا قالوا في قوله الله عز و جل انفروا خفافا وثقالا
والناسخة وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة
وقال قوم هي على الندب لا على الوجوب وقال قوم هي واجبة والجهاد فرض
وقال عطاء هي فرض إلا أنها على غيرنا يعني أن الذي خوطب بها الصحابة
قال أبو جعفر فهذه خمسة أقوال
فأما القول الأول وهو أنها ناسخة فبين صحيح
وأما قول من قال إنها منسوخة فلا يصح لأنه ليس في قوله عز و جل
وما كان المؤمنون لينفروا كافة نسخ لفرض القتال
وأما قول من قال هى على الندب فغير صحيح لأن الأمر إذا وقع بشيء لم يحمل
على غير الواجب إلا بتوقيف من الرسول أو بدليل قاطع
وأما قول عطاء إنها فرض ولكن فرض على الصحابة فقول مرغوب عنه وقد رده
العلماء حتى قال الشافعي رحمه الله في إلزامه من قال وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلوة إن هذا للنبي خاصة ولا تصلي صلاة الخوف بعده فعارضه بقوله جل
وعز خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
فقول عطاء أسهل ردا من قول من قال هي على الندب لأن الذي قال هي على الندب
قال هي مثل قوله جل وعز كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت
قال أبو جعفر وهذا ليس على الندب وقد بيناه فيما تقدم
وأما قول من قال إن الجهاد فرض بالآية فقوله صحيح وهو قول حذيفة وعبدالله
بن عمر وقول الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا إلا أنه
فرض يحمله بعض الناس عن بعض فإن احتيج إلي الجماعة نفروا فرضا
واجبا لأن نظير كتب عليكم القتال كتب عليكم الصيام
قال حذيفة الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم
والصيام سهم والحج سهم والجهاد سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر
سهم ونظير الجهاد في أنه فرض يقوم به بعض المسلمين عن بعض الصلاة على
المسلمين إذا ماتوا ومواراتهم قال أبو عبيد وعيادة المريض ورد السلام
وتشميت العاطس
وأما قول من قال الجهاد نافلة فيحتج بأشياء وهو قول ابن عمر وابن شبرمة
الثوري
ومن حجتهم قول النبي رواه ابن عمر بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمد عبده ورسوله والصلاة والصيام والزكاة وحج البيت
قال أبو جعفر وهذا لا حجة فيه لأنه قد روي عن ابن عمر أنه قال استنبطت هذا
ولم يرفعه ولو كان رفعه صحيحا لما كانت فيه أيضا حجة لأنه يجوز أن يترك
ذكر الجهاد ههنا لأنه مذكور في القرآن أو لأن بعض الناس يحمله عن بعض فقد
صح فرض الجهاد بنص القرآن وسنة رسول الله
كما روى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي الخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة فسره العلماء أنه في الغزو وفي ذلك أحاديث
كثيرة كرهنا أن نطول الكتاب بها لأن فيما تقدم كفاية
والصحيح في الآية السادسة عشر أنها منسوخة
باب ذكر الآية السادسة عشر من هذه السورة
قال الله عز و جل يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير
أجمع العلماء على أن هذه الآية منسوخة فإن قتال المشركين في الأشهر الحرم
مباح غير عطاء فإنه قال الآية محكمة ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم
ويحتج له بما حدثنا إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد يعني ابن عبد الله بن
يونس قال حدثنا ليث عن أبي
الزبير عن جابر قال كان رسول الله لا يقاتل في الشهر الحرام إلا
أن يغزى أو يغزو فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ
قال أبو جعفر وهذا الحديث يجوز أن يكون قبل نسخ الآية وابن عباس وسعيد بن
المسيب وسليمان بن بشار وقتادة والأوزاعي على أن الآية منسوخة
فمن ذلك ما حدثناه عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام قال حدثنا عاصم بن
سليمان قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال وقوله يسئلونك عن الشهر
الحرام قتال فيه أي في الشهر الحرام قل قتال فيه كبير أي عظيم فكان القتال
فيه
محظورا حتى نسخته آية السيف في براءة فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
فأبيحوا القتال في الأشهر الحرم وفي غيرها
وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا
عبدالله قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة في قوله عز و جل يسئلونك
عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير فكان كذلك حتى نسخ هاتان
الآيتان في براءة فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
ثم قال جل وعز وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة
والأشهر الحرم عهد كان بين رسول الله وبين مشركي قريش انسلاخ أربعة أشهر
بعد يوم النحر لمن كان له عهد ومن لم يكن له عهد فإلى انسلاخ المحرم فأمر
الله جل وعز نبيه إذا انسلخت الأشهر الأربعة أن يقاتل المشركين في المحرم
وغيره حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
قال أبو جعفر هذه الأشهر التي ذكرها قتادة وقال هي الحرم هي أشهر السياحة
فسماها حرما لأنه حظر القتال فيها
فاما الأشهر الحرم فهي أربعة والعلماء يختلفون في اللفظ بها فمن أهل
المدينة من يقول أولها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ومنهم من يبدأ
برجب وأهل الكوفة يقولون أولها المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة وينكرون
ما قال أهل المدينة وقالوا قولنا أولى لتكون من سنة واحدة ومن قال من
المدنيين أولها رجب احتج بأن النبي قدم المدينة في شهر ربيع الأول فوجب أن
يكون أولها رجبا على هذا
قال أبو جعفر والأمر في هذا كله سهل لأن الواو لاتدل على أن
الثاني بعد الأول عند أحد من النحويين علمته
فإذا كان الأمر على هذا فالأولى أن يؤتى بالأشهر الحرم على ما لفظ به رسول
الله وأدى عنه بالأسانيد الصحاح وهو قول المدنيين الأول
روى أبو بكرة وغيره أن النبي خطب فقال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السموات والأرض فالسنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو
الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان
قال أبو جعفر وقد قامت الحجة بأن قوله جل وعز يسئلونك عن الشهر الحرام
قتال فيه منسوخ بما ذكرناه من نص القرآن وقول العلماء وأيضا فإن النقل
يبين ذلك لأنه نقل إلينا أن هذه الآية نزلت في جمادي الآخرة أو في رجب في
السنة الثانية من هجرة رسول الله إلى المدينة وقد قاتل رسول الله هوازن
بحنين وثقيفا بالطائف في شوال
وذي القعدة من الأشهر الحرم وذلك في سنة ثمان من الهجرة
قال أبو جعفر فهذا ما في القتال والجهاد من الناسخ والمنسوخ في هذه السورة
مجموعا بعضه إلى بعض ثم نرجع إلى ما فيها من ذكر الحج في الآية السابعة
عشر
باب ذكر الآية السابعة عشر من هذه السورة
قال الله جل وعز وأتموا الحج والعمرة لله الآية
وقد صح عن رسول الله أنه أمر أصحابه بعد أن أحرموا بالحج فنسخوه وجعلوه
عمرة
واختلف العلماء في نسخ أصحاب رسول الله الحج بعد أن أهلوا به إلى العمرة
فقالوا فيه أربعة أقوال
فمنهم من قال إنه منسوخ كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في وأتموا
الحج والعمرة لله إتمامهما أن لا يفسخا وقد قيل في إتمامهما غير هذا كما
قرئ على عبدالله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال أخبرنا روح قال
حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي بن أبي طالب رضي
الله
عنه في قول الله جل وعز وأتموا الحج والعمرة لله قال أن تحرم من
دويرة أهلك
وقال سفيان الثوري إتمام الحج والعمرة أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة
وقيل إتمامهما أن تكون النفقة حلالا
وقال مجاهد وإبراهيم إتمامهما أن يفعل فيهما كل ما أمرت به هذا قول جامع
وذهب أبو عبيد إلى أن فسخ الحج إلى العمرة منسوخ لما فعله الخلفاء
الراشدون المهديون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنهم لم يفسخوا
حجهم ولم يحلوا إلى يوم النحر فهذا قول في فسخ الحج أنه منسوخ
والقول الثاني أن فسخ الحج إنما كان لعلة وذلك أنهم كانوا لا يرون العمرة
في أشهر الحج ويرون أن ذلك عظيم فأمرهم رسول الله بفسخ الحج وتحويله إلى
العمرة ليعلموا أن العمرة في أشهر الحج جائزة والدليل على أنهم كانوا
يتحينون العمرة في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة في قول ابن
عمر وفي قول ابن عباس شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة
والقولان صحيحان لأن العرب تقول جئتك رجبا ويوم الجمعة وإنما جاء في بعضه
فذو الحجة شهر الحج لأن الحج فيه
وذلك أن أحمد بن شعيب حدثنا قال أخبرنا عبد الأعلى بن واصل بن
عبد الأعلى قال حدثنا أبو أسامة عن وهب بن خالد قال حدثنا عبد الله بن
طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر
فجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الوبر
وانسلخ صفر أو قال ودخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله وأصحابه
رضي الله عنهم صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم رسول الله أن يجعلوها عمرة
فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أى الحل نحل قال الحل كله
قال أبو جعفر فهذان قولان
والقول الثالث أن ابن عباس كان يرى الفسخ جائزا ويقول من حج فطاف بالبيت
فقد حل لا اختلاف في ذلك عنه
قال ابن أبي مليكة قال له عروه يا ابن عباس أضللت الناس قال له
بم ذلك يا عرية قال تفتي الناس بأنهم إذا طافوا بالبيت حلوا وقد حج أبو
بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يحلا إلى يوم النحر فقال له ابن عباس قال
الله عز و جل ثم محلها إلى البيت العتيق فأقول لك قال الله عز و جل ثم
تقول لي قال أبو بكر وعمر وقد أمر رسول الله بالفسخ
قال أبو جعفر وهذا القول إنفرد به ابن عباس كما انفرد بأشياء غيره
فأما قوله ثم محلها إلى البيت العتيق فليس فيه حجة لأن الضمير للبدن وليست
للناس ومحل الناس يوم النحر على قول الجماعة ولهذا سمي يوم الحج الأكبر
وذلك صحيح عن النبي
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن ابن عباس وإن كان قد روى
عن ابن عباس أنه يوم عرفات فهذه ثلاثة أقوال في فسخ الحج
والقول الرابع أصحها للتوقيف من رسول الله وهو أنه مخصوص كما حدثنا أحمد
بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد العزيز بن ربيعة عن أبي عبد
الرحمن عن الحارث عن بلال عن أبيه قال قلنا يا رسول الله أفسخ الحج لنا
خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة
قال أبو ذر كان فسخ الحج لنا رخصة
قال أبو جعفر فإن احتج محتج بقول النبي في غير هذا الحديث ذلك لأبد الأبد
فلا حجة له فيه لأنه يعني بذلك جواز العمرة في أشهر الحج
وأما حديث عمر رضي الله عنه أنه قال في المتعة إن أتيت بمن فعلها عاقبته
وكذا المتعة الأخرى فإحداهما المتعة المحرمة بالنساء التي هي بمنزلة الزنا
والأخرى فسخ الحج فلا ينبغي لأحد أن يتأول عليه أنها المتعة
في اشهر الحج لأن الله عز و جل قد أباحها بقوله عز و جل فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي
واختلف العلماء في العمرة فقال بعضهم هي واجبة بفرض الله عز و جل وقال
بعضهم هي واجبة بسنة رسول الله وقال بعضهم ليست واجبة ولكنها سنة
فممن يروى عنه أنه قال أنها واجبة عمر رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس
وهو قول الثوري والشافعي رحمة الله عليهما
فأما السنة فحدثنا احمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا
خالد قال حدثنا شعبة قال سمعت النعمان بن سالم قال سمعت عمرو بن أوس يحدث
عن أبي رزين أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا
العمرة ولا الظعن قال حج عن أبيك واعتمر
واحتج قوم في وجوبها بظاهر قول الله عز و جل ولله على الناس حج
البيت والحج القصد فهو يقع للحج والعمرة وقال عز و جل يوم الحج الأكبر
والحج الأصغر العمرة إلا أن أهل اللغة يقولون اشتقاق العمرة من غير إشتقاق
الحج لأن العرب تقول اعتمرت فلانا أي زرته بمعنى العمرة زيارة البيت ولهذا
كان ابن عباس لا يرى العمرة زيارة لأهل مكة لأنهم بها فلا معنى لزيارتهم
إياها والحج في اللغة القصد
وممن قال العمرة غير واجبة جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وهو قول مالك
رحمه الله وأبى حنيفة
وقال من احتج لهم روى الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قيل
يارسول الله العمرة واجبة قال لا وأن تعتمروا خير لكم
قال أبو جعفر وهذا لا حجة فيه لأن الحجاج بن أرطاة يدلس عن من لقيه وعن من
لم يلقه فلا يقوم لحديثه حجة إلا أن يقول حدثنا أو أخبرنا أو سمعت ولكن
الحجة في ذلك قول من قال الفرائض لا تقع باختلاف وانما تقع باتفاق
ومما يدخل في هذا الباب الاشتراط في الحج وهو أن يقول إذا لبى
بالحج إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني
فممن قال بالاشتراط بالحج عمر وعلي رضي الله عنهما وابن مسعود ومعاذ وسعيد
بن جبير وعطاء والحسن وقتادة وابن سيرين وهو قول أحمد بن محمد بن حنبل
وإسحق بن راهويه وقول الشافعي رحمه الله بالعراق ثم تركه بمصر
وممن لم يقل به مالك والشافعي بمصر وأبو حنيفة رحمهم الله
وحجة الذين قالوا به ما حدثناه أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحق بن إبراهيم
قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن
هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله دخل على ضباعة
فقالت يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال حجي واشترطي أن محلي
حيث تحبسني قال إسحق قلت لعبد الرزاق الزهري وهشام قالا عن
عائشة قال نعم كلاهما قال أحمد بن شعيب لم يصله إلا عبد الرزاق
عن معمر فلا أدري من أيهما ذلك
قال وحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن يزيد قال حدثنا شعيب وهو ابن
إسحق قال حدثنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاووسا وعكرمة
يخبران عن ابن عباس قال جاءت ضباعة ابنة الزبير إلى رسول الله فقالت إني
امرأة ثقيلة وأنا أريد الحج فكيف تأمرني أن أصنع قال أهلي واشترطي أن محلي
حيث حبستني
قال أبو جعفر أهلي معناه لبي وأصله من رفع الصوت ومنه استهل المولود ومنه
ما أهل به لغير الله فقد صح عن النبي الاشتراط في الحج فقال بهذا من
ذكرناه واتبعوا ما جاء عن الرسول فكرهه قوم واحتجوا بحديث الزهري عن سالم
عن أبيه أنه كره الاشتراط في الحج وقال أما حسبكم سنة نبيكم إنه لم يشترط
واحتج بعض من كرهه بأن النبي إنما قال لها واشترطي أن محلي حيث حبستني ولم
يقل لها إنه ليس عليك حج إن أحضرت
قال أبو جعفر وفي الآية فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر
من الهدي
فكان هذا ناسخا لما كانوا يعتقدونه من أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج
فجازت في أشهر الحج وجاز القرآن ولم يكونوا يستعملونه ثم اختلف العلماء في
حجة الوداع فقال قوم إن رسول الله أفرد الحج فيها وقال قوم بل تمتع
بالعمرة إلى الحج وقال قوم بل قرن وجمع بين الحج والعمرة
قال أبو جعفر وكل هذا مروي بأسانيد صحاح حتى طعن بعض أهل الأهواء وبعض
الملحدين في هذا وقالوا هذه الحجة التي حجها رسول الله أجمع ما كان أصحابه
فقد اختلفتم فيها وهى أصل من أصول الدين فكيف نقبل منكم ما رويتموه من
أخبار الآحاد
وهذا الطعن من أحد اثنين إما أن يكون الطاعن به جاهلا باللغة التي خوطب
بها القوم وإما أن يكون جائرا عن الحق
قال أبو جعفر وسنذكر أصح ما روي من الاختلاف في هذا ونبين أنه غير متضاد
وقد قال الشافعي رحمه الله هذا من أيسر ما اختلفوا فيه وإن كان قبيحا وهذا
كلام صحيح لأن المسلمين قد أجمعوا أنه يجوز الإفراد والتمتع والقران وإن
كان بعضهم قد اختار بعض هذا
كما قريء على أحمد بن محمد بن خالد البراثي عن خلف بن
هشام المقريء قال سمعت مالك بن أنس رحمه الله في الإفراد بالحج
أنه أحب إليه من التمتع والقران قال وليس على المفرد هدي
قال البراثي وحدثنا عبد الله بن عون قال حدثنا مالك بن أنس عن عبد الرحمن
بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله أفرد الحج فهذا
إسناد مستقيم لا مطعن فيه
والحجة لمن اختار الإفراد أن المفرد اكثر تعبا من المتمتع لإقامته على
الإحرام فرأى أن ذلك أعظم لثوابه
والحجة في إتفاق الأحاديث أن رسول الله لما أمر بالتمتع والقرآن جاز أن
يقال تمتع رسول الله وقرن كما قال جل وعز ونادى فرعون في قومه
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجمنا ورجم رسول الله وإنما أمرنا بالرجم
وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبدالله بن يوسف قال حدثنا مالك عن
نافع عن ابن عمر أن رسول الله قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وإنما أمر من
قطع فلما كان رسول الله قد أمر بالتمتع والقران جاز هذا
ومن الدليل على أمره بذلك أن أحمد بن شعيب حدثنا قال أخبرنا يحيى بن حبيب
بن عربي قال حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
قالت خرجنا مع رسول الله موافين لهلال ذي الحجة فقال من شاء منكم أن يهل
بحجة فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة
قال أبو جعفر هذا احتاج لمن رأى إفراد الحج وسنذكر غيره فأما التمتع
بالعمرة إلى الحج فهذا موضع ذكره
قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن عبدالله بن
بكر عن الليث بن سعد قال حدثني عقيل عن الزهري قال أخبرني سالم
بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال تمتع رسول الله بالعمرة إلى الحج
وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع
الناس مع رسول الله بالعمرة الى الحج وساق الحديث
قال الزهري وأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله في تمتعه
بالعمرة إلى الحج مثل الذي أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله
قال أبو جعفر فإن قال قائل هذا متناقض رويتم عن القاسم عن عائشة أن رسول
الله أفرد الحج ورويتم ههنا عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها
التمتع قيل له الحديثان متفقان وذلك بين ألا ترى أن في هذا الحديث نصا
وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج أفلا ترى الحج مفردا من العمرة
فهذا بين جدا
وحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن المثنى عن عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال قدمت على رسول الله وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت بإهلال النبي قال هل سقت من هدى قلت لا قال طفت بالبيت وبالصفا والمروة وحل فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي ولم أزل أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإني لقائم بالموسم إذا أتاني رجل فقال إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك فقلت يا أيها الناس من أفتيناه بشيء فليتئد فإن أمير المؤمنين قادم فأتموا به فلما قدم قلت يا أمير المؤمنين ما أحدثت في النسك قال أن نأخذ بكتاب الله تعالى فقد قال الله عز
وجل وأتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة نبينا محمد فإنه لم
يحل حتى نحر الهدى
قال أبو جعفر قوله فليتئد معناه فليتلبث مشتق من التؤدة وقوله لم يحل أي
لم يحل من إحرامه أي لم يستحل لبس الثياب والطيب وما أشبههما
وفي هذا الحديث من رسول الله أمر أبي موسى بالتمتع وفيه أن أبا موسى توقف
عن الفتيا بالتمتع وقد أمر به رسول الله إلى أن وافى عمر رضي الله عنه
فلما وافى عمر رضي الله عنه منع من التمتع فلم يرده أبو موسى لأن النبي قد
أجاز غيره فدل هذا على أن إمام المسلمين إذا اختار قولا يجوز ويجوز غيره
وجب أن لا يخالف عليه
ونظير هذا أن رسول الله قال أنزل القرآن على سبعة أحرف فرأى عثمان رضي
الله عنه أن يزيل منه ستة وأن يجمع الناس على حرف واحد فلم يخالفه أكثر
الصحابة حتى قال علي رضي الله
عنه لو كنت موضعه لفعلت كما فعل
وفي هذا الحديث أن رسول الله قال لأبي موسى طف بالبيت وبين الصفا والمروة
وحل ولم يقل له احلق ولا قصر فدل على أن الحلق والتقصير غير واجبين
وفيه أهللت بإهلال النبي فدل هذا على أن هذا جائز لمن فعله
وقال بعض أهل العلم هذا يدل على أنه جائز أن يلبي الرجل ولا يريد حجا ولا
عمرة ثم يوجب بعد ذلك ما شاء واستدل قائل هذا على أن النبي لبى مرة
بالإفراد ومرة بالتمتع ومرة بالقران حتى نزل عليه القضاء فقرن
وقال بعض أهل العلم كان رسول الله قارنا وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر
واتفقت الأحاديث
قال أبو جعفر ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله أهل بعمرة فقال من رآه
تمتع ثم أهل بحجة فقال من رآه أفرد ثم قال لبيك بحجة وعمرة فقال من سمعه
قرن فاتفقت الأحاديث
والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن رسول الله أنه قال أفردت ولا تمتعت وصح
عنه أنه قال قرنت كما حدثنا أحمد بن شعيب
قال أخبرني معاوية بن صالح قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا
حجاج قال حدثنا يونس عن أبي إسحاق عن البراء قال كنت مع علي بن أبي طالب
رضي الله عنه حين أمره رسول الله على اليمن فلما قدم على النبي قال علي
أتيت رسول الله فقال لي رسول الله ماذا صنعت قلت أهلك بإهلالك قال فإني
سقت الهدى واقرنت ثم أقبل على أصحابه فقال لو استقبلت من أمري كما استدبرت
لفعلت كما فعلتم ولكن سقت الهدى واقرنت
وحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا يعقوب قال حدثنا
هشيم قال أخبرنا حميد قال حدثنا بكر بن عبد الله المزني قال
سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله يلبي بالعمرة والحج جميعا فحدثت ذلك
ابن عمر فقال لبي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال ما تعدوننا إلا
صبيانا سمعت رسول الله يقول لبيك حجة وعمرة معا
قال أبو جعفر فهذه أحاديث بينة ونزيدك في ذلك بيانا أن بكر بن سهل حدثنا
قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة
قالت قلت يا رسول الله ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحل قال إني
لبدت رأسي وسقت هديي فلا أحل حتى أنحر وهذا بين أنه كان قارنا لأنه لو كان
متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدى
فهذا ما في الحج من ناسخ ومنسوخ واحتجاج
ونذكر بعده ما في الخمر من النسخ ونذكر قول من قال إن الآية التي في سورة
البقرة ناسخه لما كان مباحا من شرب الخمر وقول من قال إنها
منسوخة ونذكر ما هو بمنزلة الخمر من الشراب وما يدل على ذلك من الأحاديث الصحاح عن رسول الله وما يدل من المعقول ومن الاشتقاق واللغة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام وأنه خمر ونذكر الشبهة التي أدخلها قوم وهذا كله في الآية الثامنة عشرة
باب ذكر الآية الثامنة عشر من هذه السورة
قال الله جل وعز يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس
وإثمهما أكبر من نفعهما
قال جماعة من العلماء هذه الآية ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر
وقال آخرون هي منسوخة بتحريم الخمر في قوله عز و جل فاجتنبوه
قال أبو جعفر وسنذكر حجج الجميع
فمن قال إنها منسوخة احتج بأن المنافع التي فيها إنما كانت قبل التحريم ثم
نسخت وأزيلت كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال
حدثنا إبراهيم بن عبد الله عن محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك في قوله
تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس قال
المنافع قبل التحريم
وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا محمد بن هارون قال حدثنا صفوان عن عمر بن عبد الواحد عن عثمان بن عطاء عن أبيه يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس قال نسختها يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى يعني المساجد ثم أنزل ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا
ورزقا حسناا ثم أنزل يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان واحتج من قال إنها ناسخة بالأحاديث
المتواترة التي فيها بيان علة نزول تحريم الخمر وبغير ذلك
قال أبو جعفر فمن الحجج ما قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج أن عبد العزيز
بن عمران بن أيوب بن مقلاص حدثهم سنة تسع وعشرين ومائتين قال حدثنا محمد
بن يوسف قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن
عمر أنه قال
اللهم بين لنا في الخمر فنزلت يسألونك عن الخمر والميسر فقرئت
عليهم فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال
فنزلت يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون
وكان منادي رسول الله ينادي وقت الصلاة لا يقربن الصلاة سكران فدعى عمر
رضي الله عنه فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها
تذهب العقل والمال فنزلت يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله فهل أنتم منتهون فقال عمر
رضي الله عنه انتهينا انتهينا
قال أحمد بن محمد بن الحجاج وحدثنا عمر بن خالد سنة خمس وعشرين قال حدثنا
زهير قال حدثنا سماك قال حدثني مصعب بن سعد عن سعد قال مررت بنفر من
المهاجرين
والأنصار فقالوا لي تعال نطعمك ونسقيك خمرا وذلك قبل أن تحرم
الخمر قال فأتيتهم في حش قال والحش البستان فإذا عندهم رأس جزور مشوي وزق
خمر فأكلنا وشربنا فذكرت الأنصار فقلت المهاجرون خير من الأنصار فأخذ رجل
منهم أحد لحيي الرأس فجرح به أنفي فأتيت رسول الله فأخبرته فنزلت ياأيها
الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
قال أبو جعفر وفي حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس نزل تحريم الخمر في حيين
من قبائل الأنصار لما ثملوا شج بعضهم بعضا ووقعت بينهم الضغائن فنزلت
ياأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان إلى منتهون
قال أبو جعفر فهذا يبين أن الآية ناسخة
ومن الحجة لذلك أيضا أن جماعة من الفقهاء يقولون تحريم الخمر بآيتين من
القرآن بقوله عز و جل قل فيهما إثم كبير وبقوله عز و جل قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم
فلما حرم الإثم وأخبر أن في الخمر إثما وجب أن تكون محرمة
فأما قول من قال إن الخمر يقال لها الإثم فغير معروف من حديث ولا لغة
والقول الأول جائز وأبين منه أنها محرمة بقوله عز و جل فاجتنبوه
فإذا نهى الله عن شيء فهو محرم
وفي الأحاديث التي ذكرناها ما يحتاج إلى تفسير
فمن ذلك ثملوا معناه سكروا وبعضهم يروي في حديث سعد ففزر به أنفي أي فلقه
وشقه ومنه فزرت الثوب والفزر القطعة من الغنم
وفي الأحاديث في سبب نزول تحريم الخمر أسباب يقول القائل كيف يتفق بعضها
مع بعض وعمر رضي الله عنه يقول شيئا وسعد يقول غيره وابن عباس قد أتى
بسواهما
قال أبو جعفر فالجواب أن الأحاديث متفقة لأن عمر رضي الله عنه سأل بيانا
شافيا في تحريم الخمر ولم يقل نزلت في ذلك ولا في غيره فيجوز أن يكون سؤال
عمر رضي الله عنه وافق ما كان من سعد بن أبي وقاص ومن الحيين اللذين من
قبائل الأنصار فتتفق الأحاديث ولا تتضاد
وفيها من الفقه أن منادي رسول الله كان ينادي وقت الصلاة لا يقربن الصلاة
سكران فدل بهذا على أن القول ليس كما قال بعض الفقهاء أن السكران الذي لا
يعرف السماء من الأرض ولا الذكر من الأنثى وأن رجلا لو قال له وأشار إلى
السماء ما هذه فقال الأرض لم يكن سكران لأنه قد فهم عنه كلامه
قال أبو جعفر ولو كان الأمر على هذا لما جاز أن يخاطب من لا
يعرف الذكر من الأنثى ولا يفهم الكلام فيقال له لا تقرب الصلاة وأنت سكران
فتبين بهذا الحديث أن السكران هو الذي أكثر من التخليط
وقد حكى أحمد بن محمد بن الحجاج أن أحمد بن صالح سئل عن السكران فقال أنا
آخذ فيه بما رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن يعلى بن منية عن أبيه قال
سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حد السكران فقال هو الذي إذا استقرأته
سورة لم يقرأها وإذا خلطت ثوبه مع ثياب لم يخرجه
وفي الحديث من الفقه أن قوله لا يقربن الصلاة سكران قد دل على
أن قول الله عز و جل لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ليس من النوم وأنه من
الشرب حين كان مباحا وقد تبين أن الآية ناسخة لما ذكرنا
وبقي البيان عن الخمر المحرمة ما هي لأن قوما قد أوقعوا في هذا شبهة
فقالوا الخمر هي المجتمع عليها ولا يدخل فيها ما اختلف فيه وهذا ظلم من
القول يجب على قائله أن لا يحرم شيئا اختلف فيه وهذا عظيم من القول
واحتج أيضا بأن من قال الخمر التي لا اختلاف فيها محلها كافر وليس كذا
غيرها وهذان الاحتجاجان أشد ما لهم
فأما الأحاديث التي جاءوا بها فلا حجة فيها لضعف أسانيدها ولتأويلهم إياها
على غير حق وقد قال عبد الله بن المبارك ما صح تحليل النبيذ الذي يسكر
كثيره على أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن إبراهيم النخعي
قال أبو جعفر فأما الاحتجاجان الأولان اللذان يعتمدون عليهما قد
بينا الرد في أحدهما وسنذكر الآخر
فالخمر المحرمة تنقسم قسمين أحدهما المجمع عليها وهي عصير العنب إذا رغا
وأزبد فهذه الخمر التي من أحلها كان كافرا والخمر الأخرى التي من أحلها
ليس بكافر فهي التي جاء بها التوقيف عن رسول الله أنها الخمر وعن أصحابه
رضي الله عنهم بالأسانيد التي لا يدفعها إلا صاد عن الحق أو جاهل إذ قد صح
عنه تسميتها خمرا وتحريمها
فمن ذلك ما حدثناه بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك
بن أنس عن ابن شهاب عن أبي سلمه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سئل
رسول الله عن البتع فقال كل شراب أسكر حرام
قال أبو جعفر فلو لم يكن في هذا الباب إلا هذا الحديث لكفى لصحة إسناده
واستقامة طريقه
وقد أجمع الجميع أن الآخر لا يسكر إلا بالأول فقد حرم الجميع بتوقيف رسول
الله
وفي هذا الباب مما لا يدفع ما قريء على أبي القاسم عبد الله بن
محمد بن عبد العزيز عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله قال
حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال
قال رسول الله كل مسكر خمر وكل مسكر حرام قال أبو عبد الله هذا إسناد صحيح
قال أبو عبد الله حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا ابن جريح قال أخبرني موسى
بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال كل مسكر حرام وكل مسكر خمر
قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وحدثنا ابن يزيد بن هارون قال
أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر قال قال رسول الله كل مسكر
خمر وكل مسكر حرام
قال أبو عبد الله وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن سعيد
بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله حين وجه أبا موسى ومعاذ بن
جبل إلى اليمن فقال أبو موسى يا رسول الله إنا بأرض يصنع فيها شراب من
العسل يقال له البتع وشراب من شعير يقال له المزر فقال رسول الله كل مسكر
حرام
قال أبو عبد الله وحدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي
هريرة عن النبي قال كل مسكر حرام
فهذه الأسانيد المتفق على صحتها
وقريء علي أبي بكر أحمد بن عمرو عن علي بن الحسين الدرهمي قال حدثنا أنس
بن عياض قال حدثنا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن
النبي قال ما أسكر كثيره فقليله حرام
قال أبو جعفر فهذا تحريم قليل ما أسكر كثيره نصا عن رسول الله بهذا
الإسناد المستقيم
قال أبو بكر أحمد بن عمرو وقد روى التحريم عائشة رضي الله عنها وسعد بن
أبي وقاص وجابر وعمر رضي الله عنهم وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وعبد
الله بن عمر وأبو هريرة وقرة بن إياس
وخوات بن جبير والديلم بن الهوسع وأبو موسى الأشعري وبريدة
الأسلمي وأم سلمة وميمونة وقيس بن سعد
وإسناد حديث عائشة رضي الله عنها وابن عمر وأنس صحيح وسائر الأحاديث يؤيد
بعضها بعضا
قال أبو جعفر وقريء على أحمد بن شعيب بن علي بن أبي
عبدالرحمن عن هشام بن عمار قال حدثنا صدقة بن خالد عن زيد بن
واقد قال أخبرني خالد بن عبد الله بن حسين عن أبي هريرة قال علمت أن رسول
الله كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته له في دباء فجئته به فقال ادنه
فأدنيته فإذا هو ينش فقال اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله
واليوم الآخر
قال أبو عبد الرحمن وفي هذا دليل على تحريم المسكر قليله وكثيره ليس كما
يقوله المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشربة وتحليلهم ما تقدمها الذي سرى
في العروق قبلها قال ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكليته لا يحدث عن
الشربة الآخرة دون الأولى والثانية بعدها
قال أبو عبدالرحمن وأخبرنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا يحيى عن
عبيد الله قال حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال ما أسكر
كثيره فقليله حرام
قال أبو عبد الرحمن إنما يتكلم في حديث عمرو بن شعيب إذا رواه عنه غير
الثقات فأما إذا رواه الثقات فهو حجة وعبد الله بن عمرو جد عمرو بن شعيب
كان يكتب ما سمع من النبي وحديثه من أصح الحديث
قال أبو عبد الرحمن وأخبرنا إسحق بن إبراهيم قال أخبرنا أبو
عامر والنضر بن شميل ووهب بن جرير قالوا حدثنا شعبة عن سلمة بن كهل قال
سمعت أبا الحكم يحدث قال قال ابن عباس من سره أن يحرم إن كان محرما ما حرم
الله ورسوله فليحرم النبيذ
قال أبو عبد الرحمن وأخبرنا قتيبة قال حدثنا عبد العزيز عن عمارة بن غزية
عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا من جيشان وجيشان من اليمن قدم فسأل رسول
الله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله
أومسكر هو قال نعم قال رسول الله كل مسكر حرام إن الله عز و جل عهد لمن
شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما
طينة الخبال قال عرق أهل النار أو قالت عصارة أهل النار
وما يبين أن الخمر يكون من غير عصير العنب من لفظ رسول الله وأصحابه رضي
الله عنهم ومن اللغة ومن الإشتقاق
فأما لفظ رسول الله مما لا يدفع إسناده أنه قريء على أحمد بن شعيب عن سويد
بن نصر عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال حدثني أبو كثير واسمه يزيد بن عبد
الرحمن قال أبو عبد الرحمن وأخبرنا حميد بن مسعدة عن سفيان وهو ابن حبيب
عن الأوزاعي قال حدثنا أبو كثير قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله
الخمر من هاتين قال سويد في هاتين الشجرتين النخلة والعنبة فوقفنا رسول
الله على أن الخمر من النخلة فخالف ذلك قوم وقالوا لا يكون إلا من العنبة
ثم نقضوا قولهم وقالوا نقيع التمر والزبيب خمر لأنه لم يطبخ
وقريء على أحمد بن عمرو وأبي بكر عن علي بن سعيد المسروقي قال
حدثنا عبد الرحيم بن سليمان قال حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن
النعمان بن بشير عن النبي قال الخمر من خمسة من الحنطة والشعير والتمر
والزبيب والعسل وما خمرته فهو خمر
وقريء على أحمد بن شعيب عني عقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية قال حدثنا
أبو حيان قال حدثنا الشعبي عن ابن عمر قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يخطب على منبر المدينة قال أيها الناس ألا إنه نزل تحريم الخمر يوم
نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر
العقل
قال أبو جعفر فهذا توقيف في الخمر أنها من غير عنب وفيه بيان
الاشتقاق أنه ما خامر العقل مشتق من الخمر وهو كل ما وارى من نخل وغيره
فقيل خمر لأنها تستر العقل ومنه فلان مخمور يقال هذا فيما كان من عصير
العنب وغيره لا فرق بينهما وما منهما إلا ما يريد الشيطان أن يوقع بينهم
فيه العداوة والبغضاء ويصد به عن ذكر الله وعن الصلاة فالقليل من هذا ومن
هذا واحد
فهذا أصح ما قيل في اشتقاقها وأجله إسنادا قال عمر رضي الله عنه على
المنبر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم
وأما سعيد بن المسيب فروى عنه أنه قال إنما سميت الخمر خمرا لأنها صعد
صفوها ورسب كدرها
قال أبوجعفر فاشتقاق هذا أيضا على أن الصفو ستر الكدر
وقال بعض المتأخرين سميت خمرا لأنها تخمر أي تغطى وسمي نبيذا لأنه ينبذ
ولو صح هذا لكان النبيذ أيضا يخمر
ومما يشبه ما تقدم ما حدثناه بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال
حدثنا مالك عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال كنت أسقي
أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة
الأنصاري وأبي بن كعب شراب فضيخ وتمر فجاءهم آت فقال إن الخمر
قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى تلك الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس
لنا فدفعتها بأسفله فكسرتها
قال أبو جعفر ففي هذه الأحاديث من الفقه تصحيح قول من قال إن ما أسكر
كثيره فقليله حرام عن النبي والصحابة رضي الله عنهم ثم كان الصحابة على
ذلك وبه يفتون أشدهم فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطبهم نصا بأن ما
أسكر كثيره فقليله حرام ثم ابن عمر لما سئل عن نبيذ ينبذ بالغداة ويشرب
بالعشي قال محمد بن سيرين إني أنهاك عن قليل ما أسكر كثيره وإني أشهد الله
عز و جل عليك فإن أهل خيبر يشربون شرابا يسمونه كذا وهي الخمر وإن أهل فدك
يشربون شرابا يسمونه كذا وهي الخمر وإن أهل مصر يشربون شرابا من العسل
يسمونه البتع وهي الخمر
ثم عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن غير عصير العنب فقالت صدق الله ورسوله
سمعت رسول الله يقول يشرب قوم
الخمر يسمونها بغير أسمائها فلم يزل الذين يروون هذه الأحاديث
يحملونها على هذا عصرا بعد عصر حتى عارض فيها قوم فقالوا المحرم الشربة
الآخرة التي تسكر وقالوا قد قالت أهل اللغة الخبز المشبع والماء المروي
قال أبو جعفر فإن صح هذا في اللغة فهو عليهم لا لهم لأنه لا يخلو من إحدى
جهتين إما أن يكون معناه للجنس كله أي صفة الخبز أنه يشبع وصفة الماء أنه
يروي فيكون هذا لقليل الخبز وكثيره لأنه جنس فكذا قليل ما يسكر
أو يكون الخبز المشبع فهو لا يشبع إلا بما كان قبله فكذا قليل المسكر
وكثيره وإن كانوا قد تأولوه على أن معنى المشبع هو الآخر الذي يشبع وكذا
الماء المروي فيقال لهم ما حد ذلك المروي والذي لا يروى فإن قالوا لا حد
له فهو كله إذا مرو وإن حدوه قيل لهم ما
البرهان على ذلك وهل يمتنع الذي لا يروي مما حددتموه أن يكون
يروي عصفورا وما أشبهه فبطل الحد وصار القليل مما يسكر كثيره داخلا في
التحريم
وعارضوا بأن المسكر بمنزلة القاتل لا يسمى مسكرا حتى يسكر كما لا يسمى
القاتل قاتلا حتى يقتل
قال أبو جعفر وهذا لا يشبه من هذا شيئا لأن المسكر جنس وليس كذا القاتل
ولو كان كما قالوا لوجب ألا يسمى الكثير من المسكر مسكرا حتى يسكر فكان
يجب أن يحلوه وهذا خارج عن قول الجميع
وقالوا معنى كل مسكر حرام على القدح الذي يسكر وهذا
خطأ من جهة اللغة وكلام العرب لأن كل معناها العموم فالقدح الذي
يسكر مسكر والجنس كله مسكر وقد حرم رسول الله الكل فلا يجوز الاختصاص إلا
بتوقيف وإنما قولنا مسكر يقع للجنس القليل والكثير كما يقال التمر بالتمر
زيادة ما بينهما ربا فدخل في هذه التمرة والتمرتان والقليل لكثير كما دخل
في كل مسكر القليل والكثير وشبه بعضهم هذا بالدواء والبنج الذي يحرم كثيره
ويحل قليله وهذا التشبيه البعيد لأن النبي قال ما أسكر كثيره فقليله حرام
وقال كل مسكر خمر فالمسكر وهو الخمر هو الجنس الذي قال الله عز و جل فيه
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر وليس
هذا في الدواء والبنج وإنما هو في كل شراب فهو هكذا
وعارضوا بأن قالوا فليس ما أسكر كثيره بمنزلة الخمر في كل أحواله
قال أبو جعفر وهذه مغالطة وتمويه على السامع لأنه لا يجب من هذا إباحة وقد
علمنا أنه ليس من قتل مسلما غير نبي بمنزلة من قتل نبيا فليس يجب إذا لم
يكن بمنزلة في جميع الأحوال ان يكون مباحا كذا من شرب ما أسكر كثيرة وإن
لم يكن بمنزلة من شرب عصير العنب الذي قد نش فليس يجب من هذا أن يباح له
ما قد شرب ولكنه بمنزلته في أنه قد شرب محرما وشرب خمرا وأنه يحد في
القليل منه كما يحد في القليل من الخمر
وهذا قول من لا يدفع قوله منهم عمر وعلي رضي الله عنهما ومعنى
كل مسكر خمر يجوز أن يكون بمنزلة الخمر في التحريم وأن يكون المسكر كله
يسمى خمرا كما سماه رسول الله ومن ذكرنا من الصحابة والتابعين بالأسانيد
الصحيحة
وقد عارض قوم بعض الأسانيد من غير ما ذكرناه
فمن ذلك ما قريء على عبد الله بن محمد بن عبد العزيز عن شيبان بن ميمون بن
فروخ عن مهدي قال حدثنا أبو عثمان الأنصاري قال حدثنا القاسم بن محمد عن
عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله كل مسكر حرام وما أسكر الفرق فملء
الكف منه حرام
قال أبو جعفر الفرق بفتح الراء لا غير وهو ثلاث آصوع وكذا فرق الصبح
بالفتح وكذا الفرق من الفرع والفرق أيضا تباعد ما بين الشيئين فأما الفرق
بإسكان الراء ففرق الشعر وكذا الفرق بين الحق والباطل وقريء على أبي
القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز عن أبي سعيد الأشج عن
الوليد بن كثير قال حدثنا الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله
بن الأشج عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله أنهاكم عن قليل ما
أسكر كثيره
قال أبو القاسم وحدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله حدثنا
سليمان بن داود يعني الهاشمي قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا داود بن
بكر يعني بن أبي الفرات قال حدثنا محمد بن المكندر عن جابر قال قال رسول
الله ما أسكر كثيره فقليله حرام
قال أبو جعفر فمن عجيب ما عارضوا به أن قالوا أبو عثمان
الأنصاري مجهول والمجهول لا يقوم به حجة قيل لهم ليس بمجهول والدليل على
ذلك أنه قد روى عنه الربيع بن صبيح وليث بن أبي سليم ومهدي بن ميمون ومن
روي عنه اثنان فليس بمجهول
وقالوا الضحاك بن عثمان مجهول قيل لهم قد روى عنه عبد العزيز بن محمد وعبد
العزيز الدراودي بن أبي حازم ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وابن أبي فديك
وقالوا داود بن بكر مجهول قيل لهم قد روى عنه إسماعيل بن جعفر وأنس بن
عياض
وإنما يعجب من معارضتهم بهذا لأنهم يقولون في دين الله عز و جل بما رواه
أبو فزارة زعموا عن أبي زيد عن ابن مسعود أنه كان مع النبي ليلة الجن وأنه
توضأ بنبيذ التمر وأبو زيد لا يعرف ولا يدري من أين هو
وقد روى إبراهيم عن علقمة قال سألت عبد الله هل كنت مع النبي ليلة الجن
فقال لا وبودي أن لو كنت معه
ويحتجون بحديث رووه قال أبو جعفر سنذكره بإسناده عن أبي إسحاق
عن ابن ذي لعوة أن عمر رضي الله عن حد رجلا شرب من أدواته قال أحدك على
السكر
وهذا من عظيم ما جاءوا به وابن ذي لعوة لا يعرف
وهكذا قول أبي بكر بن عياش لعبد الله بن إدريس حدثنا أبو إسحق عن أصحابه
أن ابن مسعود كان يشرب الشديد فقال له عبد الله بن إدريس استحييت لك يا
شيخ من أصحابه وأبو إسحق إذا سمى من حدث عنه ولم يقل سمعت لم تكن حجة
وما هذا الشديد أهو خل أم نبيذ
ولكن حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سملة ابن عمر وأبي هريرة أن
رسول سلمة الله قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام
وحدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال كل
شراب أسكر حرام
فأفحم أبو بكر بن عياش
وكان عبد الله بن إدريس في الكوفيين متشددا في تحريم قليل ما أسكر كثيره
وقال الأوزاعي قلت لسفيان الثوري إن الله عز و جل لا يسألني يوم القيامة
لم لم تشرب النبيذ ويسألني لم شربته فقال لا أفتي به أبدا
وقال أبو يوسف في أنفسنا من الفتيا به أمثال الجبال ولكن عادة البلد
ثم اجتمعوا جميعا على تحريم المعاقرة وتحريم النقيع وقال أبو حنيفة هو
بمنزلة الخمر
فأما الأحاديث التي أحتجوا بها فما علمت أنها تخلو من إحدى جهتين إما أن
تكون واهية الأسانيد وإما أن تكون لا حجة لهم فيها إلا التمويه فرأينا أن
نذكرها ونذكر ما فيها ليكون الباب كامل المنفعة
فمن ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا روح قال حدثنا
عمرو بن خالد قال حدثنا أبو إسحق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر رضي الله
عنه حين طعن فجاءه الطبيب فقال أي الشراب أحب اليك قال النبيذ قال فأتى
بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته وكان يقول إنا نشرب من هذا النبيذ شرابا
يقطع لحوم الإبل قال وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ
قال أبو جعفر هذا الحديث لا تقوم به حجة لأن أبا إسحق لم يقل حدثنا عمرو
بن ميمون وهو مدلس لا يقوم بحديثه حجة حتى يقول حدثنا أو ما أشبهه
ولو صححنا الحديث على قولهم لما كانت لهم فيه حجة لأن النبيذ غير محظور
إذا لم يسكر كثيره ومعنى النبيذ في اللغة منبوذ وإنما هو ما نبذ فيه تمر
أو زبيب أو نظيرهما مما يطيب الماء ويحليه لأن مياه المدينة كانت غليظة
فما في هذا الحديث من الحجة
واحتجوا بما حدثناه أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا فهد قال حدثنا عمر بن
حفص بن غياث قال حدثني أبي عن الأعمش قال حدثني حبيب بن أبي ثابت عن نافع
بن علقمة قال أمر عمر رضي الله عنه بنزل له في بعض تلك المنازل فأبطأ
عليهم ليلة فجيء بطعام فطعم ثم أتى بنبيذ قد أخلف واشتد فشرب منه ثم قال
إن هذا لشديد ثم أمر بماء فصب عليه ثم شرب هو وأصحابه
قال أبو جعفر هذا الحديث فيه غير علة منها أن حبيب بن أبي ثابت
على محله لا يقوم بحديثه حجة لمذهبه وكان مذهبة أنه قال لو حدثني رجل عنك
بحديث ثم حدثت به عنك لكنت صادقا
قال أبو جعفر ومن هذا أنه روي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ فعيب بعض الناس لأنه رد بهذا على الشافعي
رحمه الله لأنه أوجب الوضوء في القبلة فقيل له لا يثبت بهذا حجة لانفراد
حبيب به
قال أبو جعفر وفيه من العلل أن نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرواية ولو صح
الحديث عن عمر رضي الله عنه لما كانت فيه حجة لأن إشتداده قد يكون من
حموضته
وقد اعترض بعضهم فقال من اين لكم أن مزجه بالماء كان لحموضته أفتقولون هذا
ظنا فالظن لا يغني من الحق شيئا قال وليس يخلو من أن يكون نبيذ عمر رضي
الله عنه يسكر كثيره أو يكون خلا
فهذه المعارضة على من عارض بها لا له لأنه الذي قال بالظن لأنه قد ثبتت
الرواية عن من قد صحت عدالته أن ذلك من حموضته فقال نافع كان ناسخا له
لتخلله وهم قد رووا حديثا متصلا فيه أنه كان مزجه إياه لأنه كاد يكون خلا
قال أبو جعفر حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا وهبان بن عثمان
حدثنا الوليد بن شجاع قال حدثنا يحيى بن زكريا عن أبي زائدة قال حدثنا
إسماعيل عن قيس قال حدثني عتبة بن فرقد قال أتى عمر رضي الله عنه بعس من
نبيذ قد كاد يكون خلا فقال لي اشرب فأخذته وما أكاد أستطيعه فأخذه مني
فشربه وذكر الحديث فزال الظن بالتوقيف ممن شاهد عمر رضي الله عنه وهو من
رواتهم
وأما قوله لا يخلو من أن يكون نبيذا يسكر كثيره أو يكون خلا فقد خلا من
ذينك لأن العرب تقول النبيذ إذا دخلته حموضة نبيذ حامض فإذا زادت صار خلا
قال أبو جعفر فنزل هذا القسم وهو لا يخيل على من عرف اللغة ثم روى حديثا
إن كان فيه حجة فهي عليه
حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا فهد قال حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال
حدثنا الأعمش قال حدثني إبراهيم عن هشام بن الحارث قال أتى عمر رضي الله
عنه بنبيذ فشرب منه فقطب ثم قال إن نبيذ الطائف له عرام ثم ذكر شدة لا
أحفظها ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب
قال أبو جعفر وهذا لعمري اسناد مستقيم ولا حجة له فيه بل الحجة عليه لأنه
إنما يقال قطب لشدة حموضة الشيء ومعنى قطب في كلام العرب خالطت بياضه حمرة
مشتق من قطبت الشيء أقطبه وإذا خلطته
وفي الحديث له عرام أي خبث ورجل عارم أي خبيث
وحدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا فهد قال حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا
أبي عن الأعمش قال حدثني أبو إسحق عن سعيد بن ذي حدان أو ابن ذي لوعة قال
جاء رجل قد ظميء إلى خازن عمر فاستسقاه فلم يسقه فأتى بسطيحة لعمر رضي
الله عنه فشرب منها فسكر فأتى به عمر فاعتذر إليه فقال إنما شربت من
سطيحتك فقال عمر إنما أضربك على السكر فضر به عمر
قال أبو جعفر هذا الحديث من أقبح ما روى في هذا الباب وعلله بينة لمن لم
يتبع الهوى فمنها أن ابن ذي لعوة لا يعرف ولم يرو عنه إلا هذا الحديث ولم
يرو عنه إلا أبو إسحق ولم يذكر أبو إسحق فيه سماعا وهو مخالف لما نقله أهل
العدالة عن عمر رضي الله عنه
قال أبو جعفر حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا
مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أن عمر رضي الله عنه خرج عليهم فقال إني
وجدت من فلان ريح شراب قد زعم أنه قد شرب الطلاء وأنا سائل عما شرب فإن
كان يسكر جلدته الحد
قال فجلده عمر رضي الله عنه الحد ثمانين فهذا إسناد لا مطعن فيه والسائب
بن يزيد رجل من أصحاب النبي فهل يعارض مثل هذا بابن ذي لعوة
وعمر رضي الله عنه يخبر بحضرة الصحابة أنه يجلد في الرائحة من غير سكر
لأنه لو كان سكران ما احتاج أن يسأل عما شرب
فرووا عن عمر رضي الله عنه ما لا يحل لأحد أن يحكيه عنه من غير جهة لوهاء
الحديث وأنه زعم أنه شرب من سطيحته وأنه يحد على السكر وذلك ظلم لأن السكر
ليس من فعل الإنسان وإنما هو شيء يحدث عن الشرب وإنما الضرب عن الشرب كما
ان الحد في الزنا إنما هو على الفعل لا على اللذة
ومن هذا قيل لهم تحريم السكر محال لأن الله عز و جل إنما يأمر وينهى بما
في الطاقة وقد يشرب الإنسان يريد السكر فلا يسكر ويريد ألا يسكر فيسكر
وقيل لهم كيف يحصل ما يسكر وطباع الناس فيه مختلفة
ثم تعلقوا بشيء روى عن ابن عباس حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا فهد قال
حدثنا أبو نعيم عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال
حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب
قال أبو جعفر وهذا الحديث قد رواه شعبة على إتقانه وحفظه على غير هذا كما
قريء على عبد الله بن محمد بن عبد العزيز عن أحمد بن
محمد بن حنبل رحمه الله قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة
عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال حرمت الخمر
بعينها والمسكر من كل شراب
قال أبو جعفر وقد بينا أن السكر ليس من فعل الإنسان وإذا جاء حديث معارض
لما قد ثبتت صحته وقد اختلفت روايته فلا معنى للإحتجاج به
وقد روى يحيى القطان عن عثمان الشجام بصري مشهود عن عكرمة عن ابن عباس قال
نزل تحريم الخمر وهي الفضيخ فهذا خلاف ذلك لأن الفضيخ بسر يفضخ فجعله خمرا
وأخبر بالتنزيل فيه وفي تحريمه
قال أبو جعفر حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا محمد بن عمرو بن
يونس السوسي قال حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن الشيباني عن عبد الملك بن
نافع قال سألت ابن عمر فقلت إن أهلنا ينبذون نبيذا في سقاء لو نكهته لأخذ
في فقال ابن عمر إنما البغي على من أراد البغي شهدت رسول الله عند هذا
الركن فأتاه رجل بقدح من نبيذ فأدناه إلى فيه فقطب ورده فقال رجل يا رسول
الله أحرام هو فرد الشراب ثم دعا بماء فصبه عليه ثم قال إذا آغتلمت عليكم
هذه الأسقية فاقطعوا متونها بالماء
قال أحمد بن شعيب عبد الملك بن نافع لا يحتج بحديثه وليس بالمشهور
وقد روى أهل العدالة سالم ونافع ومحمد بن سيرين عن ابن
عمر خلاف ما روى وليس يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده جماعة من
أشكاله
قال أبو جعفر ثم رجعنا إلى متن الحديث فقلنا لو صح ما كانت فيه حجة لمن
احتج به بل الحجة عليه به بينة وذلك أن قوله إذا اغتملت عليكم وبعضهم يقول
إذا رابكم من شرابكم ريب فاكسروا متنه بالماء والريب في الأصل الشك ثم
يستعمل بمعنى المخافة والظن مجازا فاحتجوا بهذا وقالوا ومعناه إذا خفتم أن
يسكر كثيره فاكسروه بالماء
قال أبو جعفر وهذا من قبيح الغلط لأنه لو كان كثيره يسكر لكان قد زال
الخوف وصار يقينا ولكن الحجة فيه لمن خالفهم أن النبي أمر ألا يقر الشراب
إذا خيف منه أن ينتقل إلى الحرام حتى يكسر بالماء الذي يزيل الخوف
ومع هذا فحجة قاطعة عند من عرف معاني كلام العرب وذلك أن الشراب الذي بمكة
لم يزل في الجاهلية والإسلام لا يطبخ بنار وإنما هو ما يجعل فيه زبيب أو
تمر ليطيب لأن مياههم فيها ملوحة وغلظ ولم يتخذ للذة
وقد أجمع العلماء منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد أن ما نقع ولم
يطبخ بالنار وكان كثيره يسكر فهو خمر والخمر إذا صب فيها الماء أو صبت على
الماء فلا اختلاف بين المسلمين أنها قد نجست الماء إذا كان قليلا فقد صار
حكم هذا حكم الخمر وإذا أسكر كثيره فقليله حرام بإجماع المسلمين فزالت
الحجة بهذا الحديث لو صح
حدثنا أحمد قال حدثنا فهد قال حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني قال حدثنا
يحيى بن اليمان عن الثوري عن منصور عن خالد بن سعد عن ابن مسعود قال عطش
النبي حول الكعبة فاستسقى فأتى بنبيذ من نبيذ السقاية فشمه فقطب فصب عليه
من ماء زمزم ثم شرب فقال رجل أحرام هو قال لا
قال أبو جعفر قد ذكرنا النبيذ الذي في السقاية بما فيه كفاية على أن هذا
الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به فإن كان من أهل الجهل فينبغي
أن يتعرف ما يحتج به في الحلال والحرام قبل أن يقطع به
قال أحمد بن شعيب هذا الحديث لا يحتج به لأن يحيى بن
اليمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه ويحيى بن اليمان ليس بحجة
لسوء حفظه وكثرة خطئه
وقال غير أبي عبد الرحمن أصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي فغلط يحيى بن
اليمان فنقل من حديث إلى حديث آخر وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي
فلم يحتجوا بشيء منه
وحدثنا أحمد قال حدثنا علي بن معبد قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا شريك
عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبيه قال بعثني رسول الله أنا ومعاذا إلى
اليمن فقلنا يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير أحدهما
يقال له المزر والآخر البتع فما نشرب فقال اشربا ولا تسكرا
قال أبو جعفر هذا الحديث أتى من شريك في حروف فيه يبين لك ذلك ما قريء على
أحمد بن شعيب عن أحمد بن عبد الله بن علي بن مسروق قال حدثنا عبد الرحمن
يعني ابن مهدي قال حدثنا
إسرائيل قال حدثنا أبو إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال بعثني
رسول الله أنا ومعاذا إلى اليمن فقال معاذ يا رسول الله إنك تبعثنا إلى
بلد كثير شراب أهله فما نشرب قال اشرب ولا تشرب مسكرا
واحتجوا بحديثين عن ابن مسعود أحدهما من رواية الحجاج بن أرطأة وقد ذكرنا
ما في حديثه من العلة والحديث الآخر حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا إبراهيم
بن مرزوق قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن أبيه عن لبيد
بن شماس قال قال عبد الله إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم فما
يزالون حتى يحرم عليهم
قال أبو جعفر هذا الحديث لا يحتج به لأن فيه لبيد بن شماس وشريك يقول شماس
بن لبيد لا يعرف ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق ولا روي عنه إلا هذا
الحديث والمجهول لا يقوم به حجة فلم تقم لهم حجة عن النبي ولا عن أحد من
أصحابه وBهم
والحق في هذا ما قاله ابن المبارك قريء على أحمد بن شعيب عن أبي
قدامة عبيد الله بن سعيد قال حدثنا أبو أسامة وهو حماد بن أسامة قال سمعت
عبد الله بن المبارك يقول ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحه إلا عن
إبراهيم قال أبو أسامة وما رأيت أحدا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك
بالشام ومصر والحجاز واليمن
قال أبو جعفر فأما الميسر فهو القمار كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو
صالح قال حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يسئلونك عن
الخمر والميسر قال كان أحدهم يقامر بماله وأهله فإذا قمر أخذ أهله وماله
قال أبو جعفر حكى أهل العلم بكلام العرب أن الميسر كان القمار في الجزر
خاصة
قال أبو إسحق فلما حرم حرم جميع القمار كما أنه لما حرمت الخمر حرم كل ما
أسكر كثيره
وذكر الشعبي أن القمار كان حلالا ثم حرم ويدل على ما قال حديث ابن عباس
قال أنزل الله عز و جل آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم
سيغلبون وكانت قريش
تحب أن تغلب فارس لأنهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن تغلب
الروم فخاطرهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أجل
قال أبو جعفر وقيل لا يقال كان هذا حلالا ولكن يقال مباح ثم نسخ بتحريمه
وتحريم الخمر
وفي هذه الآية قوله عز و جل ويسئلونك ماذا ينفقون قال أبو جعفر وهذا آخر
الآية في عدد المدني الأول والجواب في أوله
باب ذكر الآية التاسعة عشر من هذه السورة قال الله عز و جل قل
العفو فيه ثلاثة أقوال من العلماء من قال إنها منسوخة بالزكاة المفروضة
ومنهم من قال هي الزكاة ومنهم من قال هو شيء أمر به غير الزكاة لم ينسخ
حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو قال هو ما لا يتبين
وهذا قبل أن تفرض الصدقة
قال أبو جعفر وقال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فهذا قول من قال
إنها منسوخة
وحدثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا شبابة قال حدثنا ورقاء
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز و جل ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو
قال الصدقة المفروضة
قال أبو جعفر والزكاة هي لعمري شيء يسير من كثير إلا أن هذا القول لا يعرف
إلا عن مجاهد
والقول الذي قبله أنها منسوخة بعيد لأنهم إنما سألوا عن شيء فأجيبوا عنه
بأنهم سبيلهم أن ينفقوا ما سهل عليهم
والقول الثالث عليه أكثر أهل التفسير كما حدثنا علي بن الحسين
عن الحسن بن محمد قال حدثنا معاوية قال حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن
مقسم عن ابن عباس في قول الله عز و جل ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو قال
ما فضل عن العيال
قال أبو جعفر وهذا القول بين وهو مشتق من عفا يعفو إذا كثر وفضل والمعنى
والله أعلم ويسئلونك ماذا ينفقون قل ينفقون ما سهل عليهم وفضل عن حاجتهم
وأكثر التابعين على هذا التفسير قال طاووس العفو اليسير من كل شيء
وقال الحسن قل العفو أي لا تجهد مالك حتى تبقى تسأل الناس وقال الخلد بن
أبي عمران سألت القاسم وسالما عن قول الله عز و جل ويسئلونك ماذا ينفقون
قل العفو فقالا هو فضل المال ما كان عن ظهر غني
قال أبو جعفر وهذا من حسن العبارة في معنى الآية وهو موافق لقول رسول الله
كما حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسن بن سماعة
بالكوفة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عمرو يعني ابن عثمان بن
عبد الله بن موهب قال سمعت موسى بن طلحة يذكر عن حكيم بن حزام قال قال
رسول الله خير الصدقة عن ظهر غنا واليد العليا خير من اليد السفلى وأبدا
بمن تعول
قال أبوجعفر فصار المعنى ويسألونك ماذا ينفقون قل ما سهل عليهم ونظيره خذ
العفو وأمر بالمعروف أي خذ ما سهل من أخلاق الناس ولا تتقص عليهم فهذا
العفو من أخلاق الناس وذاك العفو مما ينفقون كما قال عبد الله بن الزبير
وقد تلا خذ العفو قال من أخلاق الناس وأيم الله لا يستعملون ذلك فيهم وقال
أخوه عروة وتلا خذ العفو قال خذ ما ظهر من أعمالهم وقولهم
قال أبو جعفر ومن هذه الآية في عدد المدني الأول ويسئلونك عن
اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فزعم قوم أنها ناسخة لقول
الله عز و جل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ورووا هذا عن ابن عباس
قال أبو جعفر وهذا مما لا يجوز فيه ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر ووعيد ونهى عن
الظلم والتعدي فمحال نسخه فإن صح ذلك عن ابن عباس فتأويله من اللغة أن هذه
الآية على نسخة تلك الآية فهذا جواب وأصح منه ما عليه أهل التأويل
قال سعيد بن جبير لما نزلت إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما اشتدت على
الناس وامتنعوا من مخالطة اليتامى حتى نزلت ويسئلونك عن اليتامى فالمعنى
على هذا القول أنه لما وقع بقولهم أنه لا ينبغي أن يخالطوا اليتامى في شيء
لئلا يحرجوا بذلك فنسخ الله عز و جل ما وقع بقولهم منه أي أزالة بأن أباح
لهم مخالطة اليتامى وبين مجاهد ما هذه المخالطة فقال في الرعي والإدام
قال أبو جعفر ومعنى هذا أن يكون لليتيم تمر وما أشبهه ولوليه مثله فيخلطه
معه فيأكلا جميعا فتوقفوا عن هذا مخافة أن يكون الولي يأكل أكثر مما يأكل
اليتيم فأباح الله عز و جل ذلك إذا كان على جهة الإصلاح ولم يقصد فيه
الإفساد ودل على هذا والله يعلم المفسد من
المصلح قال مجاهد ولو شاء الله لأعنتكم أي حرم عليكم مخالطتهم
قال أبو جعفر فهذا الظاهر في اللغة أن تكون المخالطة في الطعام لا في
الشركة لأن مشاركة اليتيم إن وقع فيها استبداد بشيء فهي خيانة وإن كانت
الشركة قد يقال لها مخالطة فليس باسمها المعروف فثبت بهذه الآية لا ناسخ
في هذا ولا منسوخ إلا على ما ذكرناه
وقد قال بعض الفقهاء ما أعرف آية في الموعيد هي أشد ولا أوكد على المسلمين
من قوله عز و جل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا والذين في اللغة عام
فأوجب الله عز و جل النار على العموم لكل من فعل هذا
والآية التي هى تتمة العشرين قد أدخلها العلماء في الناسخ والمنسوخ وإن
كان فيها اختلاف بين الصحابة
باب ذكر الآية التي هي تتمة العشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن
فيها ثلاثة أقوال من العلماء من قال هى منسوخة ومنهم من قال هي ناسخة
ومنهم من قال هى محكمة لا ناسخة ولا منسوخة
فممن قال إنها منسوخة ابن عباس كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله
بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن قال ثم إستثنى نساء أهل الكتاب فقال جل ثناؤه والمحصنات
من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم حل لكم إذا ءاتيتموهن أجورهن يعني مهورهن
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان يقول عفائف غير زوان
قال أبو جعفر هكذا في الحديث حل لكم وليس هو في التلاوة وهكذا قال محصنات
غير مسافحات وفي التلاوة محصنين غير مسافحين فهذه قراءة على التفسير وهكذا
كل قراءة خالفت المصحف المجمع عليه
وممن قال إن الآية منسوخة أيضا مالك بن أنس رحمه الله وسفيان بن
سعيد وعبد الرحمن بن عمرو
فأما من قال إنها ناسخة فقول شاذ حدثنا جعفر بن مجاشع قال سمعت إبراهيم بن
إسحق الحربي يقول فيه وجه ذهب إليه قوم جعلوا التي في البقرة هى الناسخة
والتي في المائدة هى المنسوخة يعني فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير
كتابية
قال أبو جعفر ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده كما حدثنا محمد بن زبان قال
حدثنا محمد بن رمح قال أخبرنا الليث بن
سعد عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل
النصرانية أو اليهودية قال حرم الله المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا
من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عبيد الله عز و جل
والقول الثالث قال به جماعة من العلماء كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع
قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن قال المشركات من غير نساء أهل الكتاب وقد تزوج حذيفة
نصرانية أو يهودية وقريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان
قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن حماد قال سألت سعيد بن جبير عن قول
الله عز و جل ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال هم أهل الأوثان قال أبو
جعفر وهذا أحد قولي الشافعي رحمه الله أن تكون الآية عامة يراد بها الخاص
فتكون المشركات ههنا هم أول الأوثان
والمجوس فأما من قال إنها ناسخة للتي في المائدة وزعم أنه لا
يجوز نكاح نساء أهل الكتاب فقوله خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم
الحجة لأنه قد قال بتحليل نكاح النساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين
جماعة منهم عثمان رضي الله عنه وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة ومن التابعين
سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاووس وعكرمة والشعبي
والضحاك وفقهاء الأمصار عليه
وأيضا فيمنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة
المائدة لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل وإنما
الآخر ينسخ الأول
وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه لأن ابن عمر رضي الله عنه كان رجلا متوقفا
فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ
توقف ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ
بالتأويل
وأين ما في هذه الآية أن تكون منسوخة على قول من قال ذلك من العلماء وهو
أيضا أحد قولي الشافعي وذلك أن الآية إذا كانت عامة لم تحمل على الخصوص
إلا بدليل قاطع فإن قال قائل فقد قال قوم من العلماء إنه لا يقال لأهل
الكتاب مشركون وإنما المشرك من عبد وثنا مع الله عز و جل فأشرك به
قال أبو جعفر وممن يروى عنه هذا القول أبو حنيفة وزعم أن قول الله عز و جل
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا أنه يراد به أهل الأوثان وأن لليهود والنصارى أن يقربوا
المسجد الحرام
قال أبو جعفر وهذا قول خارج عن قول الجماعة من أهل العلم واللغة وأكثر من
هذا أن في كتاب الله عز و جل نصا تسميه اليهود والنصارى بالمشركين قال
الله عز و جل آتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن
مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
فهذا نص القرآن فمن أشكل عليه أن قيل له اليهود والنصارى لم يشركوا أجيب
عن هذا بجوابين
أحدهما أن يكون هذا اسما إسلاميا ولهذا نظائر بينها من يحسن
الفقه واللغة من ذلك مؤمن أصله من آمن إذا صدق ثم صار لا يقال مؤمن إلا
لمن آمن بمحمد ثم تبع ذلك العمل ومن الأسماء الإسلامية المنافق ومنها على
قول بعض العلماء الخمر سمي ما أسكر كثيره خمرا على لسان رسول الله
والجواب الآخر وهو عن آبي إسحق بن إبراهيم بن السدي قال كل من كفر بمحمد
فهو مشرك قال فهذا من اللغة لأن محمدا قد جاء من البراهين بما لا يجوز أن
يأتي به بشر إلا من عند الله عز و جل فإذا كفر بمحمد فقد زعم أن ما لا
يأتي به إلا الله قد جاء به غير الله عز و جل فجعله الله عز و جل شريكا
قال أبو جعفر وهذا من لطيف العلم وحسنه
فأما نكاح إماء أهل الكتاب فحرام عند العلماء إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم
أجازوه واحتج لهم محتج بشيء قاسه قال لما أجمعوا على أن قوله عز و جل ولا
تنكحوا المشركات يدخل فيه الأحرار والإماء وجب في القياس أن يكون قوله عز
و جل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب داخلا فيه الحرائر والإماء لتكون
الناسخة مثل المنسوخة
قال أبو جعفر وهذا الإحتجاج خطأ من غير جهة
فمن ذلك أنه لم يجمع على أن الآية التي في البقرة منسوخة
ومن ذلك القياسات والتمثيلات لا يؤخذ بها في الناسخ والمنسوخ وإنما يؤخذ
الناسخ والمنسوخ بالتيقن والتوقيف
وأيضا فقد قال الله عز و جل نصا ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فكيف يقبل ممن قال من
فتياتكم الكافرات
وأما نكاح الحربيات فروي عن ابن عباس وإبراهيم النخعي أنهما منعا من ذلك
وغيرهما من العلماء يجيز ذلك ونص الآيه توجب جوازه
وهو قول مالك بن أنس والشافعي رحمهما الله إلا أنهما كرها ذلك
مخافة تنصير الولد أو الفتنة
قال أبو جعفر وأما نكاح الإماء المجوسيات والوثنيات فالعلماء على تحريمه
إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن
نكاح الإماء المجوسيات فقالا لا بأس بذلك وتأولا قول الله عز و جل ولا
تنكحوا المشركات فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأمة المشتراة واحتجا
بسبي أوطاس وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين
قال أبو جعفر وهذا قول شاذ أما سبي أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن
فجاز نكاحهن
وأما الإحتجاج بقوله عز و جل ولا تنكحوا المشركات فغلط لأنهم حملوا النكاح
على العقد والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطء فلما قال تعالى ولا
تنكحوا المشركات حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء وفي هذا من
اللغة شيء بين حدثني به من أثق به قال سمعت أحمد بن يحيى يقول أصل النكاح
في اللغة الوطء وإنما يقع للعقد مجازا قال والدليل على هذا أن العرب تقول
أنكحت الأرض البر إذا أدخلت البر في الأرض
قال أبو جعفر وهذا من حسن اللغة والاستخراج اللطيف ووجب من
هذا أن يكون قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
حتى يطأها وبذلك جاءت السنة أيضا
وقد أدخلت الآية التي تلي هذه في الناسخ والمنسوخ وهي الآية الحادية
والعشرون
باب ذكر الآية الحادية والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض
ولا تقربوهن حتى يطهرن
قال أبو جعفر أدخلت هذه الآية في الناسخ والمنسوخ لأنه معروف من شريعة بني
إسرائيل ألا يجتمعوا مع الحائض في بيت ولا يأكلوا معها ولا يشربوا فنسخ
الله عز و جل من شريعتهم كما قريء على أحمد بن عمرو بن عبد الخالق عن محمد
بن أحمد بن الجنبد البغدادي عن عمرو بن عاصم قال حدثنا حماد بن سلمة عن
ثابت وعاصم الأحول عن أنس بن مالك قال كانت اليهود يعتزلون النساء في
الحيض فأنزل الله عز و جل ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء
في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فأمرنا رسول الله أن نؤاكلهن ونشاربهن
ونصنع كل شيء إلا النكاح فقالت اليهود ما يريد محمد أن يدع شيئا من أمرنا
إلا خالفنا فيه
قال أبو جعفر فدل هذا الحديث على أنه لا يحرم من الحائض إلا النكاح من
الفرج وهذا قول جماعة من العلماء أن الرجل له أن يباشر الحائض وينال منها
ما دون الوطء في الفرج وهو قول عائشة رضي الله
عنها وأم سلمة وابن عباس ومسروق والحسن وعطاء والشعبي وإبراهيم
النخعي وسفيان الثوري ومحمد بن الحسن وهو الصحيح من قول الشافعي
قال أبو جعفر وهذا الحديث المسند دال عليه قريء على أحمد بن محمد بن
الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا عبدالرحمن بن زياد عن عبد الله بن عمر
وقال حدثنا أيوب السختياني عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال سألت
عائشة رضي الله عنها ما يحل من امرأتي وهي حائض قالت كل شيء إلا الفرج
قال أبو جعفر فهذا إسناد متصل
والحديث الآخر أنها قالت كان رسول الله يباشرني فوق الإزار ليس فيه دليل
على حظر غير ذلك
وقد يحتمل أن يكون المعنى فوق الإزار وهو مفروش فهذا قول وقال عبيدة
اللحاف واحد والفراش مختلف وهذا قول شاذ يمنع منه ما صح عن رسول الله من
مباشرته نساءه وهن حيض
وقول ثالث أن يعتزل الحائض فيما بين السرة والركبة وهو قول جماعة من
العلماء منهم ميمونة ويروي عن ابن عباس ومنهم سعيد بن المسيب ومالك بن أنس
رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله
والحجة لهم ما حدثناه إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد بن عبد
الله بن يونس قال حدثنا الليث يعني ابن سعد عن الزهري عن حبيب مولى عروة
عن ندبة مولاة ميمونه عن ميمونة أن النبي كان يباشر المرأة من نسائه وهي
حائض إذا كان إزارها إلى نصف فخذيها أو إلى ركبتيها محتجزة به
قال أبو جعفر الليث يقول ندبة وغيره يقول ندبه وليس في هذا الحديث دليل
على حظر ما تقدمت إباحته
وقد زعم قوم أن حديث أنس الذي بدأنا به منسوخ لأنه كان في أول ما نزلت
الآية وأن الناسخ له حديث أبي إسحاق عن عمير مولى عمر عن عمر رضي الله عنه
عن النبي أنه قال له في الحائض لك ما فوق الإزار وليس لك ما تحته
قال وهذا إدعاء في النسخ ولا يعجز أحدا ذلك والإسناد الأول أحسن
إستقامه من هذا وهذا القول قد قال به جماعة قد ذكرناهم ولم يقل أحد منهم
فيه بنسخ والذي قال هذا بعض المحدثين
والتقدير على القول الأول فاعتزلوا جماع النساء في موضع المحيض أي في
الفرج فيكون المحيض اسما للموضع كما أن المجلس اسم للموضع الذي يجلس فيه
وكذا ولا تقربوهن حتى يطهرن كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال
حدثني
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فاعتزلوا النساء
في المحيض قال اعتزلوا نكاح فروجهن
قال أبو جعفر ومن قرأ حتى يطهرن فمعناه حتى يحل لهن أن يطهرن كما يقول قد
حلت المرأة للأزواج أي حل لها أن تتزوج ومن قرأ حتى يطهرن جعله بمعنى
يغتسلن وقد قرأ الجماعة بالقراءتين فهما بمنزلة اثنين لا يحل له حتى تطهر
وتطهر
فأما قول من قال إنها تحل له إذا غسلت فرجها من الأذى بعد أن تخرج من
الحيض فخارج عن الإجماع وهو ظاهر القرآن قال الله عز و جل وإن كنتم جنبا
فاطهروا
وفي موضع آخر ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فجاء القرآن ليطهروا
ويغتسلوا بمعنى واحد وكذا حتى يطهرن أي الطهور الذي يصلين به
وأما قول من قال إذا طهرت من الحيض حلت وإن لم تغتسل إذا دخل عليها وقت صلاة أخرى فخارج أيضا عن الإجماع وليس يعرف من قول واحد وإنما قيس على شيء من قول أبي حنيفة أنه قال إذا طلق رجل إمرأته طلاقا يملك معه الرجعة كان له أن يراجعها من غير إذنها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة إلا أن تطهر من الحيضة الثالثة فيدخل عليها وقت صلاة أخرى ولم تغتسل قاسوا على هذا
والدليل على ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا
إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله عز و جل ولا تقربوهن حتى يطهرن قال من الدم فإذا تطهرن قال
اغتسلن قال أحمد بن محمد ولا أعلم بين العلماء في هذا إختلافا
قال أبو جعفر فأما من حيث أمركم الله ففي معناه اختلاف فعن ابن عباس
ومجاهد قالا في الفرج وعن محمد بن
علي بن الحنفية قال من قبل الحلال من قبل التزويج وعن أبي رزين
قال من قبل الطهر لا من قبل الحيض
قال أبو جعفر وهذا القول أشبه بسياق الكلام وأصح في اللغة لأنه لو كان
المراد به الفرج كانت ههنا أولى فإن قيل لم لا يكون معناه من قبل الفرج
قيل لو كان كذا لم يجز أن يطأها من دبرها في فرجها والإجماع على غير ذلك
إن الله يحب التوابين قال عطاء أي من الذنوب وهذا لا خلاف فيه واختلفوا في
معنى ويحب المتطهرين فمن أهل التفسير من قال المتطهرين من أدبار النساء
وقيل من الذنوب وقال عطاء المتطهرين بالماء وهذا أولى بسياق الآية والله
أعلم
وأما الآية الثانية والعشرون فقد أدخلها بعض العلماء في الناسخ والمنسوخ
وهو قتادة وذكرناها ليكون الكتاب مشتملا على ما ذكره العلماء
ذكر الآية الثانية والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية
قال أبو جعفر فممن جعلها في الناسخ والمنسوخ الضحاك عن ابن عباس و قتادة
إلا أن لفظ ابن عباس أن قال استثناء ولفظ قتادة نسخ قال قال الله عز و جل
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم نسخ من الثلاث الحيض المطلقات
اللواتي لم يدخل بهن في سورة الأحزاب فقال جل ثناؤه يا أيها الذين ءامنوا
إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة
تعتدونها ونسخ الحيض عن أولات الأحمال قال جل وعز وأولات الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن
قال أبو جعفر وقال غيرهما من العلماء ليس هذا بنسخ ولكنه تبيين بين جل وعز
بهاتين الآيتين أنه لم يرد بالإقراء الحوامل ولا اللواتي لم يدخل بهن
ثم اختلف العلماء في الإقراء فقالوا فيها ثلاثة أقوال كما حدثنا أحمد بن
محمد الأزدي قال حدثنا محمود بن حسان قال حدثنا
عبد الملك بن هشام قال حدثنا أبو زيد الأنصاري قال سمعت أبا
عمرو بن العلاء يقول تسمى العرب الطهر قرءا وتسمى الحيض قرءا وتسمى الطهر
مع الحيض جميعا قرءا
وقال الأصمعي أصل القرء الوقت يقال أقرأت النجوم إذا طلعت لوقتها
قال أبو جعفر فلما صح في اللغة أن القرء الطهر والقرء الحيض وأنه لهما
جميعا وجب أن يطلب الدليل على المراد بقوله عز و جل ثلاثة قروء من غير
اللغة إلا أن بعض العلماء تقول هي الأطهار ويرده إلى اللغة من جهة
الإشتقاق وسنذكر قوله بعد ذكرنا في ذلك عن الصحابة والتابعين وفقهاء
الأمصار فممن قال الأقراء الأطهار عائشة رضي الله عنها بلا اختلاف عنها
كما قريء على إسحاق بن إبراهيم بن جابر عن سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي
مريم قال
حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص قال أخبرني عبد الرحمن بن القاسم
عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت إنما الإقراء الأطهار
وقال أبو جعفر وقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها
وممن روي عنه الأقراء الأطهار بأختلاف ابن عمر وزيد بن ثابت كما حدثنا بكر
بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر
أنه كان يقول إذا طلق الرجل إمرأته فرأت الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت
منه وبريء منها ولا ترثه ولا يرثها وإنما وقع الخلاف فيه عن ابن عمر لأن
بكر بن سهل حدثنا قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن
عبد الله بن عمر أنه كان يقول إذا طلق العبد امرأته اثنتين حرمت عليه حتى
تنكح زوجا غيره حرة كانت أو أمة وعدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض
قال أبو جعفر والحديثان جميعا في الموطأ
فأما حديث زيد ففيه روايتان إحداهما من حديث الزهري عن قبيصة بن ذويب عن
زيد بن ثابت قال عدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض
والمخالف له ما حدثناه إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد يعني ابن عبد الله
بن يونس قال حدثنا ليث عن نافع أن سليمان بن يسار حدثه أن الأخوص وهو ابن
حكيم طلق امرأته بالشام فهلك وهى في آخر حيضتها يعني الثالثة فكتب معاوية
إلى زيد بن ثابت يسأله فكتب إليه لا ترثه ولا يرثها وقد برئت منه وبريء
منها قال نافع فقال عبد الله بن عمر مثل ذلك
وقريء على بكر بن سهل عن سعيد بن منصور قال حدثنا سفيان بن عيينة عن
الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها وعن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت
قالا يبينها من زوجها إذا طعنت في الحيضة الثالثة
قال أبو جعفر فهؤلاء الصحابة الذين روى عنهم أن الأقراء الأطهار
وهم ثلاثة فأما التابعون وفقهاء الأمصار فمنهم القاسم وسالم وسليمان بن
يسار وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان ومالك بن أنس والشافعي وأبو
ثور
قال أبو جعفر وأما الذين قالوا الأقراء الحيض فأحد عشر من أصحاب رسول الله
بلا اختلاف عنهم زيادة اثنين باختلاف
كما قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا خالد بن
إسماعيل ووكيع بن الجراح قالا حدثنا عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي قال أحد
عشر من أصحاب رسول الله أو اثنا عشر الخير فالخير منهم عمر وزاد وكيع وأبو
بكر قالا وعلي وابن مسعود وابن عباس إذا طلق الرجل إمرأته بطلقة أو طلقتين
فله عليها الرجعة ما لم تغتسل من القرء الثالث وقال وكيع في حديثه ما لم
تغتسل من حيضتها الثالثة
قال أبو جعفر الأحد عشر أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس
ومعاويه وعبادة وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وأنس رضي الله عنهم
والاثنان بالاختلاف ابن عمر ويزد رضي الله عنهما
وقريء على بكر بن سهل عن سعيد بن منصور قال حدثنا سفيان بن عيينه عن
الزهري عن سعيد بن المسيب في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين قال
قال علي رضي الله عنه هو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وقال
سفيان وحدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عمر وابن مسعود أنهما قالا هو
أحق برجعتها ما لم تغتسل
قال سفيان وحدثنا أيوب عن الحسن بن أبي موسى الأشعري مثل ذلك
ومن التابعين وفقهاء الأمصار سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطاووس وعطاء
والضحاك ومحمد بن سيرين والشعبي والحسن وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو
حنيفة وأصحابه وإسحق وأبو عبيد
وحكى الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه كان يقول الأقراء الأطهار ثم وقف وقال
الأكابر من أصحاب رسول الله يقولون غير هذا
وقال أبو جعفر فهذا ما جاء عن العلماء بالروايات
ونذكر ما في ذلك من النظر واللغة من احتجاجاتهم إذ كان الخلاف قد وقع
فمن أحسن ما احتج به من قال الأقراء الأطهار قال الله عز و جل والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فأخبر أن القرء هو العدة والعدة عقيبة الطلاق
وإنما يكون الطلاق في الطهر فلو كانت الأقراء هي الحيض كان بين الطلاق
والعدة فصل
واحتجوا بالحديث حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف
قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض فسأل عمر رضي
الله عنه عن ذلك رسول الله قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض
ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر
الله عز و جل أن يطلق لها النساء قال المحتج فتلك إشارة الى الطهر
وفي حديث أبي الزبير عن ابن عمر قال وتلا رسول الله فطلقوهن في قبل عدتهن
قال فقبل عدتهن وهو الطهر
قال أبو جعفر ومخالفه يحتج عليه بالحديث بعينه وسيأتي ذلك
واحتج بعضهم بأنه من قريت الماء أي حبسته فكذا القرء هو احتباس الحيض وهذا
غلط بين لأن قرئت الماء غير مهموز وهذا مهموز فاللغلا تمنع أخذ هذا من هذا
واحتج بعضهم بأن الآية ثلاثة قروء بالتاء فوجب أن يكون للطهر لأن الطهر
مذكر وعدد المذكر يدخل فيه التاء ولو كان للحيضة لقيل ثلاث
قال أبو جعفر وهذا غلط في العربية لأن الشيء يكون له اسمان مذكر ومؤنث
فإذا جئت بالمؤنث أنثته وإذا جئت بالمذكر ذكرته كما تقول
رأيت ثلاث أدور ورأيت ثلاثة منازل لأن الدار مؤنثة والمنزل مذكر
والمعنى واحد
وأما احتجاج الذين قالوا الأقراء الحيض فبشيء من القرآن ومن الإجماع ومن
السنة ومن القياس
قالوا قال الله عز و جل وآلائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر فجعل الميؤوس منه المحيض فدل على أنه هو العدة وجعل العوض منه
الأشهر إذا كان معدوما
قال الله عز و جل فطلقوهن لعدتهن وبين رسول الله أن معنى فطلقوهن لعدتهن
أن تطلق في طهر لم تجامع فيه ولا يخلو لعدتهن من أن يكون معناه ليعتددن في
المستقبل أو يكون للحال أو الماضي ومحال أن تكون العدة قبل الطلاق أو أن
يطلقها في حال عدتها فوجب أن يكون للمستقبل
قال أبو جعفر والطهر كله جائز أن يطلق فيه وليس بعد الطهر إلا الحيض
وقال عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقالوا إذا طلقها في
الطهر ثم احتسبت به قرءا فلم تعتد إلا قرئين وشيئا وليس هكذا نص القرآن
وقد احتج محتج في هذا فقال التثنية جمع واحتج بقوله عز و جل الحج أشهر
معلومات وإنما ذلك شهران وأيام
قال أبو جعفر وهذا الإحتجاج غلط لأنه لم يقل عز و جل ثلاثة أشهر
فيكون مثل ثلاثة قروء وإنما هذا مثل قوله عز و جل يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر وعشرا فلا يجوز أن يكون أقل منها وكذا فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم
فأما من السنة فحدثنا الحسن بن غليب قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال
أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشح عن المنذر
بن المغيرة عن عروة بن الزبير أن فاطمة بنت أبي حبيش أخبرته أنها أتت رسول
الله فشكت إليه الدم فقال إنما ذلك عرق فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي
فإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء
قال أبو جعفر فهذا لفظ رسول الله سمي الحيض قرءا في أربعة مواضع
وأما الإجماع فأجمع المسلمون على الإستبراء بحيضة وقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله عدة الأمة حيضتان نصف عدة الحرة ولو قدرت
على أن أجعلها حيضة ونصف ففعلت
وهذا يدخل في باب الإجماع لأنه لم ينكر عليه أحد من الصحابة
وقالوا قد أجمع العلماء على أن المطلقة ثلاثا إذا ولدت فقد خرجت من العدة
لا إختلاف في ذلك وإنما اختلفوا في المتوفى عنها زوجها قالوا في القياس أن
يكون الحيض بمنزلة الولد لأنهما جميعا يخرجان من الجوف
وفي سياق الآيه أيضا دليل قال الله عز و جل ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق
الله في أرحامهن فللعلماء في هذا قولان
قال ابن عباس الحبل وقال الزهري الحيض وليس ثم دليل يدل على إختصاص أحدهما
فوجب أن يكون لهما جميعا
وإنما حظر عليها كتمان الحيض والحبل لأن زوجها إذا طلقها طلاقا يملك معه
الرجعة كان له أن يراجعها من غير أمرها ما لم تنقض عدتها
فإذا كرهته قالت قد حضت الحيضة الثالثة أو قد ولدت لئلا يراجعها
فنهيت عن ذلك
قال الله عز و جل وبعولتهن أحق بردهن في ذلك
قال حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال
أخبرنا معمر عن قتادة وبعولتهن أحق بردهن في ذلك قال هو أحق بردها في
العدة
قال أبو جعفر التقدير في العربية في ذلك الأجل
وأما ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فقال فيه ابن زيد عليه أيضا أن يتقي
الله عز و جل فيها
وأما وللرجال عليهن درجة ففيه أقوال فقال ابن زيد عليها ان تطيعه وليس
عليه أن يطيعها وقال الشعبي إذا قذفها لاعن ولم يحد وإذا قذفته حدت
ومن أحسن ما قيل فيه ما رواه عكرمة عن ابن عباس قال ما أريد أن أستنطف
حقوقي على زوجتي
قال أبو جعفر ومعنى هذا أن الله عز و جل ندب الرجال إلى أن
يتفضلوا على نسائهم وأن يكون لهم عليهن درجة في العفو والفضل والاحتمال
لأن معنى درجة في اللغة زيادة وإرتفاع
قال أبو العالية والله عزيز في إنتقامه حكيم في تدبره
قال أبو جعفر وهذا قول حسن أي عزيز في إنتقامه ممن خالف أمره أو حدوده في
أمر الطلاق أو العدة حكيم فيما دبر لخلقه
واختلف العلماء في الآية التي تلي هذه فمنهم من جعلها ناسخة ومنهم من
جعلها منسوخة ومنهم من جعلها محكمة وهي الآية الثالثة والعشرون
باب ذكر الآية الثالثة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل الطلاق مرتان
فمن العلماء من يقول هى ناسخة لما كانوا عليه لأنهم كانوا في الجاهلية مدة
وفي أول الإسلام برهة يطلق الرجل إمرأته ما شاء من الطلاق فإذا كادت تحل
من طلاقها راجعها ما شاء فنسخ الله عز و جل ذلك بأنه إذا طلقها ثلاثا لم
تحل له حتى تنكح زوجا غيره وإذا طلقها واحدة أو إثنتين كانت له مراجعتها
ما دامت في العدة فقال عز و جل الطلاق مرتان أى الطلاق الذي يملك معه
الرجعة وهذا معنى قول عروة
قريء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح بن
عبادة عن سعيد عن قتادة في قول الله عز و جل الطلاق مرتان قال فنسخ هذا ما
كان قبله فجعل الله عز و جل حد الطلاق ثلاثا وجعل له الرجعة ما لم يطلق
ثلاثا
قال أبو جعفر فهذا قول
والقول الثاني أنها منسوخة بقوله عز و جل فطلقوهن لعدتهن
والقول الثالث إنها محكمة وافترق قول من قال إنها محكمة على
ثلاث جهات
فمنهم من قال لا ينبغي للرجال إذا أراد أن يطلق امرأته أن يطلقها إلا
اثنتين لقول الله عز و جل الطلاق مرتان ثم إن شاء طلق الثالثة بعد وهذا
قول عكرمة
والقول الثاني أنه يطلقها في طهر لم يجامعها فيه إن شاء واحدة وإن شاء
اثنتين وإن شاء ثلاثا وهذا قول الشافعي
والقول الثالث الذي عليه أكثر العلماء أن يطلقها في كل طهر طلقة واحدة
ويحتج أصحاب هذا القول بقول رسول الله لعمر رضي الله عنه مرة
فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء
طلق قبل أن يجامع
قال أبو جعفر وقد ذكرناه بإسناده فكانت السنة أن يكون بين كل تطليقتين
حيضة فلو طلق رجل امرأته وهى حائض ثم راجعها ثم طلقها في الطهر الذي يلي
الحيضة وقعت تطليقتان بينهما حيضة واحدة
قال أبو جعفر وهذا خلاف السنة فلهذا أمر أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم
تحيض ثم تطهر
ومن الحجة أيضا الطلاق مرتان لأن مرتين يدل على التفريق كذا هو في اللغة
قال سيبويه وقد تقول سير عليه مرتين تجعله للدهر أي ظرفا فسيبويه يجعل
مرتين ظرفا فالتقدير أوقات الطلاق مرتان
حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال
حدثنا سفيان الثوري قال أخبرني إسماعيل بن
سميع عن أبي رزين أن رجلا قال يا رسول الله أسمع الله عز و جل
يقول الطلاق مرتان فأين الثالثة قال التسريح بإحسان
قال أبو جعفر وفي هذه الآية ما قد اختلف فيه اختلافا كثيرا وجعله بعضهم
فيه المنسوخ بعد الإتفاق على أنه في مخالعة الرجل امرأته قال جل وعز ولا
يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله
قال عقبة بن أبي الصهباء سألت بكر بن عبد الله المزني عن
الرجل يريد امرأته أن تخالعه فقال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا
قلت فأين قول الله عز و جل في كتابه فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا
جناح عليهما فيما افتدت به قال نسخت قلت فأين جعلت قال في سورة النساء وإن
أردتم إستبدال زوج مكان زوج و ءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا
أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا والآية الأخرى
قال أبو جعفر وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع وليس إحدى الآيتين رافعة
للأخرى فيقع النسخ لأن قوله فإن حختم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما
فيما افتدت به ليس بمزال بتلك لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج في وإن
أردتم استبدال زوج مكان زوج لأن هذا للرجال خاصة
قال أبو جعفر ومن الشذوذ في هذا ما روى عن سعيد بن جبير ومحمد بن سيرين
والحسن أنهم قالوا لا يجوز الخلع إلا بأمر السلطان قال شعبة قلت لقتادة
عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان قال عن زياد
قال أبو جعفر وهو صحيح معروف عن زياد ولا معنى لهذا القول لأن
الرجل إذا خالع امرأته إنما هو على ما يتراضيان به ولا يجوز أن يجبره
السلطان على ذلك فلا معنى لقول من قال هو إلى السلطان
ومع هذا فقول الصحابة وأكثر التابعين أن الخلع جائز من غير إذن السلطان
فممن قال ذلك عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنه كما حدثنا محمد بن زيان
قال حدثنا محمد بن رمح قال اخبرني الليث عن نافع أنه سمع الربيع ابنه معوذ
بن عفراء تخبر عبد الله بن عمر أنها اختلعت من زوجها في عهد عثمان فجاء
عمها معاذ بن عفراء الى عثمان رضي الله عنه فقال إن ابنة معوذ اختلعت من
زوجها أفتنتقل فقال عثمان لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها ولكن لا
تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حمل فقال ابن عمر عثمان خيرنا
وأعلمنا
قال أبو جعفر وفي حديث أيوب وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عثمان رضي
الله عنهما ولا نفقة لها
وفي هذا الحديث أحكام وعلوم
فمنها أن عثمان رضي الله عنه أجاز الخلع على خلاف ما قال بكر بن عبد الله
وأجازه من غير إذن السلطان على خلاف ما قال زياد وجعله طلاقا على خلاف ما
يروى عن ابن عباس وأجازه بالمال ولم يسل أهو
أكثر من صداقها أم أقل على خلاف ما يقول أبو حنيفة وأصحابه أن
الخلع لا يجوز بأكثر مما ساق إليها من الصداق وأجاز للمختلعة أن تنتقل
وجعلها خلاف المطلقة ولم يجعل عليها عدة كالمطلقة
وقال بهذا القول إسحق بن راهويه قال ليس على المختلعة عدة وإنما عليها
الإستبراء بحيضة وهو قول ابن عباس بلا اختلاف
وعن ابن عمر فيه اختلاف فلما جاء عن ثلاثة من الصحابة لم يقل بغيره ولا
سيما ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه فأما عن غيرهم فكثير
قال جماعة من العلماء عدة المختلعة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب
وسليمان بن يسار وسالم بن عبدالله وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز
رحمهم الله والزهري والحسن وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري والأوزاعي ومالك
وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله
وفي حديث عثمان أنه أوجب أن المختلعة أملك بنفسها لا تتزوج إلا برضاها وإن
كانت لم تطلق إلا واحدة
وفيه أنها لا نفقة لها ولا سكنى وأنهما لا يتوارثان
وإن كان إنما طلقها واحدة
وفيه أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة
وفيه أن عبد الله بن عمر خير أن عثمان خير وأعلم من كل من ولي
عليه
وأما حديث ابن عباس فحدثناه أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا محمد بن خزيمة
قال حدثنا حجاج قال حدثنا أبو عوانة عن ليث عن طاووس أن ابن عباس جمع بين
رجل وامرأته بعد أن طلقها تطليقتين وخالعها وهذا قول شاذ خارج عن الإجماع
والمعقول
وذلك أنه إذا قال لأمراته أنت طالق إذا كان كذا فوقعت الصفة طلقت بإجماع
فكيف يكون إذا أحذ منها شيئا وطلق بصفة لم يقع الطلاق فهذا محال في
المعقول وطاووس مولى لقوم من النمر وهو فقيه أهل النمر وإن كان رجلا صالحا
فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم
منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لإمرأته أنت طالق ثلاثا إنما
تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته والصحيح عنه وعن علي
بن أبي طالب رضي الله عنهما أنها ثلاث كما قال الله عز و جل فإن طلقها فلا
تحل له من بعد أى الثالثة
قال أبو جعفر فأما العلة التي رويت عن ابن عباس في المختلعة أنه روى عنه
أنه قال وقع الخلع بين طلاقين قال الله جل وعز الطلاق مرتان ثم ذكر
المختلعة فقال فإن طلقها
قال أبو جعفر الذي عليه أهل العلم أن قوله عز و جل الطلاق مرتان
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كلام قائم بنفسه ثم قال ولا يحل لكم أن
تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا فكان هذا حكما مستأنفا ثم قال عز و جل فإن
طلقها فرجع إلى الأول ولو كان على ما روى عن ابن عباس لم تكن المختلعة إلا
من طلقت تطليقتين وهذا ما لا يقول به أحد ومثل هذا في التقديم والتأخير
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
قال أبو جعفر وهذا بين في النحو وفي الآية من اللغة
وقد ذكره مالك رحمه الله نصا فقال المختلعة التي اختلعت من كل ما لها
والمفتدية التي أفتدت ببعض مالها والمبادئة التي بادأت زوجها من قبل أن
يدخل بها فقالت قد أبرأتك فبارئني
قال وكل هذا سواء
وقال أبو جعفر وهذا صحيح في اللغة وقد يدخل بعضه في بعض فيقال مختلعة وإن
دفعت بعض مالها فيكون تقديره أنها اختلعت نفسها من زوجها وكذلك المفتدية
وإن افتدت بكل مالها
فأما قول من قال لا يجوز أن تختلع بأكثر مما ساق إليها من
الصداق فشيء لا توجبه الآية لأن الله عز و جل قال فلا جناح عليهما فيما
افتدت به وليس في التلاوة فيما افتدت به من ذلك ولا منه فيصح ما قالوا على
أن سعيد بن المسيب يروي عنه أنه قال لا يجوز الخلع إلا بأقل من الصداق
وقال ميمون بن مهران من أخذ الصداق كله فلم يسرح بإحسان
وقد أدخلت الآية الرابعة والعشرون في الناسخ والمنسوخ
باب ذكر الآية الرابعة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل وعلى الوارث مثل ذلك
في هذه الآية للعلماء أقوال فمنهم من قال هي منسوخة ومنهم من قال إنها
محكمة والذين قالوا إنها محكمة لهم فيها ستة أجوبة فمنهم من قال وعلى
الوارث مثل ذلك أن لا يضار ومنهم من قال الوارثة عصبة الأب عليهم النفقة
والكسوة ومنهم من قال على وارث المرضع النفقة والكسوة ومنهم من قال وعلى
الوارث أي الصبي نفسه ومنهم من قال الوارث الباقي من الأبوين ومنهم من قال
الوارث كل ذي رحم محرم
قال أبو جعفر ونحن ننسب هذه الأقوال إلى قائلها من الصحابة والتابعين
والفقهاء ونشرحها لتكمل الفائدة في ذلك
حكى عبد الرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال لا
يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه قال وقول الله عز و جل
وعلى الوارث مثل ذلك هو منسوخ
قال أبو جعفر هذا لفظ مالك ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبد الرحمن بن
القاسم
ومذهب ابن عباس ومجاهد و الشعبي أن المعنى وعلى الوارث مثل ذلك
أى لا يضار
والذين قالوا علىت وارث الأب النفقة والكسوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
والحسن بن أبي الحسن كما قريء علي محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى
قال حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن
المسيب أن عمر أجبر بني عم على منفوس وفي رواية ابن عيينة الرجال دون
النساء
وقال الحسن إذا خلف أمه وعمه الأم موسرة والعم معسر فالنفقة على العم
والذين قالوا وعلى وارث المولود النفقة والكسوة زيد بن ثابت قال
إذا خلف أما وعما فعلى كل واحد منهما على قدر ميراثهما وهو قول عطاء وقال
قتادة على وارث الصبي لا قدر ميراثهم
وقال قبيصة بن ذؤيب الوارث الصبي كما قريء على محمد بن جعفر بن حفص عن
يوسف بن موسى قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقريء قال حدثنا حيوة قال حدثنا
جعفر بن ربيعة عن قبيصة بن ذؤيب وعلى الوارث مثل ذلك قال الوارث الصبي
وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري قال إذا كان للصبي أم وعم أجبرت الأم
على رضاعة ولم يطالب العم بشيء
وأما الذين قالوا على كل ذي رحم محرم فهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
قال أبو جعفر فهذه جميع الأقوال التي وصفناها من أقوال الصحابة
والتابعين والفقهاء
فأما قول مالك رحمه الله إنها منسوخة فلم يبينه ولا علمت أن أحدا من
أصحابه بين ذلك والذي يشبه أن تكون الناسخ لها عنده والله أعلم أنه لما
أوجب الله عز و جل للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم
نسخ ذلك ورفعه نسخ ذلك أيضا عن الوارث واما قول من قال وعلى الوارث مثل
ذلك أن لا يضار فقول حسن لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج منها شيء إلا
بدليل قاطع
وأما قول من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب فورثته
أولى من ورثة الابن
وأما حجة من قال على ورثة الابن فنقول كما يرثون يقومون به
قال أبو جعفر وكان محمد بن جرير يختار قول من قال الوارث ههنا الابن وهو
إن كان قولا غريبا فالإسناد به صحيح والحجة فيه ظاهرة لأن ماله أولى به
وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال
والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع وأن ذلك من مال الصبي فإن
قيل قد قال الله عز و جل وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف قيل هذا
الضمير للمؤنث ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها لا يسع مسلما الخروج
عنه
وأما قول من قال ذلك على من بقي من الأبوين فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع
ولدها وقد مات من كان ينفق عليها وعليه
وأما قول من قال النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن
ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا
قال أبو جعفر وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله عز و جل ولا
إجماع ولا من سنة صحيحة بل لا يعرف من قول سوى من ذكرناه فأما القرآن فقال
الله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك فتكلم الصحابة والتابعون فيه بما تقدم
ذكره فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا إذا ترك
خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء فهذا مخالفة نص
القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن
العم في قول أحد ولا يرث وحده على قول كثير من العلماء والذي
احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم أكثر أهل العلم على خلافه
وأما الآية الخامسة والعشرون فقد تكلم العلماء أيضا فيها فقال أكثرهم هي
ناسخة وقال بعضهم فيها ما نسخ
باب ذكر الآية الخامسة والعشرين من هذه السورة
قال الله جل وعز والذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم ربعة
أشهر وعشرا الاية
أجمع اكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز و جل والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج أوصى لها
زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر
أو بالميراث
واختلف الذين قالوا هذا القول قال بعضهم نسخ من الأربعة الأشهر والعشر
المتوفي عنها زوجها وهي حامل فانقضاء عدتها إذا ولدت وقال قوم آخر الأجلين
وقال قوم هو عام بمعنى الخاص أي والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ليس
حوامل يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
وقال قوم ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول
وقال قوم هما محكمتان واستدلوا بأنها منهية عن المبيت في غير منزل زوجها
قال أبو جعفر ونحن نشرح هذه الأقوال ونذكر قائلي من يعرف منهم
فممن قال إن الآية ناسخة وصح ذلك عنه عثمان بن عفان رضي الله
عنه وعبد الله بن الزبير حين قال عبد الله بن الزبير قلت لعثمان لم أثبت
في المصحف والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى
الحول غير إخراج وقد نسختها والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فقال يا بن أخي إني لا أغير شيئا عن مكانه فبين
عثمان رضي الله عنه أنه إنما أثبت في المصحف على ما أخذه عن النبي وأخذه
النبي عن جبريل عليهما السلام على ذلك التأليف لم يغير منه شيئا
أخبرنا أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا
عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
وصية لأزواجهم قال نسختها والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال متاعا إلى الحول غير إخراج نسخها الربع أو
الثمن ونسخ الحول العدة أربعة أشهر و عشرا
قال أبو جعفر وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن
صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقول تعالى والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية كانت المرأة إذا مات زوجها وتركها
اعتدت سنة وينفق عليها من ماله ثم أنزل الله عز و جل بعد ذلك والذين
يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا إلا أن تكون حاملا
فانقضاء عدتها أن تضع ما في بطنها ونزل ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن
لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم فبين الله عز و جل الميراث
وترك النفقة والوصية
قال أبو جعفر وأما قول من قال إنه عام بمعنى الخاص فقول حسن لأنه قد تبين
ذلك بالقرآن والحديث وسنذكر ذينك
وأما قول من قال نسخ منها الحوامل فيحتج بقول ابن مسعود من شاء لاعنته أن
سورة النساء القصري نزلت بعد الطولي يعني أن قوله تعالى وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن نزلت بعد التي في البقرة وهذا القول أعني أن أولات
الأحمال ناسخة للتي في البقرة أو مبينة لها قول أكثر الصحابة والتابعين
والفقهاء فمنهم عمر وابن عمر وابن مسعود وأبو مسعود البدري وأبو هريرة رضي
الله عنهم وسعيد بن المسيب والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي
والشافعي وأبو ثور رحمهم الله
وأما قول من قال آخر الأجلين فحجته أنه جمع بين الآيتين وممن
قال به بلا اختلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان بينه وبين الصحابة
فيه منازعة شديدة كثيرة من أجل الخلاف فيه
كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال أخبرنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا أبو
داود الطيالسي عن شعبة قال حدثنا عبيد بن الحسن قال حدثنا بن معقل قال
شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل عن رجل توفى وامرأته حامل فقال
تعتد آخر الأجلين فقيل له يا أمير المؤمنين إن أبا مسعود البدري يقول
لتبتغ لنفسها فقال إن فروخا لا يعلم شيئا فبلغ ذلك أبا مسعود البدري فقال
بلى وأنا أعلم وذكر الحديث
وممن صح عنه أنه قال تعتد اخر الأجلين عبد الله بن عباس
قال أبو جعفر وقد ذكرنا من قال بغير هذا من الصحابة حتى قال
عمر رضي الله عنه إن وضعت حملها وزوجها على السرير حلت وعلى
القول الآخر لا تحل حتى تمضي أربعة أشهر وعشرا ثم جاء التوقيف عن النبي
بأنها تحل إذا توفى عنها زوجها وهي حامل ثم ولدت قبل انقضاء أربعة اشهر
وعشرا
وصح ذلك عنه كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا
مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عبد الله بن عباس وأبا سلمة بن
عبد الرحمن سئلا عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهى حامل فقال ابن عباس آخر
الآجلين وقال أبو سلمة إذا ولدت فقد حلت فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي
يعنى أبا سلمة فأرسلوا كريبا مولى ابن عباس إلى أم سلمة زوج النبي فجاء
فأخبرهم أن أم سلمة قالت ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت
ذلك
لرسول الله فقال قد حللت وقال الحسن والشعبي لا تتزوج حتى تخرج
من دم النفاس وكذا قال حماد بن أبي سليمان
قال أبو جعفر وإذا قال رسول الله شيئا لم يلتفت إلى قول غيره ولا سيما ونص
القرآن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفى وترك امرأته حاملا فانقضت
أربعة أشهر وعشرا أنها لا تحل حتى تلد فعلم أن المقصود الولادة
وأما قول من قال ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول فحجته أن هذا مثل
صلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى اثنين لم يكن هذا ناسخا
وهذا غلط بين لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج فإن خرجت لم
تمنع ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا وهذا هو النسخ وليس صلاة
المسافر من هذا في شيء
والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت فرضت الصلاة
ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة المسافر بحالها وكذا تقول
جماعة من الفقهاء أن فرض المسافر ركعتان
قال أبو جعفر وقد عورضوا في هذا بأن عائشة رضي الله عنها كانت تتم في
السفر فكيف تتم في السفر وهي تقول فرض المسافر ركعتان فهذا متناقض فأجيبوا
عن ذلك بأن هذا ليس بمتناقض لأنه قد صح عنها ما ذكرناه وهي أم المؤمنين
رضي الله عنها فحيث حلت فهي مع أولادها فليست بمسافرة وحكمها حكم من كان
حاضرا فلذلك كانت تتم الصلاة إن صح عنها الإتمام
ومما يدلك على أن الآية منسوخة أن بكر بن سهل حدثنا قال حدثنا عبد الله بن
يوسف قال حدثنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
حميد بن نافع عن زينب ابنة أبي سلمة أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة
قالت زينب دخلت على أم حبيبة زوج النبي حين توفى أبوها
أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره
فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير
أني سمعت رسول الله يقول لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد
على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا
قالت زينب ودخلت على زينب ابنة جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم
قالت أما والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله على المنبر
يقول لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث
ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا
قالت زينب وسمعت أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول
الله إن ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفأكحلها فقال رسول الله
لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله إنما هي أربعة أشهر
وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول
قال حميد فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول قال
حميد فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا
ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة
حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة
فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره
قال أبو جعفر وفي هذا الحديث من الفقه والمعاني واللغة شيء كثير فمن ذلك
إيجاب الإحداد والامتناع من الزينة والكحل عن المتوفى عنها زوجها على خلاف
ما روى إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن أنه كان لا يرى بالزينة بأسا
للمتوفى عنها زوجها ولا يرى إلا حداد شيئا
وفيه قوله لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق
ثلاث إلا على زوج فأوجب هذا على كل امرأة بالغة كانت أو غير بالغة مدخول
بها أو غير مدخول بها أمة كانت تحت حر أو حرة كانت تحت عبد أو مطلقة واحدة
أو اثنتين لأنها بمنزلة من لم تطلق
ودل ظاهر الحديث على أنه لا إحداد على كافرة لقوله تؤمن بالله
واليوم الآخر
ودل أيضا ظاهرة على أنه لا احداد على الحامل لذكره أربعة اشهر وعشرا
قال أبو جعفر فأما معنى ترمي بالبعرة فقال فيه أهل اللغة والعلماء بمعاني
العرب أنهن كن يفعلن ذلك ليرين أن مقامهن حولا أهون عليهن من تلك البعرة
المرمية
وفيه من اللغة والغريب قوله تفتض وقد رواه بعض الفقهاء الجلة تقبص وقال
معناه تجعل أصابعها على الطائر كما قريء فقبضت قبصة فخالفه أصحاب مالك
رحمه الله أجمعون وقالوا تفتض وهو على تفسير مالك كذا يجب
كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال سمعت مالكا رحمه
الله وسئل ما تفتض به قال تمسح به جلدها
قال أبو جعفر هذا مشتق من انفض القوم إذا تفرقوا وزال بعضهم عن
بعض قال جل وعز حتى ينفضوا فمعنى تفتض به تزول به لأنها لا تزول من مكانها
إلا بهذا فقد صارت تفتض به
وأما قول من قال الآيتان محكمتان واحتج بأن على المتوفى عنها
زوجها أن لا تبيت إلا في منزلها فليس بشيء لأنه لو كان كما قال
وجب عليها أن تقيم سنة كما في الآية المنسوخة وأيضا فليس مقامها في منزلها
إجماعا بل قد اختلف فيه الصدر الأول ومن بعدهم
فممن قال أن عليها المقام عمر وعثمان وأم سلمة وابن مسعود وابن عمر رضي
الله عنهم وتابعهم على ذلك أكثر فقهاء الأمصار فقال مالك رحمه الله تزور
وتقيم بعد العشاء إلى أن يهدأ الناس ولا تبيت إلا في منزلها
وهذا قول الليث بن سعد وسفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله وقال
محمد بن الحسن لا تخرج المتوفى عنها زوجها ولا المبتوتة من منزلها البتة
وممن قال غير هذا وقال لها أن تخرج وتحج إن شاءت ولا تقيم في
منزلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى هذا صح عنه أنه أخرج ابنته أم
كلثوم زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قتل عمر فضمها إلى منزله قبل
أن تنقضي عدتها وصح عن ابن عباس مثل هذا
وروى الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ليس على المتوفى عنها
زوجها ولا على المبتوتة إقامة في بيتها إنما قال الله تعالى يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإنما عليهما العدة وليس عليها المقام ولا نفقة
لهما
وممن قال بهذا القول أعني أنه ليس على المتوفى عنها زوجها إقامة ابن عباس
قال قالت عائشة رضي الله عنها وجابر بن عبد الله فهؤلاء أربعة من الصحابة
لم يوجبوا الإقامة
ومنهم من احتج بالآية والحجة لمخالفهم قوله عز و جل يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر وعشرا فعليهن أن يحبسن أنفسهن عن كل الأشياء إلا ما خرج بدليل
ومن الحجة أيضا توقيف الرسول وقوله للفريعة حين توفى عنها زوجها أقيمي في
منزلك حتى يبلغ الكتاب أجله
وقد قال قوم إن قول الله عز و جل والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية
لأزواجهم منسوخ بالحديث لا وصية لوارث وأكثر
العلماء على انها منسوخة بالآية التي ذكرناها
قال أبو جعفر ومما يبين لك أنها منسوخة اختلاف العلماء في النفقة على
المتوفى عنها زوجها وهى حامل
فأكثر العلماء تقول لا نفقة لها ولا سكنى
فمن الصحابة عبد الله بن عباس وابن الزبير وجابر ومن التابعين سعيد بن
المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وممن دونهم مالك بن أنس وأبو حنيفة وزفر
وأبو يوسف ومحمد وهو الصحيح من قول الشافعي رحمه الله
وممن قال للمتوفى عنها زوجها وهي حامل النفقة من رأس المال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عمر رحمهما الله وهذا قول شريح وخلاس
بن عمرو والشعبي والنخعي وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان والثوري
وأبي عبيد
وفيه قول ثالث عن قبيصة بن ذؤيب قال لو كنت فاعلا لجعلتها من مال ذي بطنها
وحجة من قال لا نفقة للمتوفى عنها زوجها إجماع المسلمين أنه لا
نفقة لمن كانت تجب له النفقة على الرجل قبل موته من أطفاله وأزواجه وآبائه
الذين تجب عليه نفقتهم بإجماع إذا كان زمني فقراء فكذا يجب أيضا في الحامل
المتوفى عنها زوجها
قال أبو جعفر واختلفوا أيضا في الآية السادسة والعشرين فمنهم من قال هي
محكمة واجبة ومنهم من قال هي مندوب إليها ومنهم من قال قد أخرج منها شيء
ومنهم من قال هي منسوخة
باب ذكر الآية السادسة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا
لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا
على المحسنين
فممن قال بظاهر الآية وأنه واجب على كل مطلق المتعة للمطلقة كما قال جل
ثناؤه ومتعوهن من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن التابعين
الحسن
قال الحسن وأبو العالية لكل مطلقة متعة مدخول بها أو غير مدخول بها مفروض
لها أو غير مفروض لها وهذا قول سعيد ابن جبير والضحاك وهو قول أبي ثور
قال أبو جعفر وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله ابن يوسف قال حدثنا
مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول لكل مطلقة متعة
وأما من قال قد أخرج منها شيء فعبد الله بن عمر كما حدثنا بكر بن سهل قال
حدثنا عبد الله ابن يوسف قال حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال لكل مطلقة
متاع إلا التي لم يسم لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها
وأما قول من قال ومتعوهن على الندب لا على الحتم والإيجاب فهو
قول شريج قال متع إن كنت من المحسنين ألا تحب أن تكون من المتقين فهذا قول
مالك بن أنس رحمه الله أنه لا يجبر على المتعة لامرأة من المطلقات كلهن
وأما قول أبي حنيفة وأصحابه وهو يروي عن الشافعي رحمه الله أنه لا يجبر
على المتعة إلا أن يتزوج إمرأة ولا يسمى لها صداقا فيطلقها قبل أن يمسها
فإنه يجبر على تمتيعها
وأما قول من قال بالنسخ فيها فهو قول سعيد بن المسيب كما حدثنا أحمد بن
محمد الأزدي قال حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي قال حدثنا أسباط بن محمد قال
حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال كانت المتعة
واجبة لمن لم يدخل بها من النساء في سورة الأحزاب ثم نسختها الآية التي في
البقرة
قال أبو جعفر يجب أن تكون التي في سورة الأحزاب يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن فهذا إيجاب المتعة والناسخة لها عنده التي في البقرة وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآية وهذا لا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ لأنه ليس في الآية لا تمتعوهن ولكن القول الصحيح البين أنه اجتزى بذكر المتعة ثم فلم يذكرها ههنا ولا سيما وبعده وللمطلقات متاع بالمعروف
فهذا أوكد من متعوهن لأن متعوهن قد يقع على الندب وذكره التمتيع
في القرآن مؤكد قال الله عز و جل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا
بالمعروف وكذا ظاهر القرآن
وهو قول علي بن أبي طالب ومن ذكرنا وهو أحد قولي الشافعي أن على كل مطلق
متعة إذا كان الطلاق من قبله فأما تفرضوا لهن فريضة ففيه أن علي بن أبي
طلحة روى عن بن عباس قال الفريضة الصداق
قال أبو جعفر الفرض في اللغة الإيجاب ومنه فرض الحاكم على فلا كذا كما قال
الشاعر ... كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزنا فريضة الرجم ...
وقد احتج قوم في أن التمتيع ليس بواجب لقول الله عز و جل حقا على المحسنين
وكذا حقا على المتقين
وهذا لا يلزم لأنه إذا كان واجبا على المحسنين فهو على غيرهم أوجب وأيضا
فإن الناس جميعا مأمورون بأن يكونوا محسنين متقين لأن معنى يجب أن يكون
محسنا يجب أن تحسن إلى نفسك بأن تؤدي فرائض الله عز و جل وتجتنب معاصيه
فتكون محسنا إلى نفسك حتى لا تدخل النار ويجب أن تتقي الله عز و جل بترك
معاصيه والانتهاء إلى ما كلفكه الله من فرائضه فوجب على الخلق أن يكونوا
محسنين متقين
واختلف العلماء في الآية السابعة والعشرين فقال بعضهم هي منسوخة وقال
بعضهم هي مخصوصة
باب ذكر الآية السابعة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل لا إكراه في الدين
فمن العلماء من قال هي منسوخة لأن رسول الله قد أكره العرب على دين
الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام
فممن قال بذلك سليمان بن موسى قال نسخها يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين
وقال زيد بن أسلم أقام رسول الله بمكة عشر سنين يدعو الناس إلى الإسلام
ولا يقاتل أحدا فأبى المشركون إلا قتاله فاستأذن الله عز و جل في قتالهم
فأذن له
وقال بعض العلماء ليست منسوخة ولكن لا إكراه في الدين نزلت في أهل الكتاب
لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية والذين يكرهون أهل الأوثان فهم
الذين نزلت فيهم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأعلظ عليهم
ومما يحتج به لهذا القول ما قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن
يحيى بن سليمان قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لعجوز نصرانية أسلمي أيتها العجوز
تسلمي إن الله بعث محمدا بالحق قالت العجوز أنا عجوز كبيرة وأموت إلى قريب
فقال عمر اللهم اشهد ثم قال لا إكراه في الدين
وممن قال إنها مخصوصة ابن عباس كما قريء على أحمد بن شعيب عن محمد بن بشار
عن ابن أبي عدي في حديثه عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو
النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالت الأنصار لا ندع أبناءنا فأنزل
الله عز و جل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
قال أبو جعفر قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده وأن
مثله لا يؤخذ بالرأي فلما خبر أن الآية نزلت في هذا وجب أن تكون أولى
الأقوال وأن تكون الآية مخصوصة نزلت في هذا وحكم أهل الكتاب كحكمهم
فأما دخول الألف والام في الدين فللتعريف لأن المعنى لا إكراه
في الدين وفي ذلك قول آخر يكون التقدير ولا إكراه في دين الإسلام والألف
واللام عوض عن المضاف إليه مثل يصهر به ما في بطونهم والجلود أي وجلودهم
واختلف العلماء أيضا في الآية الثامنة والعشرين فقال بعضهم هي ناسخة وقال
بعضهم نزلت في شيء بعينه غير ناسخة وقال بعضهم هي عامة
باب ذكر الآية الثامنة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
فمن قال إنها ناسخة احتج بأن الإنسان في أول الإسلام كان إذا أعسر من دين
عليه بيع حتى يستوفي المدين دينه منه فنسخ الله عز و جل ذلك بقوله وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
يدلك على هذا القول أن أحمد بن محمد الأزدي حدثنا قال حدثنا إبراهيم بن
أبي داود قال حدثنا يحيى بن صالح الوجاظي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي
عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني قال كنت بمصر فقال لي رجل ألا
أدلك على رجل من أصحاب رسول الله فقلت بلى فأشار إلى رجل فجئته فقلت من
أنت رحمك الله فقال أنا سرق فقلت سبحان الله ما ينبغي لك أن
تسمى بهذا الاسم وأنت رجل من أصحاب النبي فقال إن رسول الله سماني سرقا
فلن أدع ذلك أبدا قلت ولم سماك سرقا قال لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين
له يبيعهما فابتعتهما منه وقلت له انطلق معي حتى أعطيك فدخلت بيتي ثم خرجت
من خلف خرج لي وقضيت بثمن البعيرين حاجتي وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد
خرج فخرجت والأعرابي مقيم فأخذني فقدمني إلى رسول الله فأخبرته الخبر فقال
رسول الله ما حملك على ما صنعت فقلت قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله قال
فاقضه قال قلت ليس عندي قال أنت سرق اذهب به يا أعرابي فبعه حتى تستوفي
حقك
قال فجعل الناس يساومونه بي ويلتفت إليهم ويقول ما تريدون فيقولون نريد أن
نبتاعه منك قال فو الله إن منكم أحدا أحوج إليه مني اذهب فقد اعتقتك
قال أحمد بن محمد الأزدي ففي هذا الحديث بيع الحر في الدين وقد كان ذلك في
أول الإسلام يباع من عليه دين فيما عليه من الدين إذا لم يكن له مال يقضيه
عن نفسه حتى نسخ الله عز و جل ذلك فقال تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة
وذهب قوم إلى أن هذه الآية إنما نزلت في الربا وأنه إذا كان لرجل على رجل
دين ولم يكن عنده ما يقضيه إياه حبس أبدا حتى يوفيه
واحتجوا بقول الله عز و جل إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها
فهذا قول شريح وإبراهيم النخعي كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا
سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين في
قول الله عز و جل وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة قال خاصم رجل إلى شريح
في دين له فقال آخر يعذر صاحبه إنه معسر وقد قال الله عز و جل وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة فقال شريح كان هذا في الربا وإنما كان في الأنصار
وإن الله عز و جل قال إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ولا يأمرنا الله بشيء ثم نخالفه احبسوه
إلى جانب السارية حتى يوفيه
وقال جماعة من أهل العلم فنظرة إلىا ميسرة عامة في جميع الناس وكل من أعسر
أنظر
وهذا قول أبي هريرة والحسن وجماعة من الفقهاء
وعارض في هذه الأقوال بعض الفقهاء بأشياء من النظر والنحو واحتج
بأنه لا يجوز أن يكون هذا في الربا قال لأن الربا قد أبطل فكيف يقال فيه
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم
واحتج من النحو بأنه لو كان في الربا لكان وإن كان ذا عسرة لأنه قد تقدم
ذكره فلما كان في السواد وإن كان ذو عسرة علم أنه منقطع من الأول عام لكل
من كان ذا عسرة وكان بمعنى وقع حدث كما قال ... فدى لبني ذهل بن شيبان
ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ...
قال أبو جعفر هذا الاحتجاج ظاهر حسن فإذا فتشت عنه لم يلزم وذلك أن قوله
الربا قد أبطله الله عز و جل فالأمر في قوله قد أبطله الله صحيح إن كان
يريد ألا يعمل به وإلا فقد قال جل وعز فلكم رءوس أموالكم فما الذي يمنع أن
يكون الإعسار في مثل هذا وأما احتجاجه بالنحو فلا يلزم قد يجوز أن يكون
التقدير وإن كان منهم ذو عسرة وقد حكى النحويين المرء مقتول بما قتل به إن
خنجر فخنجر وإن كان يجوز فيه غير هذا
وأحسن ما قيل في الآية قول عطاء والضحاك قالا هي في
الربا والدين كله فهذا قول يجمع الأقوال لأنه يجوز أن تكون
ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه ولا سيما وقد روى يزيد بن
أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال نزلت في الربا وهذا توقيف من ابن عباس
بحقيقة الأمر مما لا يجوز أن يؤخذ بقياس ولا رأي لأنه خبر أنها نزلت فيه
فأما وأن تصدقوا خير لكم فجعله قتادة على الموسر والمعسر وقال السدي على
المعسر وهذا أولى لأنه يليه
واختلفوا في الآية التاسعة والعشرين وجاء الاختلاف فيها عن الصدر الأول
والثاني
باب ذكر الآية التاسعة والعشرين من هذه السورة
قال الله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه الآية فافترق العلماء فيها على ثلاثة أقوال
فمنهم من قال لا يسع مؤمنا إذا باع بيعا إلى أجل أو اشترى إلا أن يكتب
ويشهد إذا وجد كاتبا ولا يسع مؤمنا اشترى شيئا أو باعه إلا أن يشهد ولا
يكتب إذا لم يكن إلى أجل واحتجوا بظاهر القرآن وقال بعضهم هذا على الندب
والإرشاد لا على الحتم
وقال بعضهم هو منسوخ
فممن قال هو واجب من الصحابة ابن عمر وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما
ومن التابعين محمد بن سيرين وأبو قلابة والضحاك وجابر بن زيد ومجاهد ومن
أشدهم في ذلك عطاء قال أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث
درهم أو أقل من ذلك فإن الله عز و جل يقول وأشهدوا إذا تبايعتم
قال أبو جعفر وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحق
قال حدثنا شجاع قال حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال أشهد إذا بعت وإذا
اشتريت ولو دستجة بقل
وممن كان يذهب إلى هذا محمد بن جرير وأنه لا يحل لمسلم إذا باع واشترى إلا
أن يشهد وإلا كان مخالفا كتاب الله عز و جل وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن
يكتب ويشهد إن وجد كاتبا واحتج بحجج سنذكرها في آخر الأقوال في الآية
وممن قال إنها منسوخة من الصحابة أبو سعيد الخدري كما حدثنا محمد بن جعفر
الأنباري قال حدثنا إبراهيم بن ديسم الخراساني قال حدثنا عبيد الله بن عمر
قال حدثنا محمد بن مروان قال حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة عن أبيه عن أبي
سعيد الخدري أنه تلا يا أيها الذين ءامنوا إذا تدانيتم بدين إلى
أجل مسمى فاكتبوه إلى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته قال
نسخت هذه ما قبلها
قال أبو جعفر وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد
وممن قال إنها على الندب والإرشاد لا على الحتم الشعبي ويحكى أن هذا قول
مالك والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله
واحتج محمد بن جرير في أنها أمر لازم وأنه واجب على كل من اشترى شيئا إلى
أجل أن يكتب ويشهد وإن اشتراه بغير أجل أن يشهد بظاهر الآية وأنه فرض لا
يسع تضييعه لأن الله عز و جل أمر به وأمر الله عز و جل لازم لا يحمل على
الندب والإرشاد إلا بدليل ولا دليل يدل
على ذلك ولا يجوز عنده أن يكون هذا نسخا لأن معنى الناسخ أن
يبقى حكم المنسوخ ولم تأت آية فيها لا تكتبوا ولا تشهدوا فيكون هذا ناسخا
واحتج بأنه لا معنى لقول من قال فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي آؤتمن
أمانته ناسخ للأول لأن هذا حكم غير ذلك وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال
الله عز و جل ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا أي فلم
يطالبه برهن فليؤد الذي اؤتمن أمانته قال ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول
لجاز أن يكون قوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من
الغائط الآية ناسخا لقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى
الصلواة ولجاز أن يكون قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ناسخا
لقوله عز و جل فتحرير رقبة
قال أبو جعفر فهذا كلام بين غير أن الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا وأكثر
الناس على أن هذا ليس بواجب
ومما يحتجون فيه أن المسلمين مجمعون على أن رجلا لو خاصم رجلا إلى الحاكم
فقال باعني كذا فقال ما بعته ولم تكن بينة أن الحاكم يستحلفه ويحتجون أيضا
بحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن
عمه وكان من أصحاب النبي أن رسول الله ابتاع فرسا من أعرابي ثم
استتبعه ليدفع إليه ثمنه فأسرع النبي المشي فساوم قوم الإعرابي بالفرس ولم
يعلموا فصاح الأعرابي بالنبي أتبتاعه مني أم أبيعه فقال أليس قد ابتعته
منك قال لا والله ما ابتعته مني فأقبل الناس يقولون له ويحك إن رسول الله
لا يقول إلا حقا فقال هل من شاهد فقال خزيمة أنا أشهد فقال النبي بم تشهد
قال أشهد بتصديقك فجعل النبي شهادة خزيمة شهادة رجلين فاحتجوا بهذا الحديث
أن النبى ابتاع بغير إشهاد
فأما ما احتج به محمد بن جرير فصحيح غير أن ثم وجها يخرج منه لم يذكره وهو
أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله عز و جل ما ننسخ من ءاية أو
ننسها قال ننساها نتركها هكذا يقول المحدثون والصواب نتركها
قال أبو جعفر وفي هذا معنى لطيف شرحه سهل بن محمد على مذهب ابن عباس وبين
معنى ذلك قال ننسخها نزيل حكمها بآية غيرها وننسأها نزيل حكمها بأن نطلق
لكم تركها كما قال عز و جل يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على
أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين الآية ثم أطلق للمسلمين ترك
ذلك من
غير آية نسختها فكذا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه
وكذا وأشهدوا إذا تبايعتم
قال أبو جعفر فأما النسخ فكما قال محمد بن جرير وأما الندب فلا يحمل عليه
الأمر إلا بدليل قاطع وأما قول مجاهد لا يجوز الرهن إلا في السفر لأنه في
الآية كذلك فقول شاذ والجماعة على خلافه
قال أبو جعفر وقرىء على أحمد بن شعيب عن يوسف بن حماد قال حدثنا سفيان بن
حبيب عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال توفى رسول الله وذرعه مرهونة عند
يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله
قال أبو جعفر وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر غيره وأما إذا
تداينتم بدين والفائدة في بدين وقد تقدم
تداينتم فالجواب عنه أن العرب تقول تداينا أي تجازينا وتعاطينا
الأخذ بيننا فأبان الله عز و جل بقوله بدين المعنى الذي قصد له
واختلف العلماء في الآية التي هى تتمة الثلاثين آية من هذه السورة فمنهم
من قال هي منسوخة ومنهم من قال هي محكمة عامة ومنهم من قال هي محكمة خاصة
باب ذكر الآية التي هي تتمة ثلاثين من هذه السورة
قال الله عز و جل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية
فعن ابن عباس فيها ثلاثة أقوال
أحدهن أنها منسوخة بقوله عز و جل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت وسنذكره بإسناده
والثاني أنها غير منسوخة وأنها عامة يحاسب المؤمن والكافر والمنافق بما
أبدى وأخفى فيغفر للمؤمنين ويعاقب الكافرون والمنافقون
والثالث أنها مخصوصة وأنها في كتمان الشهادة وإظهارها كذا روى يزيد بن أبي
زياد عن مقسم عن ابن عباس
فأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها فإنها قالت ما هم به العبد من خطيئة
عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا فهذه أربعة أقوال
وقرىء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا
إسماعيل بن علية قال حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله عز و جل وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال هذا في الشك واليقين
وهذه الأقوال الخمسة يقرب بعضها من بعض
فقول مجاهد في الشك واليقين قريب من قول ابن عباس إنها لم تنسخ وإنها عامة
وقول ابن عباس الذي رواه عنه مقسم أنها في الشهادة تصح على أن غير الشهادة
بمنزلتها
وقول عائشة رضي الله عنها إنها ما يلحق الإنسان في الدنيا على أن تكون
عامة أيضا
فأما أن تكون منسوخة فتصح من جهة وتبطل من جهة فأما الجهة التي تبطل منها
فإن الأخبار لا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ومن زعم أن في الأخبار ناسخا
ومنسوخا فقد ألحد أو جهل فأخبر الله عز و جل أنه يحاسب من أبدى شيئا أو
أخفاه فمحال أن يخبر بضده وأيضا فإن الحكم
إذا كان منسوخا فإنما ينسخ بنفيه وبآخر ناسخ له ناف له من كل
جهاته فلو كان لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ناسخا لنسخ تكليف ما لا طاقة
به وهذا منفي عن الله عز و جل أن يتعبد به كما قال جل وعز لا يكلف الله
نفسا إلا ما ءاتاها
وصح عن النبي أنه كان يلقن أصحابه إذا بايعوا فيما استطعتم
فأما الوجه الذي يصح منه وهو الذي ينبغي أن يتبين ويوقف عليه لأن المعاند
ربما عارض بقول الصحابة والتابعين في أشياء من الأخبار ناسخة ومنسوخة
قالجاهل لاللغة إما أن يخير فيها وإما أن يلحد فيقول في الأخبار ناسخ
ومنسوخ وهو يعلم أن الإنسان إذا قال قام فلان ثم نسخ هذا فقال لم يقم فقد
كذب
وفي حديث ابن عباس يتبين ما أراد كما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال
حدثنا صالح بن زياد الرقي قال حدثنا يزيد قال
أخبرنا سفيان بن الحسين عن الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر
تلا وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فدمعت عيناه فبلغ
صنيعه ابن عباس فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن صنع كما صنع أصحاب محمد حين
أنزلت ونسختها الآية التي بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت ومعنى نسختها نزلت بنسختها سواء وليس هذا من الناسخ
والمنسوخ في شيء
قريء على عبد الله بن الصقر بن نصر عن زياد بن أيوب قال حدثنا هشيم قال
أخبرنا شيبان عن الشعبي قال لما نزلت وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله لحقتهم منها شدة حتى نسخها ما بعدها
وفي هذا معنى لطيف وهو أن يكون معني نسختها نسخت الشدة التي لحقتهم أي
أزالتها كما يقال نسخت الشمس الظل أى أزالته
ومن حسن ما قيل في الآية وأشبهه بالظاهر قول ابن عباس أنها عامة يدلك على
ذلك ما حدثنا أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا
زهير وهو ابن حرب قال أخبرنا إسماعيل وهو ابن علية عن هشام وهو
الدستواني عن قتادة عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر كيف سمعت رسول
الله يقول في النجوى قال سمعته يقول يدني المؤمن من ربه جل وعز حتى يضع
عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول رب أعرف قال فإني قد سترتها
عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته
فأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا
على الله عز و جل
قال أبو جعفر الحديث حقيقة معنى الآية وأنه لا نسخ فيها وإسناده إسناد لا
يدخل القلب منه لبس وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
قال أبو جعفر لم نجد في هذه السورة بعد تقص شديد مما ذكر في الناسخ
والمنسوخ إلا ثلاث آيات ولولا محبتنا أن يكون الكتاب مشتملا على كل ما ذكر
منها لكان القول فيها أنها ليست بناسخة ولا منسوخة ونحن نبين ذلك إن شاء
الله باب ذكر الآية الأولى من هذه السورة
قال الله عز و جل ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا فزعم بعض أهل
العلم أن هذا منسوخ وذلك أن هذه شريعة قد ذكرها الله عز و جل فكان لنا أن
نستعملها ما لم تنسخ ثم إنها نسخت على لسان رسول الله
قال أبو جعفر كما قريء علي أحمد بن حماد عن سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا
عبد العزيز الدراوردي قال أخبرنا حزام بن
عثمان عن عبد الرحمن ومحمد بن جابر بن عبد الله عن أبيهما قال
قال رسول الله لا صمت يوما إلى الليل قال فنسخ إباحة الصمت
وقد قال الله عز و جل إخبارا عن مريم فلن أكلم اليوم إنسيا
ليس في هذا ناسخ ولا منسوخ لأن الحديث عن النبي لا صمت يوما أنه لا يحل
لأحد أن يصمت يوما إلى الليل ولا يذكر الله عز و جل ولا يسبح وهذا محظور
في كل شريعة
والدليل على هذا أن بعد قوله عز و جل ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا
الأمر بالتسبيح عشيا وبكرا
وقد زعم بعض العلماء أن الآية الثانية منسوخة وقال بعضهم هي محكمة
باب ذكر الآية الثانية من هذه السورة
قال الله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا
وأنتم مسلمون فمن أجل ما روى في تفسيرها وأوضحه ما حدثناه علي بن الحسين
قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن الهيثم قال حدثنا المسعودي عن
زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود في قول الله عز و جل يا أيها الذين
ءامنوا اتقوا الله حق تقاته قال أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر
فلا يكفر
أخبرنا أبو جعفر قال حدثنا جعفر بن محمد الأنباري قال
حدثنا موسى بن هرون الطوسي قال حدثنا الحسين وهو ابن محمد
المروزي قال أخبرنا شيبان عن قتادة في قوله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا
اتقوا الله حق تقاته قال أن يطاع فلا يعصى ثم أنزل الله عز و جل في آل
عمران
قال أبو جعفر محال أن يقع في هذا ناسخ ولا منسوخ إلا على حيلة وذلك أن
معنى نسخ الشيء إزالته والمجيء بضده فمحال أن يقال اتقوا الله منسوخ ولا
سيما مع قول رسول الله مما فيه بيان الآية كما قريء على أحمد بن محمد بن
الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن
عمرو بن
ميمون عن معاذ بن جبل قال قال لي رسول الله يا معاذ أتدري ما حق
الله عز و جل على العباد قلت الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه فلا يشركوا
به شيئا أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ
والذي قلناه قول ابن عباس كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن
صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقول
الله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته قال لم تنسخ ولكن
حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم
وتقوموا بالقسط ولو على آبائكم وأبنائكم
قال أبو جعفر فكل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع
فيه نسخ وهذا هو قول النبي أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا وكذا على
المسلمين كما قال ابن مسعود أن تطيعوا الله فلا تعصوه وتذكروه فلا تنسوه
وأن تشكروه ولا تكفروه وأن تجاهدوا فيه حق جهاده
فأما قول قتادة مع محله من العلم إنها نسخت فيجوز أن تكون معناه
نزلت فاتقوا الله ما استطعتم بنسخة اتقوا الله حق تقاته وأنها مثلها لأنه
لا يكلف أحدا إلا طاقته
وزعم قوم من العلماء الكوفيين أن الآية الثالثة ناسخة
وقال غيرهم هي محكمة وليست بناسخة
باب ذكر الآية الثالثة من هذه السورة
قال الله عز و جل ليس لك من الآمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم
ظالمون
فزعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي يفعله بعد
الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح
واحتج بحديث حدثناه أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد
الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن النبي لعن في صلاة
الفجر بعد الركوع في الركعة الآخرة فقال اللهم العن فلانا وفلانا ناسا من
المنافقين فأنزل الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو
يعذبهم فإنهم ظالمون
قال أبو جعفر فهذا إسناد مستقيم وليس فيه دليل على ناسخ ولا منسوخ وإنما
نبهه الله عز و جل على أن الأمر إليه ولو كان هذا ناسخا لما جاز أن يلعن
المنافقون
واحتج أيضا بما حدثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا شبابة
قال أخبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي
هريرة قال كان رسول الله إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت بعد
الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن
حمده ربنا ولك الحمد اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف حتى أنزلت ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون
وهذا أيضا نظير الحديث الأول وفيه حجة على الكوفيين لأنهم
يقولون لا يجوز أن يدعى في الصلاة إلا بما في القرآن أو ما أشبهه وليس في
القرآن من هذا شيء ولذلك عارض هذا المحتج بأن جعله في الناسخ والمنسوخ بلا
حجة قاطعة ولا دليل واضح لما صح عن النبي الدعاء في الصلاة بغير ما في
القرآن وعن الصحابة والتابعين
وأيضا فإن العرب إنما كانت تعرف الصلاة في كلامها الدعاء كما قال ... تقول
بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا ...
... عليك مثل الذي صليت فاعتصمي ... يوما فإن لجنب المرء مضجعا ...
فسميت الصلاة صلاة لأن الدعاء فيها وهذا قول المدنيين أن للإنسان أن يدعو
في صلاته بما شاء من الطاعة
وعلى أنه قد روي بما صح سنده في نزول الآية غير هذا
من ذلك ما حدثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا يزيد بن هارون
قال أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال شج النبي في وجهه وكسرت
رباعيته ورمي رمية على كتفه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف تفلح أمة
فعلوا هذا بنبيهم فأنزل الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم
أو
يعذبهم فإنهم ظالمون
وهذا الحديث ليس بناقض لما تقدم بكون الأمران جميعا كانا فنزلت الآية
وقرىء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا يوسف بن
بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني يعقوب بن عتبة عن سالم بن عبد الله بن
عمر قال جاء رجل من قريش إلى النبي فقال إنك تنهى عن السبي تقول قد سبي
العرب ثم تحول فحول قفاه إلى النبي وكشف إسته في وجه رسول الله فلعنه ودعا
عليه فأنزل الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم
فإنهم ظالمون ثم أسلم الرجل فحسن إسلامه
قال أبو جعفر فهذا الحديث وإن كان منقطعا فإنما ذكرناه لأن
سالما هو الذي وصله عن أبيه وفي هذا زيادة أن الرجل أسلم فعلم أن النبي
نبه على أنه لا يعلم من الغيب شيئا وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء
ويعجل العقوبة لمن يشاء
والتقدير ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك
ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء ويعذب من يشاء
فتبين بهذا كله أن لا ناسخ ولا منسوخ في هذا
اخبرنا أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا
عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري وعن عثمان الخزري عن مقسم قال دعا
رسول الله فقال اللهم لا يبلغ الحول حتى يموت كافرا قال فما بلغ الحول حتى
مات كافرا إلى النار
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
قال الله عز و جل وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم
قال أبو جعفر في هذه الآية إشكال وتفسير ونحو وقد ذكرنا ما فيها إلا ما
كان من النسخ فإنها على مذهب جماعة من العلماء ناسخة
وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وبرهة من الإسلام يتزوج الرجل ما شاء من
الحرائر فنسخ الله ذلك بالقرآن والسنة والعمل وأنه لا يحل لأحد أن يتزوج
فوق أربع ونسخ ما كانوا عليه
قال الحسن والضحاك كان الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة منهن من قد تزوجه في
الجاهلية ومنهن من قد تزوجه في الإسلام وأكثر وأقل حتى سألوا النبي عن
اليتامى فنزلت وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى أي تعدلوا فانكحوا ما طاب
لكم من النساء أي فكما خفتم في اليتامى فخافوا في نكاح النساء
قال محمد بن الحسن في رجل أسلم وعنده عشر نسوة قال يخلى منهن ستا ويمسك
أربعا من اللواتي تزوج بدئا فبدئا وليس له أن يختار منهن أربعا فإن احتج
بالحديث عن النبي أنه خير غيلان فقال له اختر أربعا قيل للمحتج بهذا إن
غيلان تزوج عشرا وذلك مباح فكان
العشر مباحات فلما رفع ذلك قيل له اختر
قال أبو جعفر وهذا كلام لطيف حسن غير أن مالكا والشافعي وأبا حنيفة رحمهم
الله يجيزونه على ظاهر الحديث
ولم يزل المسلمون من لدن رسول الله إلى هذا الوقت يحرمون ما فوق الأربع
بالقرآن والسنة
قريء على أحمد بن شعيب عن الحسن بن حريث قال أخبرنا
الفضل بن موسى قال أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر
قال أسلم غيلان بن سلمة وعنده عشر نسوة فقال له رسول الله أمسك أربعا
وفارق سائرهن
قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثنا عبد الرحمن
بن زياد عن أبي جعفر الرازي عن محمد بن السائب عن حميصه بن الشمردل عن قيس
بن الحارث قال أسلمت وكان تحتي في الجاهلية ثماني نسوة فأتيت رسول الله
فأخبرته فقال اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت قال أبو جعفر ومعنى مثنى
في اللغة اثنين اثنين وثلاث ثلاثا
ثلاثا
هذا قول الخليل وسيبويه والكسائي وغيرهم ولهذا لم يصرف وقيل معدول وليس
معناه اثنين فقط فيعارض معارض بأن يقول اثنتان وثلاث وأربع تسع وأيضا فليس
من كلام الفصحاء اثنين اثنين وثلاثا وأربعا وأيضا فلو كان معناه تسعا لكان
المعنى فانكحوا تسعا أو واحدة وكان محظورا ما بين ذينك
قال أبو جعفر وهذه احتجاجات قاطعة وإن كان في توقيف الرسول كفاية مع
الإجماع من الذين لا يجتمعون على غلط ولا خطأ
واختلف العلماء في الآية الثانية فمنهم من قال هي منسوخة ومنهم من قال هي
محكمة
باب ذكر الآية الثانية من هذه السورة
قال الله عز و جل مخاطبا للأوصياء في أموال اليتامى ومن كان غنيا فليستعفف
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف
فمنع جماعة من أهل العلم الوصي من أخذ شيء من مال اليتيم فحكى بشر بن
الوليد عن أبي يوسف قال لا أدري لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز و جل يا
أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم
وقال أبو يوسف لا يحل له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا إذا كان مقيما معه في
المصر فإن احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ولا يقتني
شيئا وهو قول أبي حنيفة ومحمد
وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحق قال حدثنا إبراهيم بن عبد
الله قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس ومن كان
غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف
قال نسخ الظلم والاعتداء ونسختها إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون
سعيرا
ثم افترق الذين قالوا إن الآية محكمة فرقا
فقال بعضهم إن احتاج الوصي فله أن يقترض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه
وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبيدة وأبي العالية وسعيد بن جبير
واستشهد عبيدة وأبو العالية بأن بعده فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا
عليهم
كما قريء على الحسن بن غليب بن سعيد عن يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأخوص
قال حدثنا أبو إسحاق عن يرفأ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال لي
عمر يا يرفأ إني أنزلت مال الله عز و جل مني بمنزلة مال اليتيم إن احتجت
أخذت منه فإذا أيسرت قضيته وإني إن استغنيت استعففت فإني قد وليت من أمر
المسلمين أمرا عظيما
قال أبو جعفر وهذا قول جماعة من التابعين وغيرهم منهم عبيدة قال
لا يحل للوصي أن يأخذ من مال اليتيم إلا قرضا واستشهد بأن بعد هذا فإذا
دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكذا قول أبو العالية ومجاهد كما قريء
على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح بن عبادة
قال حدثنا بن عيينة قال حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد قال يستسلف ولي
اليتيم من ماله فإذا أيسر رده
قال روح وحدثنا شعبة عن حماد عن سعيد ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال
قرضا وفقهاء الكوفيين على هذا القول
وقال أبو قلابة فليأكل بالمعروف مما يجبي من الغلة فأما المال الناض فليس
له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره
وذهب جماعة من العلماء إلى ظاهر الآية فقال له أن يأخذ منه مقدار قوته
منهم الحسن كما قرىء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر
قال حدثنا روح عن اشعث عن الحسن قال
إذا احتاج ولي اليتيم أكل بالمعروف وليس عليه إذا أيسر قضاؤه
والمعروف قوته
قال أبو جعفر وهذا قول قتادة والنخعي
كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال
أخبرنا سفيان الثوري عن مغيرة عن إبراهيم في قوله عز و جل ومن كان فقيرا
فليأكل بالمعروف قال ما سد الجوعة ووارى العورة وليس يلبس الكتان ولا
الحلل
واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية اختلافا كثيرا على أن الأسانيد عنه
صحاح مع اختلاف المتون
فمن ذلك أنه قرىء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أحمد بن الأزهر
قال حدثنا روح قال حدثنا شعبة ومالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن
محمد قال جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إن لي إبلا أفقر ظهورها وأحمل
عليها ولي يتيم له إبل فما يحل لي منها قال إذا كنت تهنأ جرباها وتلوط
حوضها وتنشد ضالتها وتسقي وردها فاحلبها غير ناهك لها في الحلب ولا مضر
بنسلها
قال أبو جعفر وهذا إسناد صحيح غير أنه لو كان هذا على هذا
التأويل وأن الوصي إنما يأخذ بمقدار عمله كان الغني والفقير في ذلك واحدا
وقد فرق الله عز و جل بينهما في الآية بعينها
وروى عكرمة عن ابن عباس ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال إذا احتاج
واضطر
وقال الشعبي كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ فإذا وجد أوفى
وهذا لا معنى له لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال
يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد
وعن ابن عباس رواية ثالثة كما قريء على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن
موسى قال حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن
عباس في قول الله عز و جل ومن كان غنيا فليستعفف قال بغناه ولا يأكل مال
اليتيم ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى
مال اليتيم
قال أبو جعفر وهذا من أحسن ما روى في تفسير الآية لأن أموال
الناس محظورة لا يطلق منها شيء إلا بحجة قاطعة
وقد تنازع العلماء في معنى الآية واحتملت غير تأويل فعدلنا إلى هذا لما
قلنا وهو قول محكي معناه عن الشافعي رحمه الله وقد ذكرنا قول أهل الكوفة
وأنهم يجعلونه على القرض
فأما مذهب أهل المدينة أو بعضهم فما ذكرناه من قول الحسن واحتج لهم محتج
بما روى عن النبي كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال
حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن العرني
قال قال رجل للنبي إن في حجري يتيما أفأضربه قال مما تضرب منه ولدك قال
أفأصيب من ماله قال غير متأثل مالا ولا واق مالك بما له
وقريء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري عن أبي الأزهر قال
حدثنا روح قال حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء
رجل إلى النبي فقال إني لا أجد شيئا أوليس لي شيء وليتيمي مال قال كل منه
غير مسرف
ولا متأثل مالا قال واحبسه قال ولا تفد مالك بماله
قال أبو جعفر والذين ذهبوا إلى هذا من أهل المدينة يجيزون أخذ القوت وما
لا يضر باليتيم
والذي روى في ذلك عن النبي هو من أحاديث المشايخ وليس هو مما يقطع به في
مثل هذا
واختلف العلماء أيضا في الآية الثالثة من هذه السورة فقال بعضهم هي منسوخة
وقال بعضهم هي محكمة
باب ذكر الآية الثالثة من هذه السورة
قال الله جل وعز وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
قال أبو جعفر للعلماء فيها ثلاثة أقوال فمنهم من قال إنها منسوخة ومنهم من
قال هي محكمة واجبة ومنهم من قال هي محكمة على الندب والترغيب والحض
فممن روى عنه أنها منسوخة ابن عباس وسعيد بن المسيب
كما قريء على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا سلمة بن
الفضل قال حدثنا إسماعيل بن مسلم عن حميد الأعرج عن مجاهد عن ابن عباس في
قوله عز و جل وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم
منه قال نسختها يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
أخبرنا أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال
أخبرنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة أن ابن المسيب قال في قول الله
عز و جل وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
نسخها الميراث والوصية
وقال بأنها محكمة منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك
وممن قال إنها محكمة ويؤول قوله على الندب عبيدة وعروة وسعيد بن جبير
ومجاهد وعطاء والحسن والزهري والشعبي ويحيى وابن يعمر وهو مروي عن ابن
عباس
قال أبو جعفر كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية
بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإذا حضر القسمة أولوا القربى
واليتامى والمساكين قال أمر الله عز و جل المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن
يصلوا أرحامهم وأيتامهم ومساكينهم من الوصية فإن لم يكن وصية وصل لهم من
الميراث
قال أبو جعفر وهذا أحسن ما قيل في الآية أن يكون على الندب والترغيب في
فعل الخير والشكر لله عز و جل فأمر الله تعالى الذين فرض لهم الميراث إذا
حضروا القسمة وحضر معهم من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أن
يرزقوهم شكرا لله عز و جل على ما فرض لهم
وقد زعم بعض أهل النظر أنه لا يجوز أن يكون ههنا نسخ لأن الذي
يقول إنها منسوخة لا يخلو أمره من إحدى جهتين إما أن يكون كانت ندبا ثم
نسخت وهذا محال لأن الندب إلى الخير لا نسخه لا تفعلوا الخير وهذا المحال
أو تكون كانت واجبة فنسخت وهذا أيضا لا يكون لأن قائله يقول إنه كان إذا
حضر أولو القربى واليتامى والمساكين أعطوهم ولم يعطوا العصبة فنسخ ذلك
بالفرض
وهذا لم يعرف قط في جاهلية ولا إسلام وأيضا فإن الآية إذا ثبتت فلا يقال
فيها منسوخة إلا أن ينفي حكمها
على أنه قد روى عن ابن عباس رواه عنه القاسم بن محمد أنه قال هذا مخاطبة
للموصي نفسه وكذا قال ابن زيد قيل للموصى أوص لذوي القربى واليتامى
والمساكين
واستدل على هذا بأن بعده وقولوا لهم قولا معروفا أي إن لم توصوا لهم
فقولوا لهم قولا معروفا أي خيرا
وهذا القول اختيار محمد بن جرير
فأما القول الثالث فهو أن تكون محكمة واجبة كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال
حدثنا إبراهيم بن إسحق قال حدثنا عبيد الله قال
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه قال
هي واجبة عند قسمة الميراث ما طابت به أنفسهم
قال أبو جعفر فهذا مجاهد يقول بإيجابها بالإسناد الذي لا يدفع صحته وهذا
خلاف ما روى عنه عن ابن عباس غير أن هذا الإسناد أصح
أخبرنا أبو جعفر قال وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال
أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن والزهري وإذا حضر القسمة
أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه قالا هي محكمة ما طابت به
أنفسهم عند أهل الميراث وأكثر العلماء على هذا القول وقد بينا صحته
والصحيح في الآية الرابعة والخامسة أنهما منسوختان
باب ذكر الآية الرابعة والخامسة من هذه السورة
قال الله عز و جل والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة
منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا والذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إلى
الآية الأخرى
أخبرنا أبو جعفر قال حدثنا معمر عن قتادة في قوله عز و جل فأمسكوهن في
البيوت حتى يتوفاهن الموت قال نسختها الحدود وفي قوله والذان يأتيانها
منكم فأذوهما قال نسختها الحدود
قال أبو جعفر وفي الآيتين ثلاثة أقوال للعلماء الذين اتفقوا على نسخهما
فمنهم من قال كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا وكانا ثيبين أو بكرين أن
يحبس كل واحد منهما في بيت حتى يموت ثم نسخ هذا بالآية الأخرى وهي والذان
يأتيانها منكم فأذوهما فصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير ثم نسخ ذلك
فصار حكم البكر من الرجال والنساء إذا زنيا أن يجلدا مائة جلدة وينفى عاما
وحكم الثيب من الرجال والنساء أن يجلد مائة ويرجم حتى يموت
قال أبو جعفر وهذا القول مذهب عكرمة وهو مروي عن الحسن
عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت
قال أبو جعفر فهذا قول
والقول الثاني أنه كان حكم الزاني والزانية الثيبين إذا زنيا أن يحبسا حتى
يموتا وحكم البكرين أن يؤذيا وهذا قول قتادة وإليه كان يذهب محمد بن جرير
واحتج بأن الآية الثانية والذان يأتيانها منكم فدل هذا على أنه يراد الرجل
والمرأة البكران قال ولو كان لجميع الزناة لكان والذين كما أن الذي قبله
والاتي يأتين الفاحشة قال ولأن العرب لا توعد اثنين إلا أن يكونا شخصين
مختلفين
والقول الثالث أن يكون قوله عز و جل والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم عاما
لكل من زنت من ثيب وبكر وأن يكون والذان يأتيانها منكم عاما لكل من زنى من
الرجال ثيبا كان أو بكرا
وهذا قول مجاهد وهو مروي عن ابن عباس وهو أصح الأقوال بحجج بينة
سنذكرها
فأما قول من قال إن الآية الثانية ناسخة للأولى وإن كان يحتمل ذلك فالحديث
عن رسول الله يدل على غير ذلك كما قريء على علي بن سعيد بن بشير عن عمرو
بن رافع قال حدثنا هشيم قال حدثنا منصور عن الحسن عن حطان بن عبد الله
الرقاشي عن عبادة بن الصامت عن رسول الله قال خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم
فبين بقول رسول الله قد جعل الله لهن سبيلا أن الآية لم تنسخ قبل هذا
قال أبو جعفر وهذا الحديث أصل من أصول الفقه وإن كان قد تؤول فيه شيء
سنذكره في موضعه
ومما يدل أيضا على ما قلنا أن أحمد بن محمد الأزدي حدثنا قال
حدثنا أبو شريح محمد بن زكريا وابن أبي مريم قالا حدثنا محمد بن يوسف قال
حدثنا قيس بن الربيع قال حدثنا مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز و جل
والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت قال فكانت المرأة إذا زنت حبست ماتت أو عاشت حتى نزل
في سورة النور الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ونزلت
سورة الحدود فكان من عمل سوءا جلد وأرسل
قال أبو جعفر ودل هذا على أن ابن عباس لم يكن يقول بنفي الزاني
وأما القول الثاني الذي اختاره محمد بن جرير ففيه شيء وذلك أنه جعل والذان
يأتيانها منكم للرجل والمرأة وهذا إنما يجوز في العربية على مجاز ولا يحمل
الشيء على مجاز ومعناه صحيح في الحقيقة والذي عارض به من قوله إن العرب لا
توعد اثنين إلا أن يكونا شخصين مختلفين فهذا إن صح فهما شخصان مختلفان
لأنه إذا كان واللذان للرجل الثيب والبكر فهما مختلفان
ومعارضته أنه لو كان هكذا لوجب أن يكون والذين لا يلزم لأن العرب تحمل على
اللفظ وعلى المعنى كما قال عز و جل وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما ومثل هذا كثير
والقول الذي اخترناه هو قول ابن عباس كما حدثنا نصر بن سهل قال
حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس قال وقوله جل وعز والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم فكانت المرأة إذا زنت تحبس في البيت حتى تموت ثم أنزل
الله جل وعز بعد ذلك الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فإن
كان محصنين رجما فهذا هو السبيل الذي جعله الله لهما
قال وقوله جل وعز والذان يأتيانها منكم فأذوهما فكان الرجل إذا زنى أوذي
بالتعيير وضرب النعال فأنزل الله جل وعز بعد ذلك هذا الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله
قال أبو جعفر هذا نص كلام ابن عباس فتبين أن قوله جل وعز واللاتي يأتين
الفاحشة من نسائكم عام لكل من زنى من النساء وأن قوله عز و جل والذان
يأتيانها منكم عام لكل من زنى من الرجال ونسخ الله عز و جل الآيتين في
كتابه وعلى لسان رسوله بحديث عبادة بن الصامت الذي ذكرناه
فمر بعض العلماء على استعمال حديث عبادة وأنه يجب على الزاني
والزانية البكرين جلد مائة وتغريب عام وأنه يجب على الثيبين جلد مائة
والرجم
هذا قول على بن أبي طالب رضي الله عنه لا اختلاف عنه في ذلك أنه جلد شراحة
مائة ورجمها بعد ذلك وقال جلدتها بكتاب الله عز و جل ورجمها بسنة رسول
الله
وقال بهذا القول من الفقهاء الحسن بن صالح بن حي وهو قول الحسن بن أبي
الحسن وإسحق بن راهويه
والحجة في قول الله عز و جل الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مائة جلدة فثبت الجلد بالقرآن والرجم بالسنة ومع هذا فقول الرسول
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم
وقال جماعة من العلماء بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر رضي
الله عنه وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب
الرأي وأحمد وأبي ثور فمنهم من احتج بأن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم
ومنهم من قال آية الجلد مخصوصة ومنهم من قال حديث عبادة منسوخ منه الجلد
الذي على الثيب واحتجوا بأحاديث سنذكر منها ما فيه كفاية
فمنها ما قريء على أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال
حدثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت قال زيد بن ثابت
سمعت رسول الله يقول الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة
وقريء على أحمد عن قتيبة قال حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله لماعز بن مالك أحق ما بلغني عنك قال
ما بلغك عني قال
بلغني أنك وقعت على جارية آل بني فلان قال نعم فشهد أربع شهادات
ثم أمر به فرجم
قالوا فليس في هذين الحديثين ذكر الجلد مع الرجم
وكذا قوله أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنا فارجمها ولم يذكر
الجلد فدل هذا على نسخه
وقال المخالف لهم لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنه ليس في واحد منها أنه
لم يجلد وقد ثبت الجلد بكتاب الله عز و جل فليس بممتنع أن يسكت عنه لشهرته
وقد تكلم العلماء منهم الشافعي رحمه الله في نظير هذا فقالوا قد يحفظ
البعض ما لا يحفظ الكل وقد يروى بعض هذا الحديث ويحذف بعضه
واختلفوا في موضع آخر من أحكام الزنا فقال قوم في البكر تجلد وتنفى وقال
قوم تجلد ولا تنفى وقال قوم النفي إلى الإمام على حسب ما يرى
فممن قال تجلد وتنفى الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي
رضي الله عنهم أجمعين وهو قول ابن عمر
وقال به من الفقهاء عطاء وطاووس وسفيان الثوري ومالك وابن أبي
ليلى والشافعي وأحمد وأبو إسحاق وأبو ثور
وقال بترك النفي حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن
قال أبو جعفر وحجة من قال بالنفي الحديث المسند بدءا ثم كثره من قال به
وجلالتهم كما قريء على أحمد بن شعيب عن قتيبة قال حدثنا ابن عيينة عن
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل قالوا
كنا عند النبي فقام رجل فقال أنشدك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله عز و
جل فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله عز و جل وأذن
لي أن أتكلم فقال قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت
بمائة شاة وخادم كأنه أخبر على ابنه الرجم فافتدى منه بمائة شاة وخادم قال
رسول الله والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز و جل أما مائة
الشاة والخادم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام اغد يا
أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنا فارجمها فغدا عليها
فاعترفت بالزنا فرجمها
قال أبو جعفر فثبت التغريب بلفظ رسول الله فمن ادعى نسخه فعليه أن يأتي
بالتوقيف بذلك فأما المعارضة بأن العبد لا ينفى بالزنا فغير لازمة وقد صح
عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها ولو وجب ألا ينفي الأمة
والعبد لما وجب ذلك في الأحرار وكان هذا مخرجا من الحديث وكذا القول في
النساء على أن المزني قد حكى أن الأولى بقول الشافعي رحمه الله أن تنفى
الأمة نصف سنة لقول الله عز و جل فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
ومن قال النفي إلى الإمام احتج بأن في حديث مالك عن الزهري عن أبي عبيد
الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله جلد وغرب وليس فيه كما في
حديث ابن عيينه
وفي الآية السادسة موضعان قد أدخلا في الناسخ والمنسوخ
باب ذكر الآية السادسة من هذه السورة
قال الله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذالكم وفيها فما استمتعتم به منهن
فئاتوهن أجورهن فريضة
فقوله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذالكم لولا ما جاء فيه من النسخ لم يكن
تحريم سوى في الآية وحرم الله عز و جل على لسان رسوله من لم يذكر في الآية
حدثنا أبو جعفر كما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال
حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال لا
يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها
وقريء على أحمد بن شعيب عن إبراهيم بن الحسن قال حدثنا حجاج عن ابن جريج
عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله أن تنكح المرأة على عمتها أو على
خالتها
قال أبو جعفر ولهذا الحديث طرق غير هذين الطريقين فاجتزأنا بهما
لصحتهما واستقامة طريقهما قال حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبيد
الله بن محمد المؤدب قال حدثنا علي بن معبد بن شداد العبدي قال حدثنا
مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله نهى أن يجمع بين
العمة والخالة وبين الخالتين وبين العمتين
قال أبو جعفر وقد أشكل هذا الحديث على بعض اهل العلم وتحير في معناه حتى
حمله على ما يبعد أو لا يجوز فقال معنى بين العمتين على المجاز أى بين
العمة وبنت أخيها فقيل لهما عمتان كما قيل سنة العمرين يعنون أبا بكر وعمر
رضي الله عنهما وقال وبين الخالتين مثله على المجاز وقال أو في الأول حذف
أي بين العمة وبنت أخيها
وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون
كلاما مكررا بغير فائدة لأنه إذا كان المعني نهى أن يجمع بين العمة وبنت
أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررا بغير فائدة
وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة وليس كذا الحديث لأن
الحديث نهى أن يجمع بين العمة والخالة
فالواجب على لفظ الحديث أنه نهى أن يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى
والأخرى خالة الأخرى وهذا يخرج على معنى صحيح بكون رجل وابنه تزوجا امرأة
وابنتها تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من
هاتين الزوجتين فابنة الأب عمة ابنة
الإبن وابنة الإبن خالة ابنة الأب
وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة
صاحبتها وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته فولد لكل منهما
ابنة فابنة كل واحدة منهما خالة الأخرى واما الجمع بين العمتين فيوجب ألا
يجمع بين امرأتين كل واحدة منها عمة الأخرى وذلك أن يتزوج رجل أم رجل
فيتزوج الآخر أم الآخر فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة
الأخرى
قال أبو جعفر فهذا ما حرمه الله على لسان رسول الله مما ليس في
القرآن
وقد قال الله عز و جل واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايات الله والحكمة
فقيل الحكمة السنة ثم قاس الفقهاء على هذا فقالوا كل امرأتين لو كانت
إحداهما رجلا لم يجز أن تتزوج الأخرى فلا يجوز الجمع بينهما
ثم حرم الله على لسان رسوله مما ليس في الآية كما حدثناه بكر بن سهل قال
حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن
يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال تحرم
الرضاعة ما تحرم الولادة
ولهذا الحديث طرق اجتزأنا بهذا منها لأنه لا مطعن فيه وليس في القرآن إلا
تحريم الأمهات والأخوات من الرضاعة فقط
ثم اختلف العلماء في الرضاع بعد الحولين فقال أكثرهم لا رضاع
بعد الحولين فممن قال هذا أزواج النبي إلا عائشة رضي الله عنها وهو أحد
قولي مالك والقول الآخر عنه بعد الحولين بيسير نحو الشهر وقال أبو حنيفة
بعد الحولين بستة أشهر وقال زفر بعد الحولين بستة وقالت طائفة أخرى الرضاع
للصغير والكبير معنى واحد
فممن صح عنه هذا عائشة رضي الله عنها وأبو موسى الأشعري وقال به الفقهاء
الليث بن سعد وكان يفتي به قال
عبد الله بن صالح سألته امرأة تريد الحج وليس لها ذو محرم فقال
امض الى امرأة رجل فترضعك فيكون زوجها أباك فتحجي معه
والحجة لهذا القول انه قريء على احمد بن شعيب عن عبد الله بن محمد بن عبد
الرحمن قال حدثنا ابن عيينة قال سمعناه من عبد الرحمن بن القاسم بن محمد
عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت سهلة ابنة سهيل إلى رسول الله
فقالت إني أرى في وجه أبي حذيفة علي إذا دخل سالم قال النبي فأرضعيه قالت
كيف أرضعه وهو رجل كبير قال ألست أعلم أنه رجل ثم جاءت بعد فقالت والله يا
رسول الله ما أرى في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكرهه
قال أبو جعفر واحتج من قال الرضاع في الحولين لا غير بقول الله عز و جل
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة فعارضهم
الآخرون فقالوا ليس في هذا دليل على نفي ما بعد الحولين
واحتج الآخرون أيضا بأن الحديث المسند إنما فيه إزالة كراهته فعارضهم
الآخرون فقالوا لم تزل عائشة رضي الله عنها تقوم برضاع
الكبير معروفا ذلك غير أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن كان يقول هذا
الحديث مخصوص في سالم وحده
وقال غيره هو منسوخ واستدل على ذلك بأن مسروقا روى عن عائشة رضي الله عنها
كن عشر رضعات نزلن في الشيخ الكبير ثم نسخن وروى أيضا مسروق عن عائشة رضي
الله عنها عن رسول الله أنه قال إنما الرضاعة من المجاعة
قال أهل اللغة معنى هذا إنما الرضاعة للصبي الذي إذا جاع أشبعه اللبن
ونفعه من الجوع فأما الكبير فلا رضاعة له
قال أبو جعفر قريء على أحمد بن شعيب عن قتيبة قال حدثنا أبو عوانة عن هشام
بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة عن رسول الله أنه قال لا رضاع إلا
ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام
وأما قوله عز و جل فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة فقد اختلف العلماء بعد اجتماع من تقوم به
الحجة أن المتعة حرام بكتاب الله عز و جل وسنة رسول الله وقول
الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين وتوقيف علي بن أبي طالب
رضي الله عنه ابن عباس وقوله له إنك رجل تائه وإن رسول الله قد حرم المتعة
والاختلاف بين العلماء في صحة الإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
واستقامة طريقه بروايته عن رسول الله تحريم المتعة وسنذكر
ذلك بإسناده في موضعه إن شاء الله تعالى
فقال قوم فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة قال هو النكاح بعينه
وما أحل الله جل وعز المتعة قط في كتابه
فممن قال هذا من العلماء الحسن ومجاهد كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال
حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا الفاريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد فما استمتعتم به منهن قال النكاح
قال أبو جعفر حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال أخبرنا عبد
الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن فما استمتعتم به منهن قال النكاح وكذا
يروى عن ابن عباس
قال أبو جعفر وسنذكره بإسناده وشرحه
وقال جماعة من العلماء كانت المتعة حلالا ثم نسخ الله عز و جل ذلك بالقرآن
وممن قال هذا سعيد بن المسيب وهو يروي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما
وهو قول القاسم وسالم وعروة كما قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى
بن سليمان قال حدثنا علي بن هاشم
عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز و
جل فما استمعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة قال نسختها يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن يقول الطلاق للطهر الذي لم يجامعها فيه
وقريء على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع عن سفيان
عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال نسخت المتعة آية الميراث يعني
ولكم نصف ما ترك أزواجكم
قال أبو جعفر وذلك أن المتعة لا ميراث فيها فلذلك قال فيها بالنسخ وإنما
المتعة أن يقول لها أتزوجك يوما وما أشبه ذلك على أنه لا عدة عليك ولا
ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك وهذا هو الزنا بعينه ولذلك
قال عمر رضي الله عنه لا أوتي برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة
قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا
الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال قال لي سالم بن عبد الله وهو يذاكرني
يقولون بالمتعة هؤلاء فهل رأيت نكاحا لا
طلاق فيه ولا عدة له ولا ميراث فيه قال وقال لي القاسم بن محمد
بن أبي بكر الصديق كيف يجترئون على الفتيا بالمتعة وقد قال الله عز و جل
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون
قال أبو جعفر وهذا قول بين لأنه إذا لم تكن تطلق ولا تعتد ولا ترث فليست
بزوجة
وقال قوم من العلماء الناسخ للمتعة الحديث عن رسول الله كما قريء على أحمد
بن محمد الأزدي عن إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا عبد الله بن محمد بن
أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن
علي بن أبي طالب والحسن بن محمد حدثاه عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يقول لابن
عباس إنك رجل تائه إن رسول الله نهى عن المتعة
قال أبو جعفر ولهذا الحديث طرق فاجتزأنا بهذا لصحته ولجلالة جويريه بن
أسماء ولأن ابن عباس لما خاطبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا لم
يحاججه فصار تحريم المتعة إجماعا لأن الذين يحلونها اعتمادهم على ابن عباس
وقال قوم نسخت المتعة بالقرآن والسنة جميعا وهذا قول أبي عبيد وقد روى
الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي حرم المتعة يوم الفتح
فقد صح من الكتاب والسنة التحريم ولم يصح التحليل من الكتاب بما ذكرنا من
قول من قال إن الإستمتاع النكاح
على أن الربيع بن سبرة قد روى عن أبيه أن رسول الله قال لهم استمتعوا من
هذه النساء قال والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج
حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن صالح قال أخبرنا معاوية
بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقوله جل وعز فما استمتعتم به
منهن فأتوهن أجورهن فريضة يقول إذا تزوج الرجل المرأة فنكحها مرة واحدة
وجب لها الصداق كله والاستمتاع النكاح قال وهو قوله تعالى وءاتوا النساء
صدقاهن نحلة
قال أبو جعفر فبين ابن عباس أن الاستمتاع هو النكاح بأحسن بيان فالتقدير
في العربية فما استمتعم به ممن قد تزوجتموه بالنكاح مرة أو أكثر من ذلك
فأعطوها الصداق كاملا إلا أن تهبه له أو تهب منه
وقيل التقدير فما استمتعتم به وما بمعنى من وقيل التقدير فما استمتعتم به
من دخول بالمرأة فلها الصداق كاملا أو النصف إن لم يدخل بها
فأما ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فتأوله قوم من الجهال
المجترئين على كتاب الله عز و جل أن المتمتع إن أراد الزيادة بغير استبراء
ورضيت بذلك زادته وزادها وهذا الكذب على الله تعالى
قال أبو جعفر ومن أصح ما قيل فيه أنه لا جناح على الزوج والمرأة أن
يتراضيا بعدما انقطع بينهما من الصداق أن تهبه له أو تنقصه منه أو يزيدها
فيه
واختلف العلماء في الآية السابعة فمنهم من قال هي منسوخة ومنهم من قال هي ناسخة ومنهم من قال هي محكمة غير ناسخة ولا منسوخة
باب ذكر الآية السابعة من هذه السورة
قال الله عز و جل والذين عقدتم أيمانكم فأتوهم نصيبهم
فمن أصح ما روى في هذه الآية إسنادا وأجله قائلا ما حدثناه أحمد بن شعيب
قال أخبرني هارون بن عبد الله قال حدثنا أبو أسامة قال حدثني إدريس بن
يزيد قال حدثنا طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى
والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم قال كان المهاجرون حين قدموا المدينة
تورث الأنصار دون رحمهم للأخوة التي آخى النبي بينهم حتى نزلت الآية ولكل
جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون قال نسختها والذين عقدت أيمانكم
فأتوهم نصيبهم قال من النصر والنصح والرفادة ويوصي له وهو لا يرث
قال أبو عبد الرحمن إسناده صحيح
قال أبو جعفر فحمل هذا الحديث وأدخل في المسند على أن الآية ناسخة وليس
الأمر عندي كذلك والذي يجب أن يحمل عليه الحديث أن يكون ولكل جعلنا مولى
ناسخا لما كانوا يفعلونه وأن يكون والذين عقدت أيمانكم غير ناسخ ولا منسوخ
ولكن فسره ابن عباس وسنبين العلة في ذلك عند آخر هذا الباب
ولكن ممن قال الآية ناسخة سعيد بن المسيب كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال
حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد قال
حدثنا مروان بن أبي الهذيل سمع الزهري يقول أخبرني سعيد في قول الله عز و
جل والذين عقدت أيمانكم قال الحلفاء في الجاهلية والذين كانوا يتبنون
فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم فنزع
الله عز و جل ميراثهم وأثبت لهم الوصية
وقال الشعبي كانوا يتوارثون حتى أزيل ذلك
وممن قال إنها منسوخة الحسن وقتادة كما قريء على عبد الله بن
أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال حدثنا روح عن أشعث عن الحسن والذين
عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل على أنهما إذا مات
أحدهما ورثه الآخر فنسختها آية المواريث
وقال قتادة كان يقول ترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فنسخها وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض
وقال الضحاك كانوا يتحالفون ويتعاقدون على النصر والوراثة فإذا مات أحدهم
قبل صاحبه كان له مثل نصيب ابنه فنسخ ذلك بالمواريث
ومثل هذا أيضا مروي عن ابن عباس مشروحا كما حدثنا أحمد قال كما حدثنا بكر
بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس قال وقوله جل وعز والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم كان
الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه الآخر فأنزل الله عز و جل
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا
أن تفعلوا إلى أوليائكم
معروفا قال يقول يوصي له وصية فهي جائزة من ثلث مال الميت فذلك
المعروف
وممن قال إنها محكمة مجاهد وسعيد بن جبير كما قريء على إبراهيم بن موسى
الجوزي عن يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد في
قوله عز و جل والذين عقدت إيمانكم فأتوهم نصيبهم قال من العقل والمشورة
والرفد وقال سعيد بن جبير فأتوهم نصيبهم من العون والنصر
قال أبو جعفر وهذا أولى ما قيل في الآية أنها محكمة لعلتين
إحداهما أنه إنما يحمل النسخ على ما لا يصح المعنى إلا به وما كان منافيا
فأما ما صح معناه وهو متلو فبعيد من الناسخ والمنسوخ
والعلة الأخرى الحديث عن النبي الصحيح الإسناد كما حدثنا أحمد بن شعيب قال
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال
حدثنا إسحق الأزرق عن زكريا بن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم عن
محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله قال لا خلف في الإسلام وأيما
حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة فتبين بهذا الحديث أن
الحلف غير منسوخ وتبين من الحديث الأول وقول مجاهد وسعيد بن جبير أنه في
النصر والنصيحة والعون والرفد ويكون ما في الحديث الأول من قول ابن عباس
نسختها يعني ولكل جعلنا مولى لأن الناس كانوا يتوارثون في الجاهلية
بالتبني وتوارثوا في أول الإسلام بالإخاء ثم نسخ هذا كله فرائض الله عز و
جل بالمواريث
واختلف العلماء أيضا في الآية الثامنة
باب ذكر الآية الثامنة من هذه السورة قال الله عز و جل يا أيها
الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
أكثر العلماء على أنها منسوخة غير أنهم يختلفون في الناسخ لها فمن ذلك ما
قريء على أحمد بن شعيب عن إسحاق بن إبراهيم قال أحبرنا أبو داود قال حدثنا
سفيان عن على بن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز و جل لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى قال نسختها إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق الآية
قال أبو جعفر فيكون على هذا قد نسخت الآية على الحقيقة يكونون أمروا بألا
يصلوا إذا سكروا ثم أمروا بالصلاة على كل حال فإن
كانوا لا يعقلون ذلك فعليهم أن يصلوا وهذا قبل التحريم فأما بعد
التحريم فينبغي ألا يفعلوا ذلك أعني من الشرب فإن فعلوا فقد أساءوا والحكم
في الصلاة واحد إلا الزيادة في المضمضة من المسكر لأنه لما حرم صار نجسا
فهذا قول
وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى
قال في المساجد وتقدير هذا في العربية لا تقربوا موضع الصلاة مثل وسئل
القرية
قال حدثنا أبو جعفر قال وثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال
حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني معمر عن قتادة لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
قال فكانوا يتجنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخت في تحريم الخمر وقال
مجاهد نسخت بتحريم
الخمر
وممن قال إنها محكمة غير منسوخة الضحاك قال وأنتم سكارى من النوم
والقول الأول أولى لتواتر الآثار بصحته كما قريء على إبراهيم بن موسى
الجوزي عن يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن
السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال
دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت الصلاة فتقدم عبد الرحمن بن
عوف فقرأ قل يا أيها الكافرون فلبس عليه فنزلت يا أيها الذين ءامنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
قال أبو جعفر فهذا ليس من النوم في شيء مع التوقيف في نزول الآية
وقد عارض معارض فقال كيف يتعبد السكران بألا يقرب الصلاة في تلك
الحال وهو لا يفهم وهذا لا يلزم
وفيه جوابان أحدهما أنه تعبد ألا يسكر عند حضور الصلاة
والجواب الآخر وهو أصحهما أن السكران ههنا هو الذي لم يزل فهمه وإنما خدر
جسمه من الشرب وفهمه قائم فهو مأمور منهي فأما من لا يفهم فقد خرج إلى
الخبل وحال المجانين وهذا لم يزل مكروها في الجاهلية ثم زاده الإسلام
توكيدا كما روى عن عثمان رضي الله عنه قال ما سكرت في جاهلية ولا إسلام
ولا تغيبت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله قيل له
فالإسلام حجزك فما بال الجاهلية قال كرهت أن أكون لعبة لأهلي
فيكون المنسوخ من الآية التحريم في أوقات الصلاة وغيرها
والبين في الآية التاسعة أنها منسوخة
باب ذكر الآية التاسعة من هذه السورة
قال الله عز و جل إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم
حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم
فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم
عليهم سبيلا
أهل التأويل على أن هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال
قال أبو جعفر كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال
حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء الخراساني
عن ابن عباس في قوله عز و جل إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق
الآية قال نسختها براءة فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وحدثنا جعفر قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا عبيد الله قال حدثنا يزيد عن
سعيد عن قتادة إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قال نسحتها قال
ثم نسخ بعد ذلك فنبذ إلى كل ذي عهد عهده ثم أمر الله جل ثناؤه أن نقاتل
المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله فقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
قال أبو جعفر وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة
قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة فإن اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم قال نسختها براءة فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم
قال أبو جعفر هذا قول مجاهد وقال ابن زيد نسخها الجهاد
وزعم بعض أهل اللغة أن معنى إلا الذين يصلون يتصلون أى ينتمون إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق أي ينتسبون إليهم كما قال الأعشى ... إذا اتصلت قالت
أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
قال أبو جعفر وهذا غلط عظيم لأنه يذهب إلى أن الله عز و جل حظر أن يقاتل
أحد بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين
أنساب
وأشد من هذا الجهل الاحتجاج بأن ذلك كان ثم نسخ لأن أهل التأويل مجمعون
على أن الناسخ له براءة إنما نزلت براءة بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب
وإنما يؤتى هذا من الجهل بقول أهل التفسير
والاجتراء على كتاب الله تعالى وحمله على المعقول من غير علم
بأقوال المتقدمين
والتقدير على قول أهل التأويل فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم إلا
الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وأولئك القوم خزاعة صالحهم رسول
الله على أنهم لا يقاتلون فأعطاهم الأمان ومن وصل إليهم فدخل في الصلح
معهم كان حكمه حكمهم
أو جاءوكم حصرت صدورهم أي وإلا الذين جاؤكم حصرت صدورهم وهم بنو مدلج وبنو
خزيمة ضاقت صدورهم أن يقاتلوا المسلمين أو يقاتلوا قومهم بني مدلج وحصرت
خبر بعد خبر وقيل حذفت منه قد
فأما أن يكون دعاء فمخالف لقول أهل التأويل لأنه قد أمر ألا يقاتلوا فكيف
يدعي عليهم وقيل المعنى أو يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم
ثم قال جل وعز ولو شاء الله لسلطهم عليكم أى لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى
قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين جاءوكم حصرت
صدورهم أي فاشكروا نعمة الله عليكم واقبلوا أمره ولا تقاتلوهم
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم أي الصلح فما جعل الله لكم
عليهم سبيلا أي طريقا إلى قتلهم وسبي ذراريهم
ثم نسخ هذا كله كما قال أهل التأويل فنبذ إلى كل ذي عهد عهده فقيل لهم
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ثم ليس بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل لغير أهل
الكتاب
واختلف العلماء في الآية العاشرة فقالوا فيها خمسة أقوال
باب ذكر الآية العاشرة من هذه السورة
قال الله عز و جل ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله
عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
فمن العلماء من قال لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا وبعض من قال هذا قال
الآية التي في الفرقان منسوخة بالآية التي في النساء فهذا قول
ومن العلماء من قال له توبة لأن هذا مما لا يقع فيه ناسخ ولامنسوخ لأنه
خبر ووعيد
ومن العلماء من قال الله عز و جل متولي عقابه تاب أو لم يتب إن شاء عذبه
وإن شاء عفا عنه وإن شاء أدخله النار وأخرجه منها
ومن العلماء من قال المعنى فجزآوه جهنم إن جازاه
ومن العلماء من قال التقدير ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله فهذا
جزاؤه لأنه كافر
قال أبو جعفر فهذه خمسة أقوال
فالقول الأول أنه لا توبة للقاتل مروي عن زيد بن ثابت وابن
عباس كما قريء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثني الليث بن سعد قال أخبرني خالد وهو ابن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جهم بن أبي الجهم أن أبا الزناد أخبره أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أبيه زيد بن ثابت قال لما نزلت الآية التي أنزلت في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون عجبنا للينها فنزلت في النساء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه حتى فرغ
وقريء علي أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال
حدثنا يحيى قال ثنا ابن جريج قال أخبرني القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن
جبير قال سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا وقرأت
عليه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر فقال هذه
آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
قال أبو عبد الرحمن وأخبرنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عمار الذهني عن سالم
بن الجعد أن ابن عباس سئل عمن قتل مؤمنا متعمدا ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم
اهتدى فقال وأنآ له بالتوبة وقد سمعت نبيكم يقول يجيء متعلقا بالقاتل تشخب
أوداجه دما يقول أي رب سل هذا فيم قتلني ثم قال ابن عباس والله لقد أنزلها
الله عز و جل ثم ما نسخها
قال أبو عبد الرحمن وأخبرنا يحيى بن حكيم قال حدثنا ابن أبي عدي
قال حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله
قال لزوال الدنيا أهون على الله عز و جل من قتل رجل مسلم
قال أبو عبد الرحمن وأخبرني أحمد بن فضالة قال حدثني عبد الرزاق قال
أخبرنا معمر عن أيوب عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة قال سمعت رسول
الله يقول
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل
والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه
أراد أن يقتل صاحبه
قال أبو جعفر فهذه أحاديث صحاح يحتج بها أصحاب هذا القول مع ما روى عبد
الله بن مسعود عن النبي سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
وعنه لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ومن أعان على قتل مسلم
بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه يا آيس من رحمة الله
قال أبو جعفر والقول الثاني أن له توبة قال جماعة من العلماء منهم عبد
الله بن عمر وهو أيضا مروي عن زيد بن ثابت وابن عباس
كما قريء على بكر بن سهل عن عبدالله بن صالح قال حدثني معاوية
بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت عن نافع أو سالم أن رجلا سأل عبد الله بن
عمر فقال يا أبا عبد الرحمن كيف ترى في رجل قتل رجلا عمدا قال أنت قتلته
قال نعم قال تب إلى الله عز و جل يتب عليك
وحدثنا علي بن الحسين قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا يزيد بن هارون
قال أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال جاء رجل إلى ابن عباس
فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة قال لا إلا النار قال فلما ذهب قال له
جلساؤه أهكذا كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة قال إني لأحسبه رجلا
مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك
قال أبو جعفر وأصحاب هذا القول حججهم ظاهرة منها قول الله تعالى وإني
لغفار لمن تاب وءامن وهو الذي يقبل التوبة عن عباده
وقد بينا في أول هذا الكتاب أن الأخبار لا يقع فيها نسخ
وقد اختلف عن ابن عباس أيضا فروى عنه أنه قال نزلت في أهل الشرك يعني التي
في الفرقان وعنه نسختها التي في النساء فقال بعض العلماء معنى نسختها نزلت
بنسختها
قال أبو جعفر وليس يخلو أن تكون الآية التي في النساء نزلت بعد
التي في الفرقان كما روى عن زيد بن ثابت وابن عباس على أنه قد روى عن زيد
أن التي في الفرقان نزلت بعدها أو يكون هذا وتكون التي في الفرقان نزلت
بعدها أو يكونا نزلتا معا وليس ثم قسم رابع
فإن كانت التي في النساء بعد التي في الفرقان فهي مبينة لها كما أن قوله
عز و جل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة مبني على قوله جل وعز
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وإن كانت التي في الفرقان نزلت بعد التي في النساء فهي مبينة لها
فإن كانتا نزلتا معا فإحدهما محمولة على الأخرى وهذا باب من النظر إذا
تدبرته علمت أنه لا مدفع له مع ما يقوي ذلك من المحكم الذي لا تنازع فيه
وهو قوله عز و جل وإني لغفار لمن تاب وءامن
وأما القول الثالث أن أمره إلى الله تعالى تاب أو لم يتب فعليه الفقهاء
أبو حنيفة وأصحابه والشافعي أيضا يقول في كثير من هذا إلا بعفو الله عنه
أو معنى هذا
وأما القول الرابع وهو قول أبي مجلز أن المعنى إن جازاه فالغلط
فيه بين وقد قال الله عز و جل ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا فلم يقل أحد
معناه إن جازاهم وهذا خطأ في العربية لأن بعده وغضب الله عليه وهو محمول
على معنى جازاه
وأما القول الخامس أن المعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله فغلط لأن
من عام لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع فهذا القول يقال إنه قول عكرمة
لأنه ذكر أن الآية نزلت في رجل قتل مؤمنا متعمدا ثم ارتد
قال أبو جعفر فهذه عشر آيات قد ذكرناها في سورة النساء ورأيت
بعض المتأخرين قد ذكر آية سوى العشرة وهي قوله عز و جل وإذا ضربتم في
الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
قال أبو جعفر وإنما لم أفرد لها بابا لأنه لم يصح عندي أنها ناسخة ولا
منسوخة ولا ذكرها أحد من المتقدمين بشيء من ذينك فيذكر قوله وليس يخلو
أمرها من إحدى ثلاث جهات ليس في واحدة منهن نسخ
وذلك أن الذي قال هي منسوخة يحتج بأن الله عز و جل قال وإذا ضربتم في
الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين
كفروا قال فكان في هذا منع من قصر الصلاة إلا في الخوف ثم صح عن النبي أنه
قصر في غير الخوف آمن ما كان الناس في السفر فجعل فعل النبي ناسحا للآية
وهذا غلط بين لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن وإنما فيها إباحة
القصر في الخوف فقط
والجهات التي فيها عن العلماء المتقدمين منهن أن يكون معنى أن يقصروا من
الصلاة أن تقصروا من حدودها في حال الخوف وذلك ترك إقامة ركوعها وسجودها
وأداؤها كيف أمكن مستقبل القبلة ومستدبرها وماشيا وراكبا في حال الحرب وهي
حال الخوف كما قال عز و جل فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وهذا يروى عن ابن
عباس فهذا قول وهو اختيار محمد بن جرير واستدل على صحته
بأن بعده فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلات فإقامتها إتمام ركوعها
وسجودها وسائر فرائضها وترك إقامتها في غير الطمأنينة هو ترك إقامة هذه
الأشياء
ومن الجهات في تأويل الآية أن جماعة من الصحابة والتابعين قالوا قصر صلاة
الخوف أن تصلى ركعة واحدة لأن صلاة المسافر ركعتين ليس بقصر ثم أتمت صلاة
المقيم وأقرت صلاة المسافر بحالها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
وممن قال صلاة الخوف ركعة واحدة حذيفة وجابر بن عبد الله وسعيد
بن جبير وهو قول ابن عباس كما قريء على محمد بن جعفر بن حفص عن خلف بن
هشام المقريء قال حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخفش عن مجاهد عن ابن عباس
قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم للمقيم أربعا وللمسافر ركعتين وفي
الخوف ركعة
قال أبو جعفر وفي الآية قول ثالث عليه أكثر الفقهاء وذلك أن تكون صلاة
الخوف ركعتين مقصورة من أربع بكتاب الله عز و جل وصلاة السفر في الأمن
ركعتان مقصورة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بالقرآن ولا بنسخ
للقرآن
ويدلك على صحة هذا ما قرىء على يحيى بن أيوب عن ابن أبي مريم قال حدثنا
يحيى بن أيوب قال أخبرني ابن جريح أن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة
حدثه عن عبد الله بن بابية عن يعلى بن أمية أنه قال سألت عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قلت أرأيت قول الله عز و جل فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا النساء 101 فقد زال الخوف فما بال
القصر فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و
سلم قال هي صلاة تصدق الله بها عليكم فاقبلوها
قال أبو جعفر فلم يقل صلى الله عليه و سلم قد نسخ ذلك وإنما نسبه عليه
السلام إلى الرخصة فصح قول من قال قصر صلاة السفر بالسنة وقصر صلاة الخوف
بالقرآن ولا يقال منسوخ لما ثبت في التنزيل وصح فيه التأويل إلا بتوقيف أو
بدليل قاطع
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
اختلف العلماء في هذه السورة فمنهم من قال لم ينسخ منها شيء ومنهم من احتج
بأنها آخر سورة نزلت فلا يجوز أن يكون فيها يس منسوخ قال أبو جعفر كما
حدثنا جعفربن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال حدثنا عبيدالله قال
حدثنا عبدالرحمن بن مهدي قال حدثنا الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال
لم ينسخ من المائدة شيء وقرىء على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن الوليد بن
شجاع قال حدثنا عبدالله بن وهب قال أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية
عن جبير بن نضير قال حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت هل تقرأ
سورة المائدة قلت نعم قالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها حلالا
فآستحلوه وما وجدتم فيها حراما فحرموه
قال أبو جعفر ومما يحتج به في هذا الحديث عمر رضي الله عنه حين
قرأ اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي فقال له بعض اليهود لو نزلت
هذه علينا في يوم لاتخذناه عيدا قال عمر رضي الله عنه كان في اليوم الذي
نزلت فيه عيدان نزلت يوم الجمعة يوم عرفات يعني في حجة الوداع
قال أبو جعفر فأما البرآء فإنه قال آخر سورة نزلت برآءة وآخر آية نزلت
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وهذا ليس بمتناقض لأنهما جميعا من اخر
ما نزل
ولو لم يكن في المائدة منسوخ لاحتجنا إلى ذكرها لأن فيها ناسخاوهذا الكتاب
يشتمل على الناسخ والمنسوخ
على أن كثيرا من العلماء قد ذكروا فيها آيات منسوخة وقال بعضهم فيها آية
واحدة منسوخة قال كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال
حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال ليس فى المائدة
منسوخ إلا قوله عز و جل يا ايها الذين امنو لا تحلوا شعائر الله الآية قال
أبو جعفر وهذه الآية الأولى مما نذكره منها
باب ذكر الآية الأولى من هذه ا لسوره
قال الله عز و جل يا ايها الذين امنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر
الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا امين البيت الحرام
ذهب جماعة من العلماء إلى أن هذه الاحكام الخمسة منسوخة وذ هب بعضهم إلى
أن فيها منسوخا وذهب بعضهم إلى أنها محكمة
فممن ذهب إلى أنها منسوخة قتادة وروى ذلك عن ابن عباص حدثنا أحمد بن محمد
بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في
قول الله عز و جل يا ايها الذين امنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر
الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا امين البيت الحرام قال منسوخ كان الرجل
في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر فلا يعرض له أحد وإذا تقلد
قلادة شعر لم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمر الله عز
و جل أن لا يقاتل المشركون في الشهر الحرام ولا عند البيت ثم نسخها قوله
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قال أبو جعفر وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا
أبو صالح بن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال وقوله يا
ايها الذين امنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا
القلائد
ولا امين البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون الى البيت
جميعا فنهى أن يمنع أحد من الحج إلى البيت من مؤمن وكافر ثم أنزل الله عز
و جل بعد هذا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
وقال عز و جل ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله فنفى المشركين من
المسجد الحرام
وبهذا الإسناد لا تحلوا شعائر الله كان المشركون يعظمون أمر الحج ويهدون
الهدايا إلى البيت ويعظمون حرمته فأراد المسلمون ان يغيروا ذلك فأنزل الله
عز و جل يا أيها الذين امنوا لا تحلوا شعائر الله قال أبو جعفر فهذا على
تاويل النسخ في الأحكام الخمسة بإباحة قتال المشركين على كل حال ومنعهم من
المسجد الحرام
فأما مجاهد فقال لم ينسخ منها إلا القلائد كان الرجل يتقليد شيء من لحاء
الحرم فلايقرب فنسخ ذلك قال أبو جعفر وعلى مذهب أبي ميسرة أنها محكمة
وأما عطاء فقال لا تحلوا شعائر الله أي لا تتعرضوا ما يسخطه
وابتغوا طاعته واجتنبوا معاصيه فهذا لا نسخ فيه وهو قول حسن لأن واحد
الشعائر شعيرة من شعرت به أي علمت به فيكون المعنى لا تحلوا معالم الله
وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا يخالفوه
وقد روى عن ابن عباس الهدي ما لم يقلد وقد عزم صاحبه على أن يهديه
والقلائد ما قلد فأما الربيع بن أنس فتأول معنى ولا القلائد أنه لا يحل
لهم أن يأخذوا من شجر الحرم فيتقلدوه وهو ومعنى شاذ بعيد وقول أهل التاويل
إنهم نهوا أن يحلوا ما قلد فيأخذوه ويغصبوه
فمن قال هذا منسوخ فحجته بينة أن المشرك حلال الدم وإن تقلد من شجرالحرم
وهذا بين جدا
وفي هذه الآية مما ذكر أنه منسوخ قوله تعالى ولا يجرمكنم شنئان قوم أن
صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا قالا
عبدالرحمن بن زيد هذا كله منسوخ نسخه الجهاد
قال أبوجعفر ذهب ابن زيد إلى أنه لما جاز قتالهم لأنهم كفار جاز أن يعتدي
عليهم ويبدءوا بالققال وأما غيره من أهل التأويل أنها ليست منسوخة فممن
قال ذلك مجاهد واحتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم لعن الله من قتل بذحل
في الجاهلية وأهل التأويل وأكثرهم متفقون على أن يحملنكم إبغاض قوم لأن
صدوكم عن المسجد الحرام يوم الحديبية على أن تعقدوا لأن سورة المائدة نزلت
بعد يوم الحديبية فالبين على أن صدوكم بفتح الهمزة لأنه شيء قد تقدم
واختلف العلماء في الآية الثانية
باب ذكر الاية الثالية من هذه السورة
قال الله تبارك وتعالى اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم وطعامكم حل لهم فقالوا فيها ثلاثة أقوال منهم من قال أحل لنا طعام أهل
الكتاب وإن ذكروا عليه غير اسم الله عز و جل فكان هذا ناسخا لقوله جل وعز
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما اهل لغير الله به
وقال قوم ليس هذا ناسخا ولكنه مسثنى من ذلك
وقال آخرون ليس بنسخ ولا استثناء ولكن اذا ذكر أهل الكتاب غير اسم الله عز
و جل لم تؤكل ذبيحتهم فالقول الأول عن جماعة من العلماء كما قال عطاء كل
من ذبيحة النصراني وان قال باسم المسيح لأن الله عز و جل قد أحل ذبائحهم
وقد ما يقولون وقال القاسم بن مخيمرة كل من ذبيحته وإن قال باسم جرجس
وهو قول ربيعة والشعبي ويروى عن صحابيين أبي الدرداء وعبادة بن
الصامت
وأصحاب القول الثاني يقولون هذا استثناء وحلال أكله وأصحاب القول الثالث
يقولون إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تاكل
وقال بهذا من الصحابة علي بن أبي طالب وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم وهو
قول طاووس والحسن وقال مالك بن أنس أكره ذلك
ولم يحرمه
واختلفوا أيضا في ذبائح نصارى بني تغلب فاكثر العلماء يقول هم بمنزلة
النصارى تؤكل ذبائحهم وتتزوج المحصنات من نسائهم فممن قال هذا ابن عباس
بلا اختلاف عنه وقال آخرون لا تؤكل ذبائحهم ولا يتزوج فيهم لأنهم عرب
وإنما دخلوا في النصرانية
فممن روي عنه هذا علي بن أبي طالب كما قرىء على أحمد بن محمد بن الحجاج عن
يحيى بن سليمان قال حدثنا حفص بن غياث قال حدثنا أشعث بن عبدالملك عن
الحسن قال ما علمت أحدا من أصحاب محمدصلى الله علية وسلم حرم ذبائح بني
تغلب إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال أبو جعفر وهذا قول الشافعي رضي الله عنه وعارضه محمد بن
جرير بأن الحديث المروي عن علي بن أبي طالب الصحيح أنه قال لا تاكلوا
ذبائح بني تغلب ولا تتزوجوا فيهم لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب
الخمر قال فدل هذا أنهم لو كانوا على ملة النصارى في كل أمورهم لأكلت
ذبائحهم وتزوج فيهم
قال وقد قامت الحجة على أكل ذبائح النصارى والتزوج فيهم من النصارى
وقد احتج ابن عباس في ذلك فقال قال الله عز و جل ومن يتولهم منكم فإنه
منهم فلو لم يكن بنو تغلب من النصارى الا بتوليتهم إياهم لأكلت ذبيحتهم
فاما المجوس فالعلماء مجمعون إلآ من شذ منهم على أن ذبائحهم لا تؤكل ولا
يتزوج فيهم لأنهم ليسوا أهل كتاب وقد بين ذلك رسول الله في كتابه إلى كسرى
فلم يخاطبهم بأنهم أهل كتاب وخاطب
قيصر بغير ذلك فقال يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا
وبينكم والآية وقد عارض معارض بالحديث المروي عن عبدالرحمن بن عوف أنه قال
لعمربن الخطاب رضي الله عنه في المجوس سمعت رسول الله يقول أنزلوهم منزلة
أهل الكتاب
قال أبو جعفر وهذا الحديث لا حجة فيه من جهات إحداها أنه قد غلط في متنه
وأن اسناده غير متصل فلا يقوم حجة
وهذا الحديث حدثناه بكربن سهل قال حدثنا عبدلله بن يوسف قال حدثنا مالك عن
جعفربن محمد عن أبيه قال قال عمربن الخطاب رضي الله عنه ما أدري كيف أعمل
في أمر المجوس فشهد عنده عبدالرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله يقول سنوا
بهم سنة أهل الكتاب
قال أبو جعفر فالإسناد منقطع لأن محمدبن علي لم يولد فى وقت عمر وأما
المتن فيقال إنه على غير هذا كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا
أحمد بن بشر الكوفي قال سمعت سفيان بن
عيينة يقول عمرو بن دينار سمع بجالة يقول إن عمر رضي الله عنه
لم يكن أخذ من المجوس الجزية حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها
من مجوس هجر وهذا إسناد متصل صحيح
ولو صح الحديث الاول ما كان فيه دليل على أكل ذبائح المجوس ولا تزوج
نسائهم لأن قوله عليه السلام سنوا بهم سنة أهل الكتاب يدل على أنهم ليسوا
من أهل الكتاب وأيضا فإنما نقل الحديث على أنه في الجزية خاصة وأيضا فسنوا
بهم ليس من الذبائح في شيء لأنه لم يقل استنوا أنتم في أمرهم بشيء
فاما الاحتجاج بان حذيفة تزوج مجوسية فغلط والصحيح أنه تزوج يهودية
وفي هذه الاية والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم وقد ذكرناه في
قوله عز و جل ولا تنكحوا المشركات وقول من قال ان هذه الاية ناسخة لتلك لا
واختلفوا في الآية الثالثة فقالوا فيها سبعة أقوال
باب ذكر الاية الثالثة من هذه السورة
قال الله عز و جل يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وايديكم إلى المرافق المائدة 6 الآية فيها سبعة أقوال فمن العلماء
من قال هي ناسخة لقوله عزوجل لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى النساء 43
ومنهم من قال هي ناسخة لما كانوا عليه لأن النبي الله كان إذا أحدث لم
يكلم أحدا حتى يتوضا وضوءه للصلاة فنسخ هذا وأمر بالطهارة عند القيام الى
الصلاة
ومنهم من قال هي منسوخة لأنه لولم ينسخ لوجب على كل قائم الى الصلاة
الطهارة وإن كان متطهرا والناسخ لها فعل النبي وسنذكره بإسناده
ومن العلماء من قال يجب على كل من قام إلى الصلاة أن يتوضا للصلاة بظاهر
الآية وإن كان طاهرا فهذا قول عكرمة وابن سيرين واحتج عكرمة بعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه كما حدثنا أحمدبن محمد الأزدى قال حدثنا إبراهيم بن
مرزوق قال حدثنا بشر بن عمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق